إنجاز لا ينسى.. كيف سدد أردوغان ديون تركيا من صندوق النقد الدولي؟

داود علي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

عشية جولة الحسم بالانتخابات الرئاسية التركية التي جرت في 28 مايو/ أيار 2023، وقف الرئيس رجب طيب أردوغان يلقي خطاب النصر من ساحة المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، أمام أكثر من 350 ألف مواطن، مذكرا إياهم بإنجازات الماضي، وتحررهم من ديون صندوق النقد الدولي.

وتطرق الرئيس التركي إلى واقعة حدثت بينه وبين مدير صندوق النقد عام 2010، عندما حاول الأخير التدخل في شؤون تركيا السياسية. 

وذكر أردوغان: "وقتها كان ديننا لصندوق النقد الدولي 23.5 مليار دولار، وقلت لمديره: ألست تأخذ أقساط القروض! قال: بلى، قلت: حسنا، لا يمكنك التدخل في حياتنا السياسية ومستقبل بلادنا".

وتابع: "رئيس وزراء تركيا هو أنا (كان آنذاك يشغل منصب رئيس الحكومة، في النظام البرلماني)، وأنت دورك أن تحصل أقساط قروضك فقط". 

وقال الرئيس التركي: "استمر بنا الحال هكذا وفي عام 2013 دفعنا آخر قرض من الدين، ومنذ ذلك الوقت انتهت علاقتنا مع صندوق النقد الدولي، لكن حزب الشعب الجمهوري (المعارض) كان يريد أن نعود إلى دائرة القروض مرة أخرى".

فما تاريخ تركيا مع ديون صندوق النقد؟ وكيف استطاعت أن تتخلص من هذه الديون؟ وما تأثيرات ذلك على استقلالها السياسي؟ 

الانقلابات والصندوق

انضمت تركيا إلى عضوية صندوق الدولي في 1947، وهو العام الذي تأسس فيه الصندوق في نفس العام.

ووقعت أنقرة على مدى تاريخها معه 19 اتفاقية استعداد ائتماني، جاء أولها عام 1961، في عهد حكومة رئيس الوزراء جمال غورسيل (قائد الانقلاب العسكري عام 1960).

وتبعتها اتفاقيات أخرى حتى عام 1970، وأصبحت تركيا مديونة لدى الصندوق، وبات متدخلا أكثر في شؤونها السياسية والاقتصادية.

وبدأت مسيرة الانهيار الاقتصادي في تركيا تتسع خلال فترة السبعينيات، عندما شهدت البلاد أزمة اقتصادية حادة، ارتفعت معها معدلات الفقر والبطالة. 

وأتى الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر/أيلول 1980 بقيادة الجنرال كنعان إيفرن، على البقية الباقية من الاقتصاد التركي.

فوصلت معدلات التضخم إلى 137 بالمئة، ووصل عدد العاطلين عن العمل إلى نحو 3 ملايين و6 آلاف عاطل.

وبعد الانقلاب مباشرة وقعت أنقرة مع الصندوق، أول اتفاقية استعداد انتمائي طويلة الأمد، وحصلت على مزيد من القروض. 

واستمر الاقتصاد التركي في التدهور وأثقلت الدولة بالديون الخارجية حتى وقع انقلاب عسكري جديد في 28 فبراير/شباط 1997، وهو المعروف باسم "انقلاب المذكر العسكرية" أو "ثورة ما بعد الحداثة"، بقيادة الجنرالات إسماعيل حقي قرضاي، وشفيق بير، وتيومان كومان.

وكانت من نتائج الانقلاب الكارثية، انهيار الوضع الاقتصادي، وتراجعت معدلات التنمية بشكل كبير، وارتفعت نسب البطالة والعجز والتضخم التي تراوحت في عقد التسعينيات بين 70 و90 بالمئة.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2000، تدخل صندوق النقد الدولي بشكل عاجل، وقدم لتركيا 11.4 مليار دولار في شكل قروض، لإنقاذ الوضع المتدهور.

وبدأت أنقرة في بيع العديد من الصناعات المملوكة للدولة في محاولة لتحقيق التوازن في الميزانية.

ومن الأمثلة الدالة على ما وصلت إليه الأوضاع من سوء، محاولة الحكومة التركية، تحت مظلة رئيس الوزراء (آنذاك) بولنت أجاويد، بيع الخطوط الجوية التركية.

حتى إنها نشرت إعلانات في الصحف لجذب عروض لشراء حصة 51 بالمئة من الشركة في ذلك الوقت.

بداية الإنقاذ 

دخل العام 2001 وقد انخفضت الأسهم وجرى تغيير كميات كبيرة من الليرة إلى الدولار أو اليورو، مما تسبب في خسارة البنك المركزي التركي مبلغ 5 مليارات دولار من احتياطاته النقدية.

نتج عن الأمر فقدان 15 ألف وظيفة، وارتفع الدولار أمام الليرة، لتصل قيمة الدولار الواحد إلى قرابة مليون ونصف مليون ليرة تركية. 

بداية الإنقاذ جاءت عام 2002 عندما صعد حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان. 

