ظهور البغدادي المفاجئ بعد اختفاء 5 سنوات.. الدلالات الكامنة

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

ظهور مفاجئ لزعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي، هو الأول من نوعه منذ 5 سنوات، وصعوده على منبر الجامع الكبير في الموصل العراقية معلنا مولد تنظيمه.

وبقدر ما فاجأ البغدادي الجميع، فإن ظهوره أثار العديد من علامات الاستفهام، فما الرسائل التي أراد إيصالها عبر الفيديو، ولماذا ظهر الآن تزامنا مع أفول التنظيم بمناطق قوته، وتبنيه لعمليات في عدة دول، وما الدلالات الكامنة وراء الظهور؟

ضيافة أمير المؤمنين

ونشرت شبكة إعلامية تابعة للتنظيم عبر تطبيق "تليجرام" ما قالت إنه رسالة فيديو من زعيمها أبو بكر البغدادي، تحت عنوان "في ضيافة أمير المؤمنين"، وتظهر في بداية الفيديو، كتابة نصية تشير إلى أن تاريخ تصوير الفيديو تم في وقت سابق من شهر أبريل/نيسان 2019، بينما لم يتسن التحقق من صحة التسجيل أو توقيت تصويره.

البغدادي قال إن المعركة في "الباغوز"، شرقي دير الزور بسوريا انتهت، الأمر الذي يشير إلى حداثة تصوير المقطع، حيث فقد التنظيم سيطرته على آخر جيوبه في سوريا مارس/آذار الماضي، حين أعلن التحالف الدولي بقيادة أمريكا هزيمة تنظيم الدولة وطرده من سوريا بالكامل، بعد أن تم طرده من العراق المجاور.

وشدد على أن تنظيمه سوف يسعى "للانتقام" لمقتل عناصره، قائلا: "نفذنا 92 عملية في 8 دول "انتقاما لما حصل لمقاتلينا في سوريا"، مشيرا إلى أن معركة تنظيم الدولة اليوم هي معركة "استنزاف ومطاولة للعدو"، كما ألمح إلى أن تفجيرات سريلانكا التي راح ضحيتها المئات هر رد تنظيمه على خسائره في الباغوز.

وفي الفيديو الذي تتخطى مدته 18 دقيقة، ظهر البغدادي بلحية طويلة بيضاء ومحناة على الأطراف، واضعا منديلا أسود على رأسه، ويفترش الأرض في جلسة عربية إلى جانب آخرين أخفيت وجوههم، وبجواره سلاحا ويتصفح بعض الملفات الورقية، التي بدا أنها أوراق تنظيمية تخص معاقل التنظيم في العديد من الدول والمناطق، والمسماة لدى التنظيم "ولايات"، وظهر منها ولايات تركيا، ليبيا، الصومال، سيناء، الشام، واليمن.

وبدا البغدادي ملما باحتجاجات الجزائر والسودان، قائلا: "سقوط طاغوت الجزائر والسودان شيء جيد، ولكن من المحزن أن الناس لم يفقهوا حتى هذه اللحظة لماذا خرجوا وماذا يريدون؟ فقد استبدلوا طاغية بآخر"، وعن العملية التي نفذها عناصر التنظيم في الزلفي بالسعودية مؤخرا، قال: "نسأل الله أن يكون لها ما بعدها، ونوصيهم بأخذ التأثر والسعي لمواصلة الجهاد ضد آل سعود".

زي خليجي

وعند الخوض في المشهد العام الذي أظهره الفيديو، تبدو مجموعة من الملاحظات الأولية التي تشير إلى أشياء معينة، ولا تخلو من دلالات كثيرة، تكشفها المشاهد المصورة بدقة شديدة.

ورغم أن البغدادي ظهر بصحة جيدة ووزن أكبر بكثير من ظهوره الأول في 2014، إلا أن ذلك لم يخف توترا باديا على ملامح وجه، ونظرات زائغة لم ينظر خلالها إلى الكاميرا، بينما وزعها على الجالسين معه، كما تشير الحناء في لحيته إلى رغبته ربما في إخفاء الشيب الذي يعتريها للظهور في شكل أصغر سنا.

