للأصولية صور أخرى

أحمد ماهر | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

قد تكون أول صورة تتراءى للمرء عندما يسمع مصطلح السلفية أو الأصولية أن يتخيل أن المقصود بذلك هو الشخص الملتحي الذي يقصّر الجلباب، أو ذلك المتزمت الرجعي الحاد الذي يرفض الحوار والنقاش، ولكن ببعض من الملاحظة يمكن أن نجد أن هناك صورا أخرى عديدة للفكر السلفي أو الأصولي غير الصورة المعتادة أو الدارجة.

فالأصولية يمكن تعريفها بأنها الميل للعودة لأصل الشيء؛ صحيح أن المصطلح يتم استخدامه منذ زمن لوصف العودة للأصول الدينية، ويظهر بشكل كبير عند وجود اختلاف كبير بين الفرق الدينية بشكل عام، وفي العصر الحديث ظهرت الأصولية "السلفية" للرد على ما تم اعتباره بدعا وتحريفا لأصول الدين، حيث اتباع نهج السلف الصالح بدون إضافات أو اجتهادات تصل لحد البدع، ولكن ليست الأصولية هي السلفية فقط، فللأصولية صور أخرى.

والحنين للماضي موجود دائما خصوصا عندما يكون الواقع مؤسفا، هذه الأيام مثلا كثيرا ما نسمع في مصر عبارات مثل زمن الفن الجميل أو العصر الذهبي الجميل، عندما يحن البعض منا إلى بدايات القرن العشرين، عندما كانت الموسيقى جميلة والشوارع نظيفة والعمارة رائعة وكان الناس يتعاملون بذوق وود بدون ذلك التعصب والعصبية والصياح والصراخ الذي أصبح يسود مصر الآن.

لكن لو رجعنا بآلة الزمن إلى الوراء ستجد كثيرين هناك أيضا ناقمين على معيشتهم وفي حنين دائم للزمن الجميل والعصر الذهبي في القرن الـ١٩ والـ١٨ عندما كانت الحياة أهدأ وأبسط، ولكن رغم جمال الحياة في بدايات القرن العشرين والفترة شبه الليبرالية في مصر إلا أن الصورة لم تكن وردية كذاك، فقد كان هناك فقر وطبقية واحتلال أجنبي، وفي القرن الـ١٩ وما قبله كانت هناك مشاكل مماثلة، وفي كثير من الأحيان يكون هناك ذلك الحنين للماضي بدرجة ما، فدائما عندما يتأزم الحاضر يلجأ البعض إلى رسم صورة مثالية أو خيالية للماضي الجميل عندما كان يسود العدل والمساواة، أو عند تكرار المزاعم بأننا كنّا أسياد العالم.

هذا ينطبق كذاك علي الواقع السياسي، فهناك التيار الإسلامي الأصولي بتصنيفاته المختلفة الذي يري أن الحل في العودة للماضي والعيش معيشتهم وتطبيق أحكامهم وطريقة معالجتهم للأمور على عصرنا الحالي، مهما كانت تلك الأحكام متشددة، ومهما كانت لا تتناسب مع عصرنا أو المستجدات والظروف المحيطة، رغم أن أهل الماضي كانت لهم معيشة مختلفة وعادات مختلفة وظروف مختلفة، وكأن هذا الماضي لم يكن بلا أخطاء، أو لم يكن مليئا بالصراع الدموي على السلطة والملك منذ البدايات، وهناك أنواع وصور أخرى من الأصوليات غير الدينية. 

ليس الإسلاميون فقط هم من يمكن أن يطلق عليهم لفظ أصوليين، فكما هناك أصولية دينية هناك أيضا أصولية علمانية، وهي لا تختلف كثيرا في مستوي السلفية والتشدد عن الأصولية الدينية، والعلمانية الأصولية تتخذ منحى معادٍ للأديان بشكل متشدد مما يتسبب في النفور من تلك الكلمة وجعلها مرادفا للإلحاد عند قطاعات عريضة خاصة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، علمانية أصولية تكون أكثر ميلا لنموذج الثورة الفرنسية وربما أكثر حدة منها في معاداة الأديان، وهذا العداء العنيف للأديان واعتبارها سبب كل البلاء لا يختلف عن الأصولية الدينية أو الفكر التكفيري المتشدد الذي يرفض وجود الآخر.

الأصولية الدينية كانت ولا تزال محركا رئيسيا لكثير من الحروب والمجازر في العالم كله، حتى الآن هناك تيارات يمينية مسيحية يمكن وصفها بالأصولية، تعادي العرب والمسلمين وكل ما يعتقد أنه تهديد للهوية الأوروبية المسيحية، والرهبان البوذيين في ميانمار يلقون خطبا حماسية تخاطب العاطفة والحس الديني أمام جموع الجماهير المتدينة والمتطرفة يحرضونهم ضد المسلمين الروهينجا.

شاهدت فيديو لأحد الرهبان يخطب بحماس شديد أمام عشرات الآلاف من البوذيين قائلا لهم: إن "العالم كله يهاجمنا ويهاجم البوذية ويزعمون أننا متوحشون، ولكننا غير متوحشين، إننا ندافع عن أنفسنا وندافع عن ديننا وندافع عن وطننا، المسلمون هم الذين يريدون قتلنا وطردنا من ديارنا، وهؤلاء السياسيون الليبراليون الذين يتحدثون عن التعايش وحقوق الإنسان هُم خونة لدينهم ووطنهم، أي تعايش وحقوق إنسان لهؤلاء المسلمون الذين يريدون غزو بلادنا ويسعون لتغيير ديننا وهويتنا وثقافتنا؟".