وقتها كانت أنقرة مدينة بأكثر من 16 مليار دولار لدى صندوق النقد، وموجات الركود القاسية، دفعت بالمنظومة الاقتصادية إلى مراتب متأخرة جدا في قائمة اقتصادات العالم.

اعتمد أردوغان سياسة الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وقدم برنامج إصلاحات اقتصادية شديدة، ركزت على الإنتاج والتنمية.

وهو الأمر الذي أدى إلى قفزة في الناتج المحلي الإجمالي للضعفين في الأعوام من 2002 إلى 2008، وصلت إلى من 250 إلى 770 مليار دولار سنويا.

تضاعف معه متوسط الدخل في تركيا من 2800 دولار أميركي عام 2001 إلى حوالي 10 آلاف دولار عام 2011، وهو أعلى من الدخل في بعض دول الاتحاد الأوروبي.

لكن النقطة الأهم في سياسة حكومة العدالة والتنمية أنها اعتمدت نموذج التحرر الكامل من قيود صندوق النقد الدولي.

فأخذت في بداية حكمها قرضين فقط على برنامجين، الأول من 2002 إلى 2005 والثاني من 2005 إلى 2008 (القرض الثاني كان بـ 6 مليارات دولار، لم تستخدم تركيا منه إلا 4 ونصف مليار دولار فقط).

في نفس الوقت، كانت الحكومة التركية تركز بقوة على مشاريع البنية التحتية التي هيأت الفرصة لتسارع النمو الاقتصادي.

سداد الديون 

وفي 14 مايو/أيار 2013 كانت تركيا على موعد تسديد جميع ديونها المستحقة لصندوق النقد الدولي.

ووقف رئيس الوزراء آنذاك والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان أمام الهيئة البرلمانية لحزب العدالة في أنقرة، وأعلن أنه "جرى تحويل مبلغ 412 مليون دولار للصندوق"، مشيرا إلى أن هذا المبلغ كان "آخر قسط من ديون تركيا". 

وقال أردوغان: "إن تركيا لم تعد مدينة للصندوق بل تجري على العكس محادثات بشأن دعمه ماليا".

وأضاف "هذه هي المرة الأولى منذ وقت طويل التي تخفض فيها تركيا ديونها لدى صندوق النقد الدولي إلى صفر".

وحسب وكالة أنباء الأناضول التركية (حكومية) فإن هذه كانت المرة الأولى التي تصبح فيها تركيا منذ 52 عاما بلا ديون لدى صندوق النقد.

وكان من النتائج المباشرة في إطار المسيرة التي قطعتها تركيا للتخلص من ديون صندوق النقد، والعمل على التنمية الصناعية، أنها أصبحت في مصاف الدول الاقتصادية الكبرى. 

ومن هنا بدأ ارتفاع ترتيب اقتصاد تركيا إلى المرتبة 13 عالميا حتى عام 2020 ومن ثم القفز إلى المرتبة 11 عام 2021 بعد تجاوز أزمة جائحة كورونا العالمية.

 

الأمن القومي 

وفي 6 مارس/ آذار 2021، نشرت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، تقريرا عن أزمة التضخم التي تمر بها تركيا، ورفض الرئيس التركي الاعتماد على قروض صندوق النقد الدولي. 

وقالت: "إن أردوغان يرى أن اللجوء لصندوق النقد سيجبر الحكومة على اتباع سياسة إنفاق انكماشية ستؤدي لإيقاف عجلة النمو الاقتصادي".

وأضافت: "الأمر الآخر أن الصندوق يشترط الاعتماد على الفائدة، وهذا يعني أن البنك المركزي سيكون مضطرا لرفع سعرها من دون سقف".

ويأتي ذلك في ظل معارضة أردوغان الشديدة لرفع أسعار الفائدة وتشجيعه لخفضها لدفع عجلة النمو الاقتصادي في البلاد، وهو ما لن يتحقق في حال لجوء تركيا لصندوق النقد، وفق الوكالة.

وبحسب قولها، فإن نقطة الحسم في رؤية أردوغان تتمثل في خشية استخدام جهات خارجية ورقة صندوق النقد الدولي للضغط على الحكومة التركية للتنازل في بعض القضايا الإقليمية السياسية.

وهو ما أكده الرئيس التركي بنفسه في 15 أغسطس/آب 2022، خلال كلمته أمام رؤساء أفرع حزب العدالة والتنمية على مستوى البلاد، في أنقرة.

حينها أعلن أن "تركيا تدافع بلا خوف عن مصالحها الوطنية، وتحقق النتائج المرجوة على المنصات كافة، بما في ذلك الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بفضل تطبيقها دبلوماسية فعالة".

وشدد أردوغان وقتها على أن "تركيا ليست دولة تتسول الديون على أبواب صندوق النقد الدولي". 

وأضاف: "نحن نمتلك الآن قوة عسكرية كبيرة تمكننا من تنفيذ عمليات من أجل أمننا القومي دون السعي للحصول على موافقة أي جهة من الداخل أو الخارج".