هشاشة وحرمان.. كيف كشف الزلزال حقيقة المناطق المنسية في المغرب؟

12

طباعة

مشاركة

تفاجأ الرأي العام المغربي والدولي من حجم الفقر والهشاشة التي حملتها الصور القادمة من المناطق القروية والجبلية التي هزها زلزال 8 سبتمبر/أيلول 2023، لاسيما بمنطقة الحوز نواحي مراكش، وفي قرى منطقة تارودانت.

وارتفعت حصيلة ضحايا الزلزال الذي ضرب عدة مدن في المملكة إلى نحو 3 آلاف قتيل، وفق تقديرات غير نهائية، في وقت تواصل فرق الإنقاذ جهوداً مكثفة في قرى دمرها الزلزال، وإن كانت آمال العثور على ناجين تتضاءل، بعد أيام على الكارثة.

ففي الوقت الذي تتميز به مدن الرباط والدار البيضاء ومراكش وطنجة وغيرها من المدن الكبرى، بمشاريع حضرية ومعمارية وبنية تحتية جيدة، تقبع مناطق أخرى من المغرب في دائرة الهشاشة والتهميش والإهمال.

كما أن الناتج المحلي للفرد في المغرب الذي يبلغ 3500 دولار (سنويا)، لم يتعد في جهة مراكش- آسفي ألفي دولار، بينما تمثل تلك الجهة 11.4 بالمئة من الاستهلاك النهائي للأسر، مقابل 25.3 بالمئة في جهة الدار البيضاء- سطات، وفق ما ذكرت المندوبية السامية للتخطيط في تقرير صدر مستهل سبتمبر 2023.

وذكرت المندوبية في مذكرة حول "تطور الفوارق الاجتماعية"، نُشرت في أكتوبر/تشرين أول 2022، أن معدل الفقر المطلق بلغ على المستوى الوطني 3 بالمئة في 2021، غير أنه في العالم القروي بلغ 6.8 بالمئة.

وبخصوص معدل الهشاشة أو تدهور الأوضاع المعيشية، فقد بلغ على المستوى الوطني 10 بالمئة سنة 2021، في حين بلغ في المناطق القروية 17.4 بالمئة.

وقد درج عدد من المغاربة على وصف الوضع بقولهم إن "للتنمية بالمغرب سرعتان"، وأنه "مغربان؛ مستفيد ومهمش"، محملين رئيس الحكومة عزيز أخنوش، مسؤولية كبيرة تجاه الوضع القائم، خصوصا مع رئاسته للصندوق الخاص بالتنمية القروية، والذي له ميزانية كبيرة.

فما أسباب هذا التهميش الذي تعانيه المناطق القروية بالمغرب؟ وكيف ساهم رئيس الحكومة الحالي في تعميقه بفعل مسؤوليته عن صندوق تنمية العالم القروي ذي الـ 5.6 مليارات دولار؟ وما سبل تغيير هذه الحالة وإعادة الاعتبار للمناطق المهمشة؟

وضع مقصود

يرى الخبير الاقتصادي عمر الكتاني، أن الوضع الهش وحالة النسيان التنموي في المناطق القروية والجبلية، أمر مقصود من جهات في الدولة.

وذكر الكتاني لـ "الاستقلال"، أن مرد هذا القول، هو أنه مع مستهل الحياة البرلمانية في المغرب، قبل عقود، وُزع البلد إلى عنصرين.

العنصر الأول هو المدن، وتمثله الأحزاب السياسية في المؤسسات المنتخبة، والعنصر الثاني هو البادية، والذي أُبقِي عليه خارج محيط التسييس والعمل الحزبي.

وأضاف الكتاني: "لذلك كان البرلمان يتشكل في نصفه الأول من الأحزاب وفي نصفه الآخر من منتخبين قادمين من العالم القروي والجبلي".

وشدد على أنه "بهؤلاء كانت الدولة تخلق التوازن مع الأحزاب، حتى لا تخرج الأمور عن سيطرتها وإرادتها".

وزاد أنه "بهذا النهج كانت الدولة تضمن أغلبيتها البرلمانية التي تريد، بضمان تواجد نسبة كبيرة من البرلمانيين ينتمون إلى هذه المناطق القروية والجبلية، والذين كانوا في العموم إلا ما ندر، يسعون وراء الامتيازات البرلمانية، ولا يدافعون عن الحقوق الحقيقية للمناطق التي يمثلونها".

ورأى الكتاني أن هذه المناطق المنسية اختِير لها أن تكون خارج نطاق التعليم، ولذلك نجد أن المستوى التعليمي لأبنائها وسكانها ضعيف جدا، مما جعل السكان بلا قوة للمطالبة بحقوقهم.

