بعد لحظة تقارب.. لماذا عاد التوتر بين المغرب وجنوب إفريقيا للواجهة؟

الرباط - الاستقلال | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"عَمى سياسي وارتباط إيديولوجي" هكذا وصف المغرب موقف جنوب إفريقيا من ملف إقليم الصحراء الغربية المتنازع عليه بين الرباط وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر.

جاء ذلك في رسالة وجهها الممثل الدائم للرباط بالأمم المتحدة عمر هلال، إلى مجلس الأمن الدولي في 24 مايو/أيار 2021، ردا على نقل الممثلة الدائمة لجنوب إفريقيا رسالة من جبهة "البوليساريو" إلى المجلس.

هذا التوتر بن البلدين ليس وليد اليوم، بل يعود لسنوات اصطفت فيها جنوب إفريقيا مع الجزائر ومن خلالها مع جبهة "البوليساريو"، وما إن عيّنت الدولة في يناير/كانون الثاني 2021 سفيرا بالرباط، بعد سنوات من الجمود لتعرف العلاقة نوعا من التقارب، حتى عاد الاضطراب إلى الواجهة.

تاريخ التوتر

في دراسة نشرها مركز "الجزيرة" للدراسات في 2018، بعنوان "استئناف العلاقات المغربية-جنوب الإفريقية: البراغماتية بين التنافس والتكامل"، قال إن المغرب وضع مواقف الدول الحليفة تاريخيا للجزائر (المعسكر الأنجلوفوني) جانبا وأعطى الأولوية للعلاقات الاقتصادية، ضمن علاقات "رابح-رابح".

ورأت الدراسة أن "المغرب منذ 2013 قام بمراجعة لمحصِّلة نتائج سياساته الخارجية السابقة، والتي اتسمت بالسلبية في التعامل مع القضايا الشائكة، والاعتماد على ردود الفعل بدل المبادرة، والانتظار، واللعب على الزمن بدل العمل المتراكم والمستمر لحل المشاكل".

لكن الأزمتين الدبلوماسيتين مع ألمانيا وإسبانيا في النصف الأول من سنة 2021، تظهران أن المغرب قرر تغيير سياسته الخارجية مرة أخرى.

ويرجع تاريخ العلاقات مع الرباط إلى ستينيات القرن الماضي حين زار الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، المغرب عام 1962، والتقى بالوزير المكلف بالشؤون الإفريقية آنذاك، عبد الكريم الخطيب، وطلب منه دعمه بالمال والسلاح وتدريب جنود الجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي في كفاحه ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) وهو ما استجاب له المغرب.

لهذه الأسباب، شعر مانديلا، بعد الإفراج عنه (في 1990)، أنه من الضروري زيارة المغرب من أجل شكر المغاربة، وفي أعقاب ذلك تقررت إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين. 

لكن منذ عام 2000، شهدت العلاقات بين البلدين برودا لافتا وذلك راجع لموقف بريتوريا إزاء قضية الصحراء، هذا الموقف ترجم الاختلاف بشأنه بين صقور وحمائم حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" الحاكم بجنوب إفريقيا، والذي حسم التزام حكومة بريتوريا بالتمسك بموقفها الأيديولوجي الثوري القاضي بالاعتراف بـ“الجمهورية الصحراوية". 

ورغم الزيارة التي قام بها العاهل المغربي محمد السادس إلى هذا البلد، في سبتمبر/أيلول 2002، للمشاركة في مؤتمر "القمة العالمية للتنمية المستدامة"، واللقاء الذي جمع الملك مع الرئيس جنوب الإفريقي السابق، ثابو مبيكي، على هامش المؤتمر، فقد كان من المفروض أن يعطي زخما في العلاقات الثنائية؛ وهو أمر "ظل دون المستوى المطلوب". 

سفراء التهدئة

في 2018، خصّ وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربي ناصر بوريطة، نظيرته الجنوب الإفريقية ​ناليدي باندور، التي زارت الرباط لحضور مؤتمر إفريقي لأول مرة منذ استئناف العلاقات بين البلدين، باستقبال خاص، وذهبت عدد من التحليلات إلى أن الخطوة مهمة في طريق إيجاد حل لنزاع الصحراء موضع الخلاف الرئيسي بين البلدين.  

وفي يناير/كانون الثاني 2021، استقبل بوريطة، سفير جنوب إفريقيا الجديد في الرباط، إبراهيم إدريس.

