كلمات فضفاضة.. لماذا تتقاعس الكنيسة الأرثوذكسية بمصر عن نصرة فلسطين؟

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين" مقولة شهيرة أطلقها بابا الأقباط المصريين الراحل شنودة الثالث، تعبيرا عن رفضه التطبيع مع إسرائيل، حتى أنه كان يعاقب المسيحيين الذين يزورون مدينة القدس المحتلة بما يعرف بـ"الحرمان الكنسي".

لكن مع صعود البابا تواضروس الثاني، تبدلت الأوضاع وخفت نبرة الحسم، وظهر ذلك جليا خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على شعب فلسطين، في القدس وقطاع غزة وكثير من مناطق المواجهة.

وبعدما اتخذت القاهرة موقفا تصعيديا، شمل المؤسسات الرسمية والدينية إضافة إلى الغضب الشعبي، جاء موقف الكنيسة الأرثوذكسية "متأخرا متحفظا"، ما أثار تساؤلات عن أسباب ذلك التراجع، خاصة وأن الروابط الدينية والاجتماعية للمسيحيين المصريين في القدس أعمق من تلك التحفظات.

وعبر التاريخ، تباينت مواقف باباوات الكنيسة المصرية تجاه قضية فلسطين، غير أن معظمها جاء مع النسق الرافض للاحتلال الإسرائيلي.

هذا النسق الرافض بدأ مع البابا كيرلس السادس، أول من رفض زيارة القدس، إذ أعلن ذلك في أعقاب نكسة 1967، بعد وقوع الأراضي المقدسة فى يد القوات الصهيونية، حتى البابا شنودة الثالث، الذي أصدر قراره بمنع رعايا الكنيسة السفر إلى الأماكن المقدسة بالأراضي المحتلة.

بيان متأخر 

رغم أن مواجهات القدس بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، بدأت في 6 مايو/أيار 2021، وشهدت الأيام التي تلتها موجات عنف متصاعدة وسقوط عشرات الضحايا، لم يصدر عن الكنيسة المصرية الأرثوذكسية أي بيان أو تعليق حتى صباح 15 مايو/أيار. 

كان موقف الكنيسة بقيادة البابا تواضروس الثاني متأخرا عن سائر المؤسسات المصرية، فالأزهر الشريف تحت رئاسة أحمد الطيب، أصدر بيانه في 8 مايو/أيار، وهو بيان تميز بـ"الحسم وقوة العبارات" المنددة بالعدوان الإسرائيلي، حيث قال: "إرهاب صهيوني غاشم في ظل صمت عالمي مخز". 

وكذلك أدانت وزارة الخارجية المصرية الاعتداءات الإسرائيلية، في 10 مايو/أيار، عبر بيان غاضب، تضمن أن "كل عربي ينظر بفخر واعتزاز لأهل القدس، وما تعرض له المسجد الأقصى استفز مشاعرنا جميعا".

واحتاجت القيادة الكنسية المصرية إلى 9 أيام كاملة من مشاهدة المواجهات والقصف، حتى تصدر بيانها، الذي تضمن عبارات فضفاضة مثل "تدعو الكنيسة كل الأطراف إلى الاحتكام للعقل واللجوء إلى لغة الحوار والتفاوض حقنا للدماء" دون أن تذكر كلمة "إسرائيل" بين أسطر البيان، الذي لم يأت على مستوى الحدث، وفق مراقبين. 

 

سياقات التطبيع

الموقف الأخير عبر عن سياسة مختلفة للباباوية المصرية منذ سنوات، بدت أقل حدة من السابق في موقفها بشأن الأراضي المحتلة.

ومع أن الكنيسة المصرية لم تكسر بعد قرار المجمع المقدس بمقاطعة السفر إلى القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، الصادر عام 1980، لكن في مايو/ أيار 2015 وقعت "حادثة استثنائية" لأول مرة منذ عقود طويلة.

هذا الاستثناء تجلى في ذهاب بابا الأقباط الأرثوذكس تواضروس الثاني إلى مدينة القدس المحتلة مع وفد يتألف من 3 أساقفة وكاهن وشماس، للمشاركة في جنازة مطران القدس والشرق الأدنى الأنبا أبراهام. 

المشاركة فتحت باب التكهنات حول ما إذا كانت تمثل دلالة على تغير الموقف الكنسي الرافض لدخول القدس، مع احتمالية حدوث تطورات سياسية في هذا الصدد، خاصة وأن هناك من اعتبر الزيارة، خروجا عن تعاليم البابا الراحل شنودة الثالث، وتطبيعا مع الاحتلال.

ويذكر أن الكنيسة المصرية تمتلك أوقافا مسيحية في القدس، أهمها دير السلطان، وهو دير أثري للأقباط الأرثوذكس يقع داخل أسوار البلدة القديمة، في حارة النصارى بجوار كنيسة القديسة هيلانة، والممر الموصل من كنيسة هيلانة إلى سور كنيسة القيامة.

وتبلغ مساحة الدير حوالي 1800 متر مربع، وتاريخيا أرجعه السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي للأقباط بعد تحريره بيت المقدس من الصليبيين (4 يوليو/تموز 1187)، حيث عرف من وقتها باسم "دير السلطان"، الذي له أهمية خاصة عند الأقباط لأنه طريقهم المباشر للوصول إلى كنيسة القيامة. 

وكانت إسرائيل قد اتخذت قرارا بعد احتلال القدس الشريف عام 1967 بتسليم الدير وملحقاته الكنسية للرهبان الأحباش (الإثيوبيين). 