ورأى المتحدث ذاته، أن هذا الأمر اختيار سياسي، وليس من محض صدفة، وذلك حتى يبقى هؤلاء تحت هيمنة توجه معين للدولة، لأن الأمي أو غير المتعلم لا يعرف حقوقه، وتبعا لذلك لا يعرفون كيفية المطالبة بها.

واسترسل الكتاني، أن جهات في الدولة تقول إنه لا يجب تعليم هؤلاء حتى لا يصبحوا يساريين أو إسلاميين.

وزاد: "صحيح أن هذا المبتغى تحقق لهم، إذ لم يصبح السكان يساريين ولا إسلاميين، لكنهم أصبحوا بشرا بدون مواطنة، بالمفهوم الحقوقي، أي أنهم لا يستفيدون من حقوقهم الأساسية كمواطنين في بلدهم".

بدوره، يرى الكاتب الصحفي يونس مسكين، أن التهميش والفقر الذي أبان عنه الزلزال بتلك المناطق، هو "مجرد نتيجة لسياسات عمومية تنهجها السلطات المغربية منذ عقود".

وقال مسكين لـ "الاستقلال"، إن "هناك ظلما تاريخيا ضد كثير من مناطق المغرب، خاصة المناطق الجبلية والبعيدة عن الساحل الأطلسي الشمالي، حيث تتركز جل الاستثمارات والجهود التنموية للدولة".

وذكر المتحدث ذاته، أنه سبق للملك محمد السادس أن أعلن رسميا وفي خطب مسجلة غياب عدالة مجالية وتوزيع متكافئ لثمار النمو الاقتصادي بين المغاربة.

وأوضح أنه رغم المحاولات التي تمت بناء على هذا الإقرار، فإن واقع الحال لم يتغير، والسبب "هو غياب الديمقراطية أولا، على المستوى السياسي، حيث تواصل السلطة تركزها في دوائر ضيقة وبعيدة عن الرقابة والمساءلة الشعبيين".

ومن الأسباب أيضا، يردف مسكين، "غياب الشفافية وانتشار الريع والفساد في المجال الاقتصادي، ما يحول دون استفادة مناطق شاسعة من المغرب من ثروات البلاد".

وتابع: "لا أستثني نخب المجتمع من المسؤولية على هذا الوضع، حيث يغيب الحس الوطني والمدني، وتسود ثقافة البحث عن فرصة للخلاص الفردي، وتنعدم الإرادة اللازمة لتغيير وإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية".

دعوات للمحاسبة

وفي خضم ذلك، يطالب مواطنون بمحاسبة المسؤولين عن وصول الجهات المنكوبة المذكورة إلى هذا الوضع المزري.

وهذا ما دعت له الصحيفة الإلكترونية "الوطنية بريس"، 10 سبتمبر 2023، والتي تساءلت "من سيحاسب المسؤولين على هشاشة هذه المناطق؟".

وأضافت الجريدة، "نريد تنظيم كأس العالم وصرف أموال في تصنيع مركبات، في حين هناك عالم قروي منسي".

وتابعت: "هناك مناطق لا تضعها الحكومة بعين التقدير، ولا تحظى سوى بمساعدات فردية بين الفينة والأخرى".

وشدد المصدر ذاته، أن "فاجعة الحوز يجب أن تأخذ اتجاها قضائيا، ومحاكمة المسؤولين عن تهميش هذه المناطق".

يذكر أن المجلس الأعلى للحسابات، حمل في تقريره الصادر عام 2017، انتقادات شديدة لكيفية تدبير وصرف المخصصات المالية لصندوق التنمية القروية، الذي كان يشرف عليه حينها وزير الفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات، عزيز أخنوش.

وشكل هذا الصندوق الذي خصصت له الدولة 54 مليار درهم، أي ما يعادل 5.6 مليار دولار، موضع جدل كبير بالمغرب عام 2015.

وتعود وقائع هذا الجدل، إلى ما كشفه مدير تحرير جريدة "أخبار اليوم" المعتقل حاليا توفيق بوعشرين، من كون أخنوش، بمعية وزير الاقتصاد والمالية، محمد بوسعيد، قد دسا لرئيس الحكومة حينها عبد الإله ابن كيران، بندا في مشروع قانون مالية 2016، يفوض بمقتضاه سلطة الصندوق إلى وزير الفلاحة.

وبهذه المناسبة، أكد الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية بمجلس النواب في تصريحات صحفية وقتئذ، أنه "من غير المنطقي أن يشرف وزير الفلاحة بمفرده على صندوق التنمية القروية بضخامته وكثرة مشاريعه وتشعبها".

