أهم يقسمون رحمة ربك؟!.. رحمات الله على السبسي

12

طباعة

مشاركة

كتب الشيخ يوسف القرضاوي في مذكراته "ابن القرية والكتاب: ملامح سيرة ومسيرة" أنه حين علم بوفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر، قال "كلنا من هذه الكأس شاربون، وإلى هذا المصير ذاهبون". وكان الشيخ القرضاوي في قطر، وأقامت الجالية المصرية، وبعض القطريين سرادق عزاء للرئيس المصري الراحل. وبدوره آثر أن يشارك الدكتور يوسف حينها في العزاء -برغم ما ناله من جحيم سجون عبدالناصر- وهو الأمر الذي سطره الرجل نفسه في نونيته الشهيرة التي كتبها في سجنه.

ولسنا بصدد مقارنة الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي بعبدالناصر، فلا مجال للمقارنة أصلا، ولا حالة مصر بتونس، ولكن ما دعاني لطرح فكرة هذا المقال، والاستهلال بهذه المقدمة هو ما لاحظته من لغة قطاع من الصف الإسلامي في مصر بشكل خاص في التعاطي مع حدث وفاة رئيس تونس الباجي قايد السبسي. فلم أكن أتوقع أن نكتب بعد كل ما عانيناه ونعانيه بسبب حمى التصنيفات، والانشقاقات، عن جدلية "جواز الترحم" على إنسان رحل، وكنت أظنها مسألة من البديهيات، بخاصة أننا كنا نتحدث قبل أيام قليلة عن وفاة الرئيس محمد مرسي (رحمه الله)، وعن مدى تدّني إعلام النظام المصري، ومؤسسات الدولة، وبعض التيارات، في التعامل مع حدث وفاته، وعدم تقديره، ولا تقديم العزاء فيه.

واليوم ندخل في خلافات حول شرعية "الترحم والدعاء" لرئيس تونس المنتخب، الذي جاء بانتخابات حرة نزيهة، أجمع عليها الخصوم قبل الحلفاء، وبنسبة 55.68 بالمئة انتخبه الشعب التونسي، واختاروه رئيسا لجمهوريتهم أمام المنصف المرزوقي، وللمفارقة فقد تقدم الرئيس السابق المنصف موكب العزاء، كما تقدمه رموز وقادة حركة النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوشي، وضربوا مثالا رائعا في خلق حالة تعايش واحترام للقيم، ولحرمة الموت وقدسيته.

ومن باب تكرار المكرر، والتذكير بما هو معروف، أن من خرج في الثورة التونسية، ومن بعدها ثورة مصر، وكل ثورات الربيع العربي كان يهدف لإرساء حق شعوبنا في اختيار حكامهم ورؤسائهم وتمكينهم من ذلك. أما وقد اختارت تونس رئيسا بالآلية التي ارتضاها شعبها، فلا يجب على أي متبنٍ للثورة منتمٍ لها إلا أن يحترم خيار الناس، حتى إن اختاروا غيره أو غير من يشبههم في الأفكار والتوجهات.

فقد شاهدنا كيف سرقت أصواتنا وتجربتنا في مصر على نهر من الدماء بيد الجنرالات من القادة العسكريين، ورأينا كيف تجنبت تونس ذلك المصير المؤلم، وأن الرئيس المدني المنتخب ديمقراطيا والذي لم تتلطخ يده بالدماء، ولم يتلطخ تاريخه بسحق صناديق الاقتراع بالدبابات، فهذا الرئيس في جميع حالاته وأشكاله، أفضل من العسكري الذي لم يعرف للديمقراطية طريقا أو لإرادة الشعب الحرة مسلكا.

ولو بحثنا في سيرة رسول الله لوجدنا كثيرا مما يستدل به على حرص النبي المعصوم (صلى الله عليه وسلم) على السلم الأهلي في المجتمع وتجنب ما يمزقه من داخله، ومن أمثلة ذلك هو أنه برغم أن الله تعالى أطلع نبيه على أسماء المنافقين في المدينة، الذين يكيدون لله ورسوله، ولكن رسول الله اختص بها الصحابي حذيفة بن اليمان (أمين سر رسول الله) الذي احتفظ بالأسماء، ورفض أن يصرح بها للفاروق عمر، وكان النبي قادرا على إذاعتها، وفضحهم على رؤوس الأشهاد، والله أعلم بمراد نبيه، ولكن المحافظة على سلم المجتمع، والوحدة، والتراحم فيما بين الناس كانت أولى عند النبي، الذي قال: "لن تؤمنوا حتى تراحموا.. قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم.. قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة".