وأتى تعيين السفير بعد مرور عام ونصف على التحاق السفير المغربي، يوسف العمراني، بمقر عمله في بريتوريا، في حين ظلت سفارة جنوب إفريقيا بالمغرب تحت إدارة دبلوماسي برتبة قائم بالأعمال.

وكانت الرباط وبريتوريا قد اتفقتا خلال لقاء الملك محمد السادس، ورئيس جنوب إفريقيا السابق، جاكوب زوما، بأبيدجان الإيفوارية في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، على هامش قمة الاتحاد الإفريقي-الاتحاد الأوروبي، على رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي عبر تعيين سفيرين من مستوى عال في كل من عاصمتي البلدين. 

وعينت الرباط شخصية بارزة هي يوسف العمراني، الذي كان مكلفا بمهمة في القصر الملكي، وقبلها كان وزيرا منتدبا في وزارة الخارجية ووكيلا للوزارة، وسفيرا في عدة دول بأميركا اللاتينية، وعينت بريتوريا إبراهيم إدريس، الذي كان قنصلا عاما لبلاده في جدة السعودية، ونائب رئيس دائرة البروتوكول في وزارة الخارجية الجنوب إفريقية.

تقارب مقابل

يربط جنوب إفريقيا بالجزائر (المحتضنة والداعم الأول لجبهة البوليساريو) رصيد دبلوماسي وتاريخي واقتصادي أكثر قوة، بحكم التراث التحرري المشترك ضد الاستعمار وارتباطهما بتحالفات تقليدية في ملفات دولية عديدة. 

وإن كان نفوذ الجزائر التقليدي بعدد من العواصم الإفريقية تراجع  في السنوات الماضية بسبب خمول جهازها الدبلوماسي وأزماتها الداخلية، فإن الدبلوماسية الجزائرية بدأت في عهد عبد المجيد تبون، الذي تولى الحكم في 2019، تسترجع عافيتها.

وفي يناير/كانون الثاني 2021، أجرى وزير الخارجية الجزائري، صبري بوقادوم، زيارة إلى جنوب إفريقيا لبحث التعاون الثنائي.

ووصف بيان الخارجية الجزائرية، البلد بـ"الحليف الأساسي للجزائر في القارة الإفريقية".

وبحث بوقادوم مع نظيرته الجنوب إفريقية، باندور، خلال الزيارة قضية الصحراء، وقال البيان الجزائري، إن الطرفين "جددا دعمهما الكامل لتعيين فوري لمبعوث شخصي للأمين العام للأمم المتحدة للإقليم".

وأعرب الجانبان، وفق المصدر ذاته، عن "قلقهما إزاء انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو (في أكتوبر/تشرين الأول 2020)"، ودعيا الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، إلى "مضاعفة الجهود لإرساء مسار سياسي جدي، يفضي إلى استفتاء لتقرير مصير الشعب الصحراوي".

وعام 1975 بدأ نزاع بين المغرب و"البوليساريو" حول إقليم الصحراء، بعد إنهاء الاحتلال الإسباني وجوده بالمنطقة، ليتحول الخلاف إلى نزاع مسلح استمر حتى 1991 بتوقيع وقف لإطلاق النار.

وتصر الرباط على أحقيتها في إقليم الصحراء، وتقترح حكما ذاتيا موسعا تحت سيادتها، فيما تطالب "البوليساريو" بتنظيم استفتاء لتقرير المصير، وهو طرح تدعمه الجزائر التي تستضيف لاجئين من الإقليم.

تحييد التأثير

رسالة السفير الممثل الدائم للمغرب بالأمم المتحدة، جاءت ردا على نقل الممثلة الدائمة لجنوب إفريقيا رسالة (لم يذكر فحواها) من "البوليساريو" إلى مجلس الأمن، واعتبرت أن "ارتباط جنوب إفريقيا الإيديولوجي بالنزعة الانفصالية للبوليساريو، لا يمكن أن يغفل العمى السياسي لهذا البلد بشأن النزاع حول الصحراء المغربية".

وأكدت الرسالة أن "دعم جنوب إفريقيا غير المشروط لهذه الجماعة المسلحة، لا يمكن أن يبرر سكوتها المتواطئ على الجرائم التي ارتُكبت ضد السكان المحتجزين في مخيمات تندوف". 

وأعربت الرسالة عن أسف المملكة "العميق" لتمسك جنوب إفريقيا بدعم السفير الممثل للبوليساريو بالأمم المتحدة، والذي وصفته بـ"المزعوم والمحتال".