أيضا هناك نموذج بارز وفجّ للأصوليات الحديثة التي هي خارج الأصوليات الدينية، يطلق عليها أحيانا مصطلح "الأصولية السلطوية" أو "الأصولية القومية" إن صح التعبير، فهناك تيار يريد العودة بِنَا لماضي الخمسينيات والستينيات وفترة المد القومي والحرب الباردة، يعتبر أن تلك الفترة هي جنة الله في الأرض عندما كانت تسود مشاعر القومية والتحرر في ظل توازن دولي ونسق ثنائي بين المعسكرين.

ولكنه أيضا تيار يعتمد بالأساس في أدبياته على تخوين الآخر والمختلف في الأفكار، وهو تخوين لا يقل قبحا عن التكفير وكثيرا ما يؤدي إلى نفس النتيجة من إهدار دم المختلف واستخدام العنف ضده. ويرى ذلك التيار أنه لا مشكلة كبيرة في القمع والاستبداد المصاحب للنظام السلطوي، فذلك القمع ضروري لترسيخ التجربة الثورية وسط المؤامرات الغربية، كما أن حقوق الإنسان هي الحقوق الجماعية وحقوق الدولة وليست الحقوق الفردية، ولذلك كانت هناك الكثير من التجارب المريرة والمظالم عندما كانت تلك التيارات الأصولية/ السلطوية/القومية في السلطة، وهناك الآن الكثير من التخوين والمزايدات على الجميع واحتكار للوطنية عندما يكون هذا التيار خارج السلطة.

عندما أقرأ كتابات بعض القوميين العرب الذين لا يزالون يصرون على استخدام نظرية المؤامرة الغربية على تفسير استفتاء كردستان رغم وضوح الرفض الأمريكي والروسي والتركي والإيراني لمسألة الانفصال، فالاستفتاء الذي حدث ونوايا الأكراد في الانفصال متعارضة مع مصالح كل الأطراف الرئيسية اللاعبة في الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة لا تريد خسارة الحليف التركي المتضرر من إقامة دولة كردية، وروسيا كذلك لا تريد الضرر لإيران أو بشار بسبب احتمالية انتشار عدوى استقلال الأكراد.

ورغم ذلك تجد القوميين العرب والناصريين يستخدمون نظرية المؤامرة الغربية لتفسير كل الظواهر الكونية، مثل خرافات تقسيم المقسم وخرافات سايكس بيكو الجديدة، في الوقت نفسه الذي يتباكون فيه على سايكس بيكو القديمة ويرفضون أي مساس بالحدود التي صنعتها الحرب العالمية الأولى، ويحاربون حق تقرير المصير لأمة غير عربية فقط لأنها غير عربية.

إنها العقلية القومية الأصولية التي ترغب في العيش دائما في أجواء الحرب الباردة، ولا ترى مشكلة في إعادة خلق صنم جديد يحكم الناس بالحديد والنار ويخدعهم تحت شعارات براقة مثل التحرر ومقاومة الغرب المتآمر، أو تحت شعارات المقاومة والممانعة، فقديما كان ناصر، وعندما مات صنعوا صنما لصدام والقذافي والأسد، وها هم الآن يصنعون صنما للسيسي أو بشار وخامنئي.

وعودة للفكرة الرئيسية حول الأصوليات الثلاث (الدينية والعلمانية والقومية العسكرية)، يمكن القول إنه رغم الخلاف الظاهر والصراع التاريخي إلا أن هناك الكثير من المشتركات، فالأصولي الديني يرى أن إنقاذ البشرية في اختفاء الآخر من الوجود، سواء كان بالقتل أو الاعتقال أو التهجير أو الإقصاء أو التهميش، شاهدنا ذلك في تجارب الجماعات الجهادية التي حكمت في أفغانستان أو العراق وسوريا، وشاهدنا ذلك في أفعال الرهبان المتعصبين ضد مسلمي الروهينجا.

ولا تختلف الأصولية العلمانية كثيرا عن ذلك، فهناك أيضا من يرى أن مشكلة الكرة الأرضية في المؤمنين وتحديدا المسلمين منهم، ولذلك لا غضاضة في الطرد والتهجير والحبس، فهم قوم لن تجدي معهم الديمقراطية ولا يتوافقون معها، وهي أفكار أدت إلى قمع الشعوب المسلمة في الاتحاد السوفيتي في النصف الأول من القرن العشرين، وهي الأفكار التي تظهر هذه الأيام في كتابات وأحاديث البعض التي تبرر قمع وطرد وإقصاء الأقليات المسلمة أو المهاجرين.

ورغم الصراع التاريخي في الوطن العربي بين القوميين العرب والإسلاميين، إلا أن هناك نقطة مشتركة أخرى غير التكفير والإقصاء، ألا وهي الاعتماد على نظرية المؤامرة في تفسير الأشياء، فتقريبا يمكن القول إن كل التنظيمات الأصولية الإسلامية تعتمد على قصة تآمر الغرب الصليبي ضد الإسلام، وكراهية الغرب الصليبي للمسلمين، واستمرار الحروب الصليبية ضد المسلمين، وكذلك يعتمد خطاب الأصولية القومية والأصولية السلطوية على نظرية المؤامرة الغربية لإفشال العرب.

وربما لا يخلو العالم من التآمر والتآمر المضاد على مر التاريخ والعصور، ولكن إلقاء فشلنا وتخلفنا كأمة عربية أو كأمة إسلامية على نظرية المؤامرة فقط هو عين الفشل وقمة الهروب من الواقع، فهناك أسباب داخلية وصراعات تاريخية ساعدت على نجاح مؤامرات الآخرين، لولاها لما كان هذا حالنا.