وشدد الفريق البرلماني أن "إنجاز هذا المخطط، ينبغي أن يكون وفق مقاربة تشاركية بين وزراء ومديري المؤسسات الرسمية المعنية بملف تنمية القرى".

ولا تخفي حكومة عزيز أخنوش، والتي شُكلت في 7 أكتوبر/تشرين الأول  2021، اعترافها باتساع وانتشار الهشاشة في العالم القروي بالمغرب، ومن ذلك ما أكدته فاطمة الزهراء المنصوري، وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة.

ونقل موقع "كود" المحلي، 19 يونيو/حزيران 2023، عن المنصوري أن "العالم القروي يمثل 98 بالمئة من التراب الوطني و85 بالمئة من الجماعات الترابية".

وأضافت في استجواب لها بمجلس النواب، أن 40 في المئة من الساكنة الوطنية تعيش في العالم القروي.

وبينت أنه جرى تحديد 281 جماعة، منها 179 منها مناطق جبلية، تتجاوز فيها نسبة الهشاشة 73 بالمئة، والتي تضم ثلاثة ملايين مواطن.

غير أن نجيم عبد الإله السباعي، مدير نشر جريدة النهضة الدولية ورئيس المنظمة المغربية للكرامة والسلام وحقوق الإنسان والدفاع عن الثوابت الوطنية، يرى أن استمرار هذا الوضع المزري لساكنة العالم القروي والجبلي، يرجع لانعدام الجدية من لدن المسؤولين.

وأكد السباعي في مقال رأي نشره عبر موقع "العالم 24" المحلي، 10 سبتمبر 2023، أن "جماعاتنا القروية والجبلية مظلومة".

وأردف: "صحيح أنها لم تعد كما كانت قبل عشرين سنة لكنها ما زالت في حاجة للطرق والكهرباء والماء والمدارس والنقل والمستوصفات وسيارات الإسعاف وغيرها".

ورأى الكاتب أن تكرار نفس الاحتياجات رغم مرور كل هذه السنين، مرده أن سياسة الحكومات المتعاقبة والجماعات والجهات، تقوم على تكريس مفهوم التهميش، ولا تجتهد ولا تعمل بجدية.

وشدد السباعي على أنه من غير المنطقي أن تظل ساكنة تلك المناطق تكرر نفس الاحتياجات، رغم مرور سبعين سنة على الاستقلال.

وعبر المتحدث ذاته عن أمله في أن "تؤدي هذه الكارثة إلى إحياء الضمائر الميتة، وأن نسمع قريبا عن تخطيط بعيد المدى للنهوض بالجماعات القروية والجبلية".

تفاعلات مجتمعية

عدد من الفاعلين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، نبهوا إلى الأزمة التنموية التي تعاني منها المناطق المنكوبة، وغياب الخدمات الأساسية، داعين إلى التفكير في حلول جذرية لهذا الوضع بعد تجاوز تبعات الزلزال.

وفي هذا الصدد، قالت القيادية النقابية والفاعلة السياسية حليمة الشويكة، إنها تتخوف من "أن يطغى التطبيل والتباهي الرسمي (بالتضامن الشعبي وقت الزلزال) على أن تدرك الدولة أن جزءا كبيرا من مأساة المنكوبين كان قبل الكارثة".

وأضافت الشويكة في تدوينة نشرتها بحسابها على فيسبوك، 11 سبتمبر 2023، "مساكنهم التي لا ترقى إلى الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، معيشتهم القاسية، قلة ذات اليد، مدارسهم، الطرق والإنارة، كل شيء في تلك المناطق ينطق بالأزمة والفقر والتهميش، حتى إذا جاءت الكارثة كشفت للعالم حقيقة المغرب العميق".

وتابعت أن "الدرس الذي أرجو أن يتعلمه المسؤولون اليوم، هو أن الكوارث تواجه بالتنمية أولا، وأن التضامن الشعبي دليل على أن هذا الشعب يستحق أفضل من هاته النخب الفاسدة التي تسطو على مواقع القرار وعلى مقدرات وخيرات البلد".

واسترسلت الشويكة: "المواطنون هبوا تلبية لنداء الواجب، ما قدموه عظيم إنسانيا، لكنه مجرد ترقيع في سلم التنمية البشرية"، مشددة على أن "الحلول معروفة وإمكاناتها موجودة، فقط قوموا بتنزيلها (تطبيقها) باتخاذ القرارات السليمة التي يستحقها هذا الشعب العظيم".

بدورها، قالت الناشطة الاجتماعية فرح أشبان، مخاطبة ساكنة العالم القروي: "في الانتخابات المقبلة تذكروا أن الطرق غير المعبدة فاي لمغرب العميق أخرت عمليات الإنقاذ والإغاثة يومين".

