تهجير وتهميش.. هل يسعى نظام السيسي إلى حل أزمة "النوبة"؟

عبدالرحمن سليم | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

معاناة طويلة امتدت لأكثر من قرن من الزمن، عاشتها "أرض الذهب" التي هجّر أهلها مرارا تاركين أرضهم وبيوتهم وذكرياتهم، إلى أرض مقفرة موغلة بالقحط بعدما كانوا ينعمون على ضفاف نهر النيل وسط أراضيهم الزراعية التي يصفها أهلها بـ"الفردوس على الأرض".

أقرّت السلطة الحالية في مصر بضرورة تعويض أهالي "النوبة" بعد حصولهم على وعود لم تنفذ من السلطات المصرية المتعاقبة عبر 120 عاما، تلك الوعود التي ذهبت أدراج الرياح، لكن ما يريد نظام السيسي القيام به يتمثل في تعويضات مادية لأهالي المتضررين من بناء السد العالي، ومثلها لمتضرري بناء وتعلية خزان أسوان.

هل ينصفهم السيسي؟

للوهلة الأولى يبدو أن ما يقوم نظام السيسي هو إرجاع الحقوق إلى أهالي "النوبة" الذين تعرضوا للتهميش سنين طويلة، لكن يبدو أن تلك المحاولة تمثل انحرافا عما اتفق عليه مع النوبيين.

نشرت صحيفة "اليوم السابع" المصرية، في 27 يونيو/ حزيران الماضي، أسماء المستحقين لتعويضات أهالي النوبة والبالغ عددهم 11 ألفا و716 مستحقا، بعد أن شكلت لجان لتلقي رغبات مستحقي التعويضات، والتي بدأت أعمالها في 25 يونيو/ حزيران الماضي، وتستمر لثلاثة أسابيع، شملت تلقي رغبات متضرري بناء وتعلية خزان أسوان بتقنين الأراضي المقامة عليها مساكنهم بعد التهجير وتمليكها لهم مجانا، وبلغ إجمالي هؤلاء المستحقين 3851 مستحقا موزعين على 15 منطقة بمدينة أسوان.

أما بالنسبة للمستحقين من متضرري بناء السد العالي والذين تم تهجيرهم أواسط ستينيات القرن الماضي، فمنهم من سيحصل على تعويضات سكنية بإجمالي 3107 مستحقين حسب رغبة المستحق سواء داخل محافظة أسوان جنوب البلاد، أو بمحافظات أخرى، أو بتعويض مالي بواقع 225 ألف جنيه مصري مقابل المسكن، ومن لا يرغب بالحصول على أرض زراعية سيتم تقديم تعويض نقدي عوضا عنها بقيمة 25 ألف جنيه مصري عن الفدان الواحد (حوالي 1600 دولار أمريكي).

كل ما سبق من التعويضات تصرف للمستحقين من أهل النوبة الذين استطاعوا إثبات تضررهم من التهجير المتكرر وغرق أراضيهم وبيوتهم جراء الطوفان الناتج عن تغيير مجرى النيل وبناء خزان أسوان، لكن كثيرا من الأهالي اشتكوا عدم امتلاكهم مستندات تثبت حقوقهم بدعاوى ضياعها مع غرق أراضيهم.

تلك التعويضات حملها قرار جمهوري مفاجئ للنوبيين والذي حمل رقم (444) ونشر في الجريدة الرسمية بالبلاد بتاريخ 29 نوفمبر / تشرين الثاني 2014، والذي يقضي (إضافة إلى التعويضات) باعتبار 16 قرية نوبية أراضٍ حدودية عسكرية وذلك من أصل 44 قرية إلى جانب قرى الشلال النوبي.

تمتد تلك القرى التي عناها القرار من قرية العلاقي شمالا إلى أدندان جنوبا، بطول 110 كيلو مترات شرق بحيرة السد العالي، و 25 كيلو مترا غرب البحيرة ذاتها، وبحسب القرار الجمهوري، فلا يحق لأحد استخدامها باعتبارها خاضعة لسلطة القوات المسلحة المصرية.

صدمة لأهالي النوبة

مثل القرار الجمهوري رقم (444) صدمة كبيرة لأهالي "النوبة" الذين كانوا ينتظرون ما تم إقراره في الدستور الذي وضع عقب الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2013، إذ أصدرت لجنة "متابعة الملف النوبي بأسوان ونصر النوبة وأبو سمبل السياحي" بيانا نشر على صفحتها على منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أعلنت فيه "رفضها التام لما جاء في قرارات الحكومة.

ورفضت اللجنة أيضا اختصار الحقوق النوبية في التعويضات التي وصفتها بـ "الهزيلة" وعدم مشاركة أهالي النوبة تقرير مصيرهم، كما رفضت أيضا توطين النوبيين في محافظات الصعيد أو حتى تعويضهم مقابلا ماديا، الذي وصفته بالتفاف على الحق النوبي.

يستند الرفض النوبي لمحاولات نظام السيسي إنهاء أزمة أرض الذهب بالتعويضات، إلى مخالفة تلك القرارات للدستور، والأعراف والمواثيق الدولية، وتمسكت اللجنة بالعودة على ضفاف بحيرة النوبة بالمناطق الأصلية على النحو الذي ينظمه القانون، حسب تعبيرها.

