مرسي وخاشقجي وسعيد بن جبير

أسامة جاويش | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

سعي للعدالة وماراثون طويل خاضته بلدان عدة عبر تحقيق دولي للوصول إلى قرار بإدانة مرتكبي الجرائم ضد شعوبهم ومواطنيهم، ومن ثم تحقيق العدالة في مرات كثيرة حالف الحظ المطالبين بالعدالة فاستطاعوا أن يوقعوا من تورطوا بتلك الجرائم في براثن المحاكم الدولية والملاحقات القضائية ولو بعد مرور عقود من الزمان، وفي مرات أخرى فشلت تلك المحاولات في أن تصل لشيء ملموس تطيب به قلوب وأفئدة ذوي المظلومين.

راتكو ملاديتش، سفاح البوسنة والهرسك القائد الأعلى للقوات المسلحة في صربيا والمسؤول الأول عن مذبحة سربرنيستا، التي قتلت فيها قواته المسلحة أكثر من ثمانية آلاف مسلم في أسبوع واحد، وارتكبوا فيها جرائم إبادة جماعية ضد المسلمين والكروات. بدأ عدد من المحامين والمهتمين بتوثيق جرائم وانتهاكات ميلاديتش، ومن قبله سلوبودان ميلوسيفيتش في السعي لفتح تحقيق دولي ضد الجرائم التي ارتكبها في البوسنة وكللت جهودهم القانونية والقضائية بالنجاح، إذ أصدرت مذكرة اعتقال بحق ملاديتش في عام 1995 من المحكمة الجنائية العليا داخل يوغوسلافيا بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وهنا بدأت القصة تأخذ منحنى دراميا آخر، بعد أن تحول ملاديتش من قائد أعلى للقوات المسلحة إلى مجرم وهارب من العدالة، وظل هاربا لمدة ستة عشر عاما حتى تم اعتقاله في عام ألفين وأحد عشر وإصدار الحكم عليه من المحكمة الجنائية الدولية بالسجن مدى الحياة.

جنرال عسكري آخر لم يختلف مصيره كثيرا عن مصير ملاديتش، فالتاريخ في أمريكا اللاتينية مليء بجنرالات عسكريين ارتكبوا جرائم ضد شعوبهم وانتهى بهم المطاف أمام المحاكم الدولية وداخل الزنازين؛ ففي الأرجنتين كانت السنوات التي أعقبت انهيار النظام العسكري الذي أسسه الجنرال خوخيه فيديلا، عام ألف وتسعمائة وستة وسبعين، وما تبعه من جرائم إخفاء قسري لأكثر من ثلاثين ألف معارض، خير شاهد على ذلك. فبعد تظاهرات أمهات "ساحة مايو" ضده، ولفت انتباه المجتمع الدولي لجرائم نظام فيديلا وبعد سقوطه في عام ألف وتسعمائة وواحد وثمانين، بدات رحلة البحث عن العدالة فأصدر القضاء بحق فيديلا عام 1985 حكما بالسجن المؤبد بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لكن الرئيس (حينها) كارلوس منعم منحه عفوا عام 1990، ثم أصدرت المحكمة الفيدرالية حكما بإلغاء ذلك العفو أيدته المحكمة العليا في أبريل/ نيسان 2010.

واعتقل مجددا عام 1998 بتهم سرقة أطفال رضع من معتقلين سياسيين ومنحهم لأسر مؤيدة لنظامه في تلك الفترة، وحكم عليه بخمسين عاما باعتباره “مهندس الخطة” ثم حوكم مرة أخرى مع 29 متهما آخرين بتهم انتهاكات لحقوق الإنسان أثناء حكمه، وصدر في حقه حكم بالسجن المؤبد في ديسمبر/ كانون الأول 2010 ومات فيديلا سجينا بعدها بوقت قليل.

لم يختلف الحال في تشيلي كثيرا، فالجنرال أغسطو بنوشيه بدأ عهده العسكري بقتل الرئيس، وتعليق الدستور، وأعلن المجلس العسكري حاكما لتشيلي واستمر حاكماً سبعة عشر عاماً. قُتل أكثر من ثلاثة آلاف تشيلي، كما عُذب وسُجن أكثر من سبعة وعشرين ألفاً، ونُفي الكثيرون، أو هربوا طالبين اللجوء السياسي. رحل باستفتاء عام ١٩٩٠ ثم تم تحصينه بموجب الدستور حتى ١٩٩٨، ومن هنا بدأت التحقيقات الدولية في جرائمه أثناء حكمه. أسفرت جهود ملاحقته الدولية عن توقيفه في بريطانيا بموجب مذكرة قضائية، تم وضعه قيد الإقامة الجبرية ثم حكمت عليه المحكمة بالسجن في عام ٢٠٠٤ ولقي حتفه في عام ٢٠٠٦.

هذه الأيام، عادت قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي للواجهة مرة أخرى، وأسفرت جهود قانونية عن إصدار لجنة تحقيق دولية تابعة للأمم المتحدة تقرير إدانة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، اتهمته فيه مع مسؤولين سعوديين وآخرين بالتورط في جريمة القتل العمد للصحفي السعودي جمال خاشقجي. التقرير الذي وصف تورط بن سلمان بأنه جريمة دولة، صدر بعد إحباطات كثيرة عاشها محبي جمال خاشقجي بعد الموقف المخزي لإدارة الرئيس ترامب، وبعد أن ظن محمد بن سلمان أنه أبعد الشبهة عن نفسه بتقديمه لعدد من أبرز مستشاريه ككبش فداء مثل أحمد عسيري وسعود القحطاني. يبدو أن هذا التقرير الأممي يضيّق الخناق على رقبة ولي العهد السعودي مرة أخرى، وربما يكون بداية لنهاية مشروع الأمير الإصلاحي إلى الأبد.

في مصر، الضغوط الدولية والإدانات الحقوقية لنظام وشخص عبدالفتاح السيسي لم تتوقف، ووصلت ذروتها بعد مجزرة "رابعة العدوية"، إذ اتهمه تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ولكن يبدو أن رحيل الرئيس محمد مرسي بهذه الطريقة الغريبة قد دفع جهات أممية وحقوقية، ومصرية أيضا إلى المضي قدما في مسار فتح تحقيق دولي للكشف عن ملابسات وفاة مرسي، بعد أن كشفت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية أن رجال الشرطة تركوا مرسي داخل القفص الزجاجي عشرين دقيقة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

أحيانا تكون الضحية هي مقدمة النهاية للطاغية، فأمهات "ساحة مايو" كنَّ سببا لمحاكمة ونهاية خورخي فيديلا في الأرجنتين، وضحايا "مذبحة سربرنيستا" كانوا سببا في القضاء على سلوبودان ميلوسيفيتش وميلاديتش، وهناك تحقيق دولي قد أوصل بن سلمان ومعاونيه إلى منتصف طريق تحقيق العدالة والقصاص لجمال خاشقجي. فهل يلحق به الرئيس محمد مرسي ويشكل التحقيق الدولي في أسباب رحيله خطرا حقيقيا على السيسي وخطوة أخرى نحو العدالة؟ وهل يصبح مثل خاشقجي ومرسي لابن سلمان والسيسي كمثل سعيد بن جبير للحجاج بن يوسف؟