ومطلع مايو/ أيار 2021 قام الرهبان الإثيوبيون بنصب خيمة ورفع علم بلادهم داخل دير السلطان، الأمر الذي أثار غضب الرهبان المصريين المقيمين هناك.

ولجأت الكنيسة المصرية من قبل إلى المحاكم الإسرائيلية لإثبات أحقيتها في الدير، ورغم أن الأقباط امتلكوا حكما قضائيا بملكية الدير لهم، لكن الحكومة الإسرائيلية ترفض تنفيذ الحكم، ويدار الدير فعليا من جانب الرهبان الإثيوبيين، مع وجود رهبان وكهنة مصريين، يأملون أن يعود الدير إلى سلطتهم وملكيتهم الفعلية. 

موقف للنسيان 

الصحفي المصري محمد يوسف، اعتبر في حديث لـ"للاستقلال" أن موقف الكنيسة من الأحداث الأخيرة في فلسطين "للنسيان" على حد تعبيره، موضحا أن ردة فعل المؤسسة الدينية المسيحية الأولى في مصر والشرق الأوسط، "ليس على مستوى الحدث، ولم يكن منتظرا". 

وأوضح أن "علاقة الكنيسة المصرية بفلسطين، ليست قائمة على اتخاذ موقف دبلوماسي، ففي الداخل الفلسطيني مئات الآلاف من المسيحيين ينتمون للكنيسة الإسكندرية، وهناك أوقاف مسيحية مصرية في بيت المقدس، وأديرة تابعة بشكل مباشر لإدارة الكنيسة المصرية، منها دير السلطان الذي حدثت فيه الأزمة الأخيرة مع الرهبان الإثيوبيين".

وشدد الصحفي يوسف على أن "المؤسسات الدينية هي الأقرب للشعوب من الأنظمة والحكومات، وهي التي تتصدر القضايا المصيرية والشعبية بخطوات، وهو ما حدث من الأزهر الشريف، بإصداره بيانا قويا وراسخا، ومتقدما عن بيان وزارة الخارجية".

وتابع: "بالفعل كان بيان الأزهر على مستوى الحدث لأنه يمثل أكثر من مليار مسلم حول العالم، فيما يخص مقدساتهم الإسلامية وحق الشعب الفلسطيني، بينما بيان الكنيسة المصرية كان متحفظا إلى حد بعيد، وهذا أمر يحتاج إلى مراجعة فيما يخص القضية الفلسطينية، لأن هذه المواقف تسجل للتاريخ، كما تم تسجيل موقف البابا شنودة، الوطني ضد إسرائيل".

نموذج للتسييس 

من جانبه، قال الباحث المصري في مقارنة الأديان، محمود وحيد، لـ"الاستقلال" إن "رصد التاريخ الحديث للكنيسة (الأرثوذكسية) المصرية، قائم على حقبتين".

الأولى، "ما قبل البابا شنودة الثالث، أي حقبة البابا كيرلس السادس، حيث كانت الكنيسة آنذاك غير مسيسة، وتحاول أن تنأى بنفسها عن السياسة والاشتباكات السياسية والحزبية، وقبلها لعبت دورا وطنيا رائعا في ثورة 1919، ومع ذلك كان الشباب المسيحي يسعى إلى ممارسة السياسة عن طريق تكوين جماعات، بعيدا عن استغلال الكنيسة في ذلك".

هذه الجماعات، وفق الباحث يوسف، مثل جماعة الأمة القبطية التي كان نظير جيد (البابا شنودة) عضوا فاعلا وأساسيا فيها.

الحقبة الثانية، منذ صعود البابا شنودة إلى كرسي الكرازة المرقسية، حيث دخلت الكنيسة في عهد جديد تميزت فيه بالفاعلية السياسية والاصطدام حتى برئاسة الجمهورية، كما حدث في الخلاف الشهير بين الرئيس محمد أنور السادات والبابا شنودة، ووصل الأمر لقيام الأول بعزل الثاني وتحديد إقامته، وذلك في إطار حملة الاعتقالات الشهيرة عام 1981.

وأردف يوسف: "هنا نتطرق إلى موقف الكنيسة من قضية فلسطين، وكان البابا شنودة قد أوقف رحلات حج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة، وأرجع البعض أن السبب الرئيس هو خلافه مع السادات، وأن القرار كان سياسيا نكاية فيه".

واستدرك قائلا: "مع ذلك استمر الوضع حتى بعد رحيل السادات، ورحيل البابا شنودة نفسه، ولم يحدث أي تغيير إلا مع قرار البابا تواضروس الثاني بإعادة رحلات الحج، مع زيارته الشهيرة إلى القدس".

وشدد الباحث المصري على أن "هذا التطور والتطبيع الملحوظ لرأس المؤسسة، انعكس في الأيام الأخيرة مع تقاعس الكنيسة عن المشاركة في انتقاد الكيان الصهيوني، وتأخر ردة فعلها لأيام، ما يفسر أن هناك انفصاما ما بين الكنيسة وموقف الدولة من قضية فلسطين، وهذا خطأ وخطر في آن واحد".

وختم يوسف حديثه بالتأكيد على أن "المؤسسات الدينية الرسمية يجب أن تتحرك وفقا لقواعد الدولة، لا قواعد وحسابات خاصة، وهذا دأب الكنيسة منذ نصف قرن من الزمن، وهو وضع يجب تغييره والتعامل معه".