يذكر أن الدستور الذي وضع بعد الانقلاب العسكري عام 2013 ينص في مادته رقم (236) على أن "تعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات"، لكن قرارات الحكومة تدل على مخالفة صريحة لتلك المادة من الدستور الأمر الذي دفع كثيرا من النوبيين إلى رفض تلك التعويضات المادية وتمسكهم بحق العودة.

تغول الجيش بالأراضي

يبدو أن القرار رقم (444) يضرب بوعود الدستور الجديد عرض الحائط، كما يعني تغول الجيش على مساحات شاسعة كأراضي النوبة باعتبارها منطقة حدودية رغم عدم الحاجة الأمنية لكل هذه الأراضي، علما بأن المناطق الحدودية بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي لا تتخطى 5 كيلو مترات، وهو ما يعني حرمان أهالي 16 قرية من العودة إلى موطنهم، وفقاً للاتحاد العام لأبناء النوبة.

وهدد الاتحاد بإجراءات تصعيدية دولية، بعدما فشلت المظاهرات في استرداد حق النوبيين بسبب اعتقال أعداد كبيرة منهم، خصوصا في الوقفة الاحتجاجية الصامتة أمام ساحة معبد "أبو سمبل".

وعلى إثر تلك التوترات مع الدولة نشبت اشتباكات بين أهالي قرية "غرب سهيل" النوبية وبعض من عناصر قوات الجيش المتواجدة في منطقة كوبري خزان أسوان من ناحية القرية، وذلك بسبب رفض قوات الجيش مرور بعض السائقين، واعتقالهم لاحقا.

تعود أزمة أرض "النوبة" إلى عام 1898، حيث كان التهجير الأول تحت مزاعم بناء وتعلية خزان أسوان الذي أقرته الحكومة متذرعة بالمنفعة العامة دون تعويض، ما مكنها من انتزاع أراضي النوبيين دون توفير بدائل مناسبة، الأمر الذي أدى لاحقا إلى تفكيك مجتمعات بأكملها في ربوع مصر، إضافة للتهميش والإهمال الحكومي الذي يسيطر على الحياة في جنوب مصر.

أضخم عملية تهجير

تكررت معاناة التهجير بعد ذلك التاريخ أربع مرات، في أعوام 1902، و 1912، 1934، وكان آخرها عمليات التهجير في عام 1964 الذي يعد آخر وأضخم عملية تهجير تعرض لها المجتمع النوبي في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر عندما أقر بناء السد العالي.
 

الحلول الحكومية للقضية كانت دائما غير واقعية؛ ففي الوقت الذي بني فيه السد العالي لمواجهة مشاكل مصر المائية ولتوفير الطاقة الكهربائية، لم تكترث الدولة بحال قرى النوبة التي كان يعيش فيها بشر على مساحات تجاوزت 75 ألف فدان على ضفاف النيل.

 لكن عبد الناصر بعد ذلك وعد بتسكين أهالي النوبة في قرى جديدة، ولكنها كانت بعيدة جدا عن بيئتهم الأصلية، إذ تم نقلهم إلى الصحراء دون توفير البنية الأساسية للحياة وهو ما تسبب في شعور بالحنق ورّثه أهالي النوبة لأبنائهم على تلك الحكومات التي رمتهم في الصحراء ولم تحل معاناتهم.

ناضل النوبيون طوال تلك السنوات لانتزاع حقوقهم حتى تم تصعيد القضية بشكل دولي إبان عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك في 2005، حيث تحدثوا وقتها  في مؤتمرات خارج مصر عن حق عودتهم إلى بيئتهم الأصلية على أراضيهم التي هجروا منها قسريا، إضافة إلى تصاعد نبرة التطهير والعنصرية ضد النوبيين.

تجاهل الحكومات المصرية المتعاقبة على مصر لقضية النوبة جعل النشطاء النوبيين غير متعجبين من القرارات التي تصدرها الحكومة الحالية والتي تتضمن إخلافا لوعودها، وتعطيلا لمادة دستورية أقرتها السلطة ذاتها، كما تضمنت إخلافا لوعود أطلقها السيسي خلال زيارة لأرض النوبة قبل الانتخابات الرئاسية التي جاءت عقب الانقلاب مباشرة.

وأكد السيسي في زيارته تلك على اهتمامه بالقضية النوبية، لكنه عاد بعد ذلك ليتذرع بصعوبة تنفيذ مطالب حق العودة بسبب ظروف الدولة ومحاربتها للإرهاب. يتساءل النوبيون عن ذلك الإرهاب الذي يجعل القوات المسلحة تستولي على تلك الأراضي ثم تمنحها بعد ذلك لرجال أعمال ضمن مشروع المليون ونصف مليون فدان، عائدين بالذاكرة إلى ما قام به الرئيس المخلوع مبارك حين فعل ذلك بحجة مشروع توشكى الضخم الذي تحوّل بعد ذلك يبابا.