الدبلوماسي المغربي، دعا إلى الالتزام بالموقف الرسمي للأمم المتحدة، معتبرا أن "جنوب إفريقيا ليست في وضع يسمح لها بتنصيب نفسها كمحامية في مجال حقوق الإنسان".

وأشار هلال إلى أن "المنظمات الدولية لحقوق الإنسان تدين بانتظام الانتهاكات الجسيمة في البلد".

وفي تعليق على هذه التطورات، قال الباحث في العلوم السياسية والتاريخ المغربي الحديث، محمد شقير: إن "جنوب إفريقيا من الدول الكبرى داخل القارة والأكثر تقدما فيها، وهي قوة إقليمية على المستوى الاقتصادي".

وأضاف في حديث مع "الاستقلال"، أن دورها "لا يقتصر على ذلك، بل إنها دولة مؤثرة على كل الدول المحيطة بها"، مستدركا: "صحيح أن هذه الدول صغيرة، لكن لكل منها صوت داخل الاتحاد الإفريقي، وهو ما يجعل لجنوب إفريقيا ثقلا سياسيا كبيرا".

وأكد شقير أن "المغرب مدرك لهذا الأمر ويحاول أن يجر جنوب إفريقيا لطرفه، وإن لم تسانده أن تلتزم الحياد الإيجابي من القضية، باعتبارها لاعبا أساسيا، ومن مصلحته أن يحيّد تأثيرها ومساندتها للجزائر ومن خلالها للبوليساريو".    

فرص ضائعة

وعاد شقير إلى سبب الأزمة الجديدة بين المغرب وجنوب إفريقيا، معتبرا أنه مرتبط بـ"عوامل بنيوية"، الأول أن الأخيرة هي دولة إقليمية في جنوب القارة، في حين أن الأولى بدورها دولة إقليمية في شمالها، و"هذا واحد من أهم عوامل التدافع بين الدولتين".

ومضى قائلا: "لكن العامل الأساسي للتوتر هو ملف الصحراء، فمساندة جنوب إفريقيا للجزائر ومن خلالها للبوليساريو وطرحهما، يجعل التوتر قائما ومستمرا نظرا لموقف الدولة وتحركاتها السياسية الدبلوماسية لتدعيمه".

ورأى أن موقف جنوب إفريقيا اعتبره المغرب في تصريحاته الأخيرة نوع من "العمى السياسي"، والمقصود هنا -يقول يقول- أنه رغم التطورات والتغيرات التي عرفها الملف، بما فيها الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء (في ديسمبر/كانون الأول 2020)، لازالت جنوب إفريقيا مناوئة للمغرب في كل المحافل الدولية.

وأفاد شقير، أن "الموقف المتشنج والمستميت هو ما يجعل المغرب، ورغم عدم قطع علاقته الدبلوماسية مع جنوب إفريقيا ومحاولة تعيين سفير بالبلد للتأثير في صناع القرار الداخلي، إلا أنه يظهر أن التحركات المغربية لازالت لم تؤت أكلها". 

وعرفت العلاقات المغربية الجنوب إفريقية مناسبتين للتقارب، بحسب شقير، لكن "الدبلوماسية المغربية لم تستغلهما"، المناسبة الأولى هي ترؤس الرئيس الأسبق نيلسون مانديلا، وقد كانت فترة حكمه فرصة للمغرب لاستفادة منها.

خاصة، يضيف المتحدث، وأن الرباط قدمت منذ الخمسينيات دعما سياسيا وعسكريا لحركة مانديلا، والذي قام بعد توليه للحكم بزيارة شكر وعرفان للمملكة، حينها كان التوقيت مناسبا لكسب جنوب إفريقيا في صف المغرب حول قضية الصحراء، وهو الأمر الذي أصبح صعبا بعد وفاة مانديلا وإزاحة أنصاره من الحكم.

أما المناسبة الثانية، يقول المحلل السياسي، فهي منافسة المغرب لجنوب إفريقيا في تنظيم كأس العالم لكرة القدم، قبل أن تُرجح الكفة للأخيرة، لكنها "اعتبرتها استفزازا".

وخلص شقير إلى أن "قضية المونديال تم استغلالها من طرف خصوم المغرب، حتى أدى إلى نوع من القطيعة والعداء الذي أشهره كل رؤساء جنوب إفريقيا، الذين تعاقبوا على الحكم وطبقتها السياسية للمغرب، واعتباره خصما ينافس البلد حتى في إشعاعها الرياضي، وكانت لذلك تداعيات على الصعيدين السياسي والدبلوماسي".