على مدى السنوات الثلاث الأخيرة عانت أرمينيا من سلسلة من الهزائم المؤلمة والمصيرية على يد أذربيجان، ومع ذلك يظل الزعيم الذي أشرف على كل هذه الهزائم، رئيس الوزراء نيكول باشينيان، في السلطة، دون أي خطر حقيقي على حكمه.
وفي هذا الإطار، سلطت "إذاعة أوروبا الحرة"، الضوء على الأسباب التي جعلت "باشينيان" يستمر بقوة في حكم أرمينيا رغم الهزائم العسكرية المتلاحقة.
ونقلت الإذاعة عن ميكائيل زوليان، المحلل الأرميني، البرلماني السابق عن حزب "العقد المدني" الحاكم، قوله: "لقد نجا باشينيان من أشياء لا يستطيع أي سياسي عادة النجاة منها".
ويشمل ذلك: خسارة أرمينيا الفادحة أمام أذربيجان في حرب "قره باغ" الثانية عام 2020؛ واعتراف باشينيان اللاحق بإقليم "قره باغ" أرضا أذربيجانية؛ وأخيرا استعادة الجيش الأذربيجاني للإقليم، في سبتمبر/ أيلول 2023.
وقال زوليان: "كان ينبغي أن يسقط باشينيان عند وقوع حدث واحد منها فقط".
وتابع: "غير أن هذا لم يحدث، فالاحتجاجات المناهضة للحكومة التي اجتذبت عدة آلاف إلى ساحة الجمهورية في يريفان خلال الهجوم الأذربيجاني الأخير، تلاشت سريعا".
وعلى الرغم من بقاء باشينيان، إلا أن موقفه ضعف بشدة مقارنة بعام 2018، الذي قاد فيه احتجاجات ضخمة في الشوارع تمكنت من الإطاحة بالنظام الاستبدادي السابق، الذي كان راسخا لفترة طويلة، فيما أصبح يعرف بـ"الثورة المخملية".
وأشارت "إذاعة أوروبا الحرة" إلى أن "احتمال إنشاء أرمينيا ديمقراطية جديدة، جعله يحظى بشعبية كبيرة في الداخل وعلى المستوى الدولي، حتى إن أرمينيا حصلت على جائزة مجلة الإيكونوميست لعام 2018".
"لكن مع مرور الوقت، خبا نجم باشينيان، بعد أن أظهر ميوله الاستبدادية، حيث سعى إلى ملء المحاكم بقضاة مخلصين له، فضلا عن التضييق على منتقديه"، حسب الإذاعة.
ومع ذلك، كانت الحروب الكارثية في عام 2020 وما بعده هي التي قتلت أحلام عام 2018، وفق الإذاعة.
وأفادت الإذاعة بأن "المعارضة حاولت إطلاق العديد من الحركات الاحتجاجية المتعلقة بحرب "قره باغ" منذ عام 2020، لكن لم يكتسب أي منها زخما".
ويقول محللون وزعماء سياسيون إن الاحتجاجات الأخيرة تلاشت لأسباب متعددة، أحدها أنه في الأيام التي تلت الهجوم الأذربيجاني، فر السكان الأرمن من "قره باغ" بشكل جماعي إلى أرمينيا.
ولذلك، تحول اهتمام العديد من الأرمن من السياسة إلى إطعام وإسكان ورعاية أكثر من 100 ألف لاجئ.
بدورها، قالت أستاذة العلاقات الدولية في جامعة ولاية يريفان، مينوا سوغومونيان، إن بعد خسارتنا لحرب 2020 "أصبنا بالصدمة".
وتابعت: "لكن منذ ذلك الحين، تعرض الأرمن لسيل مستمر من الهزائم، لأنهم لم يتمكنوا من الصمود أمام الضغط الأذربيجاني المستمر".
وأضافت: "لقد صدمنا بالفعل، ولكن بعد ذلك بدأنا نعتاد تدريجيا على كل هذه الهزائم".
وأفادت إذاعة أوروبا الحرة بأنه "في النهاية، ثبت أن قضية إقليم "قره باغ" بالنسبة للأرمن، ليست بالقوة التي توقعها كثيرون، إذا ما أخذنا في الحسبان دورها المركزي في المخيلة السياسية الأرمنية".
ففي خطاب للأمة ألقاه باشينيان عام 2020، قال: "لا توجد أرمينيا بدون قره باغ"، وهي عبارة شائعة في الخطاب الأرمني، وفق الإذاعة.
ولكن تحت السطح، كان الأرمن يحسبون مدى أهمية السيطرة على المنطقة بالنسبة لهم، حسب الإذاعة الأوروبية.
ووفق زوليان، فإن "قره باغ مهمة للناس، لكنها ربما تكون أكثر أهمية بالنسبة لأولئك الذين يحظون بنوع معين من الامتيازات، والذين يعيشون في العاصمة ويحصلون على رواتب جيدة، وربما لن يقاتلوا إذا اندلعت حرب".
لكن بالنسبة للعديد من الأرمن الريفيين الفقراء –الذين يشكلون قاعدة دعم باشينيان– فإن قره باغ "مجرد واحدة من العديد من القضايا، ولديهم مشاكل أكثر إلحاحا"، كما قال زوليان.
من جانبه، يعتقد الصحفي، يوري مانفيليان، أن "سوء أوضاع الجيش -حيث انتشار الفساد وسوء المعاملة- أضعفت إصرار العديد من الأرمن على الحفاظ على "قره باغ".