وأضافت أشبان في تدوينة نشرتها بحسابتها على فيسبوك، 10 سبتمبر 2023، "تذكروا أن رئيس الحكومة لم يخرج بأي وسيلة للتواصل مع المواطنين وشرح الوضعية وطمأنة الخائفين".

وتابعت: "تذكروا أن المستشفيات فيها خصاص (نقص) رهيب في المعدات والأدوات الطبية، وأن الذاهبين للتبرع بالدم لم يجدوا الأكياس المخصصة لذلك، فيعودوا أدراجهم".

وأضافت الناشطة الاجتماعية: "تذكروا جيدا أنه في المغرب العميق لم يسبق أن كانت هناك إرادة سياسية من حديد لكي يتطور ويتحسن، وأن ساكنة تلك المناطق يعيشون بالبركة والقناعة وفي فقر مدقع".

وشددت أشبان أن "الزلزال أتى ليعري المأساة ويوضح لنا الصورة"، داعية المواطنين إلى عدم الثقة في السياسيين الذين يبيعون الوهم للناخبين.

أما الشاعر والكاتب الصحفي منير باهي، فقال إن متابعة ساكنة المدن المغربية لصور الفاجعة، بينت حجم "التناقض الذي تعيشه أرض الزلزال".

واسترسل باهي في تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك، 10 سبتمبر 2023، "اكتشفنا أن هناك مغاربة يعيشون في بيوت من طين مهددة بالانهيار في أي لحظة، معزولين عن العالم بلا طرقات ولا مرافق ولا مستقبل".

وأضاف: "رأينا في وجوههم الألم يمتزج بالبؤس الذي يعِدُ المنتخَبون في كل حملة بالقضاء عليه".

وتساءل قائلا: "لماذا بدا لنا الناس في أرض الزلزال معزولين رغم أنهم يعيشون في منطقة يأتي إليها الناس من كل زاوية بالكوكب؟ ولماذا تبدو منطقتهم مغربا منسيا رغم أنها لا تتوقف عن استقبال السياح والمرشدين السياحيين؟".

وأكد باهي أن السلطات كان بإمكانها "إعادة بناء بيوت الأهالي بمواصفات عصرية تصمد في وجه الهزات والسيول، كان بإمكانها أن تفتح الطرق والممرات، بإمكانها أن تتوقف عن ترويج البؤس والجهل".

وشدد الشاعر والكاتب الصحفي على أن "السلطات لا تعوزها الإمكانيات، والأثرياء لن يمنعَهم شيء عن الاستثمار".

ويرى الخبير الاقتصادي عمر الكتاني، أن معالجة الوضع السلبي على المستوى التنموي بالمناطق التي وقع بها الزلزال، يقوم أساسا على التعليم.

وأضاف لـ "الاستقلال"، كما يجب على الحكومة توفير التكوين المهني لشباب هذه المناطق، وأيضا التعليم العالي للمتفوقين منهم، فضلا عن باقي الخدمات الاجتماعية، كالصحة والنقل العمومي والطرقات وغيرها.

وذكر المتحدث ذاته، أنه لا يصح تكرار الوضع القائم بإعادة إسكان المتضررين في مناطقهم المنكوبة، بل يجب تجميعهم في مناطق مختارة، على شكل مدن صغيرة.

وأبرز الكتاني أن تجميع السكان سيمكن من تركيز الجهود الاستثمارية، والوصول إلى نتائج تنموية أكثر فاعلية، وذات أثر إيجابي ومباشر على الساكنة.

أما الكاتب الصحفي يونس مسكين، فيرى أن سبيل الخلاص من هذا الوضع السلبي، يكمن أساسا في معالجة الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، أي علاج المسببات التي قادت إلى اختلال توزيع خدمات الدولة بالتساوي بين المغاربة.

وأضاف مسكين لـ "الاستقلال"، السبيل أولا يكمن بإقامة ديمقراطية حقيقية، تخرج السلطة من دائرة الظلام، وتخضع القرارات العمومية لإرادة الأغلبية، وتقيم آليات للإنصاف ودعم الفئات الاجتماعية الهشة.

واسترسل أن "السبيل هو أيضا تحرير الاقتصاد المغربي من سيطرة قلة متنفذة ومتحالفة مع السلطة، وتمتيع المغاربة جميعا بفرص العمل والاستثمار وخلق الثروة بعيدا عن الزبونية والمحسوبية والرشوة".

وتابع "السبيل يكمن أيضا بترك القوى المجتمعية تمارس وظائفها السياسية والمدنية وتأطير المجتمع، بدل استهدافها بالتضييق والإضعاف والاختراق وشراء الذمم".