فها قد فعل ذلك نبي الله المعصوم مع من أخبره ربه -عبر الوحي- بنفاقهم، فما بال أقوام - لم يتنزل عليهم وحي لإخبارهم عمن يقبله الله ومن يخذله، ولم يضمنوا لأنفسهم ولا لغيرهم موطئ قدم في الجنة، فما بالهم يرفضون أن يتخلقوا بخلق رسول الله عند مقام الموت.

وفي سياق ذي صلة، نتذكر أيضا موقفا آخر لرسول الله عله غاب عن البعض، أنه حين فتح (صلى الله عليه وسلم) مكة المكرمة، كان قد فرّ "عكرمة بن أبي جهل" بعد تاريخ طويل من إيذاء الصحابة والمسلمين، أعطاه رسول الله الأمان وطلب عودته، فلما رجع أوصى النبي أصحابه قائلا: "يَأْتِيَكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ" ثم تلقاه رسول الله فرحا مستبشرا بقدومه، وهو ما دعاه إلى الإسلام، وقد حسن إسلامه، بل لقي ربه شهيدا في موقعة اليرموك الخالدة. فإذا كان رسول الله قد نهى عن سب رجل من جحافل الكافرين بعد موته، فما بال أقوام يتطوعون لسب و شتم وتجريح رجل مات على إسلامه !! فبأي منطق يفكرون، و من أي منطلق ينطلقون !!

لا أعلم ولا أتفهم في الحقيقة لماذا ينزلق البعض- متطوعا- في السعي لعمل استقطاب داخل الحالة التونسية التي اختار أصحابها الوحدة والانصهار في بوتقة واحدة، وقد شيعوا رئيسهم في موكب مهيب، بينما اختلفنا نحن في أمره؟!!

ولا أتحدث هنا بشأن رأي البعض ومسلكهم، في مقابل ورأي ومسلك التونسيون أنفسهم من منطلق "القومية الضيقة" الذميم، ولكن أتحدث بحديث "أهل مكة أدرى بشعابها"، وأهل تونس أدرى بواقعهم، وعلماء تونس ورجالها تجاوزوا ذلك الأمر، ولم يقفوا عليه.

ونحتاج أن نقول: إن الخلاف بين الخلق هو سنة من سنن الله تعالى، الذي قال في محكم كتابه "ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"، والرجل مالم يصب دما حراما، أو يستبد بالأمر، فهو لا يزال في فسحة من دينه.

والسبسي في النهاية رجل "أفضى إلى ما قدم"، ولم يكن معصوما من الخطأ -كما نحن لسنا معصومين- ولسنا بصدد استعراض مآثره، أو تقييم أخطائه، ولكن علينا الاعتراف أنه كان بمثابة حائط صد ضد انهيار المكتسبات الديمقراطية للتجربة التونسية الوليدة بعد الثورة، وإغراقها في مستنقع الدم. صحيح أننا لم نقل أنه ابن الثورة، لكن الرجل التزم بالإطار الديمقراطي الذي انتجته الثورة، فضلا عن أنه لم يقبل تعويق الانتقال الديمقراطي، وقد رفض الرجل في ذلك الإطار اغراءات وعروضا متعددة من قبل محور الثورات المضادة.

ولا يفوتنا أن نتساءل: ألم يكن مسعانا هو تمكين الناس من اختيار من يحكمهم بحرية؟ ألم يكن مراد خصوم ثورتنا هو منع الناس -قهرا- من ممارسة هذا الحق؟ فحري بنا أن نكون أول المحترمين لخيار الناس، حتى وإن لم يخترنا الناس، أو لم ينحازوا لما نطرحه.

رحم الله الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وتحية إلى شعب تونس العظيم، الذي ضرب -مجددا- أروع الأمثلة في التلاحم والتعايش. وكم نحتاج أن ننشر مواطن الاتفاق، ونتجاوز الحوادث والصغائر، التي تخصم من رصيد الوحدة والترابط -بلا داعٍ ولا مبرر- وتتسبب في مزيد من الشروخ والانقسامات، وأن نعلي قيمة الرحمة والتراحم التي أوصانا بها نبينا الكريم الذي قال فيه ربه: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).