وأضاف أن المزيد من الناس يسعون إلى التهرب من التجنيد، حيث تنتشر الرشاوى لتجنب الخدمة الإلزامية.
وأردف: "إذا وضعت ميكروفونا أمام الناس، فسيقولون إن [قره باغ] قضية وجودية". ولكن عندما يتعلق الأمر بالدفاع عنه عسكريا، فسيقولون: ماذا علينا أن نفعل؟ هل يجب أن نقاتل؟ ثم من سيقاتل؟ يجب أن يذهب ابن أحدهم للقتال، وليس ابني".
وأفادت الإذاعة بأن المعارضة تسعى لجعل اعتراف أي مسؤول أرميني بـ"قره باغ" جزءا من أذربيجان أمرا غير قانوني.
وأخيرا، توصل منظمو حركة "سوغومونيان" المدنية المعارضة إلى هدفهم المتمثل في الحصول على 50 ألف توقيع، وهو ما يعني، وفقا للدستور الأرميني، أن يتولى البرلمان هذه القضية.
لكن هناك فرصة ضئيلة لأن يعترض البرلمان على الاعتراف بـ"قره باغ" جزءا من أذربيجان، بسبب سيطرة حزب باشينيان عليه، وفق الإذاعة.
فيما تقول أحزاب المعارضة إنها تخطط لاحتجاجات مستقبلية.
وكما أشار هايك ماميجانيان، عضو البرلمان في الحزب الجمهوري الأرميني– الحزب الحاكم السابق والذي لايزال أكبر قوة معارضة في البلاد، فإنهم سيحاولون إجبار باشينيان على التنحي قبل الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها عام 2025.
وبينما يقر بأنه لا توجد فرصة لإجبار باشينيان على التنحي طواعية، حتى في مواجهة معارضة واسعة النطاق، فإن ماميجانيان يرى أن مزيجا من احتجاجات الشوارع، والضغط البرلماني يمكن أن ينجح.
وأضاف أنهم إذا تمكنوا من إقناع "18 أو 19" من أعضاء الحزب الحاكم بالموافقة، فيمكنهم عزل باشينيان.
لكن أكدت "إذاعة أوروبا الحرة" على أنها معركة شاقة، حيث يرى المحللون أن المشكلة الأكبر هي أن المعارضة السياسية الحالية تقودها شخصيات مرتبطة بالنظام السابق الذي أطاح به باشينيان في الثورة المخملية.
وفي حين أن باشينيان لا يحظى بشعبية كبيرة، وفق الإذاعة، فإن هذه الشخصيات أقل شعبية منه، بعد بقائهم في السلطة لعقدين من الفساد والاستبداد.
وعندما سُئل الأرمن في استطلاع للرأي أجراه "المعهد الجمهوري الدولي" الأميركي، في الربع الأول من عام 2023، عن الشخصية السياسية التي يثقون بها أكثر من غيرها، جاء باشينيان في المقدمة ولكن بنسبة ضئيلة بلغت 13 بالمئة.
وكان ثاني أكثر الشخصيات "شعبية" في الاستطلاع، والأعلى مرتبة في جانب المعارضة، هو الرئيس السابق روبرت كوتشاريان، الذي حصل على 2 بالمئة، بينما قال 64 بالمئة إنهم لا يثقون بأحد".
وعندما سئلوا عمن سيصوتون إذا أجريت الانتخابات الآن، قال 21 بالمئة إنهم سيصوتون لحزب "العقد المدني" الحاكم حاليا.
وفي المقابل سيصوت 4 بالمئة منهم لصالح "تحالف أرمينيا"، وهو أكبر كتلة معارضة في البرلمان حاليا (ويضم الجمهوريين).
وحسب الإذاعة، فإن المنتقدين يرون أن زعماء المعارضة لم يطرحوا أي رؤية ملموسة لكيفية انتشال أرمينيا من حالتها المزرية.
ويعترف "ماميجانيان" بأن المعارضة تستحق قدرا كبيرا من اللوم على فشل جهود الإطاحة باشينيان، قائلا: "لم ندخل إلى قلوب وعقول بعض مواطنينا، وربما لم نشرح أفكارنا بطريقة يفهمها المجتمع".
وأضاف أن "الهزائم العسكرية المتكررة كانت سببا كذلك، حيث تسببت في يأس المجتمع وصدمته واكتئابه".
وأوضحت إذاعة أوروبا الحرة أيضا أن "الشرطة الأرمينية قمعت بشدة تظاهرات سبتمبر/أيلول 2023، باستخدام القنابل الصوتية واعتقلت عشرات المتظاهرين، ولايزال بعضهم رهن الاعتقال".
وتشكو الشخصيات المنتقدة للحكومة من أن رغبة المجتمع الدولي في تحقيق اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان قد شجعت باشينيان.
وأضاف ماميجانيان: "تقريبا كل الجهات الجيوسياسية المهمة في منطقتنا تريد توقيع معاهدة سلام مع أذربيجان، ما يمنح باشينيان الحافز لمواصلة هذه العملية".
وتابع: "إن ذلك يمنحه أيضا الحافز لاتخاذ إجراءات في غاية القسوة ضد المعارضة"، مؤكدا أن "باشينيان يشعر بثقة كبيرة".
1 |
Even After Multiple Defeats, Pashinyan Remains Armenia’s Teflon Prime Minister |
---|