وعلى عكس خطبته في 2014 المليئة بالعبارات الرنانة والخطابة البليغة والصوت الحاد الذي لا ينقطع، أظهر الفيديو الأخير البغدادي وهو يتنهد طويلا بين الجملة والأخرى، رغم عدم ظهور علامات تعب أو إرهاق عليه.

لم يكن ضيوف البغدادي أقل جدلا من زعيمهم، في الجلسة العربية التقليدية التي جمعتهم، فبينما ظهر اثنان ملثما الوجه، اكتفى بالتشويش على وجه الثالث، الذي ظهر مرتديا زيا خليجيا تقليديا "الشماغ والعقال" خلافا لما اعتادت عليه عناصر التنظيم، ربما في ربط بينه وبين ما قيل بشأن السعودية، أو ما هو مخطط له مستقبلا.

وحسب مراقبين، فإن الجالسين بصحبة البغدادي هم قيادات التنظيم، وأن الشخص الذي ظهر مرتديا الزي الخليجي هو "أبو عبد الرحمن الشامي" رئيس ما يسمى بـ"اللجنة المفوضة لإدارة الولايات" والمقرب من البغدادي، والذي قاد بجانبه صراعا داخليا بين أجنحة مختلفة في التنظيم خلال عام 2017، بحسب تقارير إعلامية.

رغبة الانتقام

بعيدا عن الأمور الشكلية الموحية، فإن ثمة دلالات عديدة يكشفها المقطع المصور للبغدادي والذي يتزامن مع الذكرى الخامسة لتأسيس تنظيم الدولة، أبرزها أنه يتضمن اعترافا بالهزيمة في سوريا وفقدان آخر معاقل التنظيم فيها، وتلاشي الأمل لديه في العودة بشكل أو بآخر إلى الشام أو العراق مهد التنظيم.

لكن مع الاعتراف أراد البغدادي إيصال عدة رسائل في غاية الأهمية، أولها أنه حي وسليم معافى، بعد انتشار تقارير في الآونة الأخيرة تفيد بمقتله وأخرى بإصابته، أما الرسالة الثانية فهي أنه لا يزال يمسك بزمام القيادة في التنظيم، بعد أن تحدث كثيرون عن خلافات عميقة تضربه وصلت إلى حد محاولة اغتيال البغدادي.

وجاء تقديم ملفات ما يسمى "الولايات الخارجية"، ليبدو أنه (البغدادي) هو من يدير هذه الولايات جميعا، ولكي يقول إن التنظيم ما زال متماسكا، رغم تحوله إلى حرب الاستنزاف، وأنه ما زال يتمدد، بدليل إعلانه تأسيس ولاية الصحراء جنوب مالي.

التأكيد على تنفيذ التنظيم للعديد من العمليات أبرزها تفجيرات سريلانكا، يعطي إيحاء بأن التنظيم قوي ولا يزال قادرا على توجيه ضربات متتالية لمن يراه عدوا، وأنه ليس محصورا في العراق وسوريا، بل امتدت يده لتطال بلدا في جنوب آسيا.

ملف الولايات الخارجية، يشي في دلالة شديدة الوضوح على خطط التنظيم في المرحلة المقبلة التي سماها "الاستنزاف"، ويعطي مؤشرا على المناطق والدول المستهدفة من عملياته المقبلة.

لعل أبرز دولة في هذا السياق هي فرنسا التي أسهب البغدادي في الحديث عنها وتوجيهه لعناصر التنظيم بشن هجمات عليها، وتركيا التي تصنف تنظيم الدولة إرهابيا، فيما يتهمها الأخير بالتورط في حصاره وحربه بالمناطق الحديدية بين سوريا وكل من تركيا والعراق.

فالزعيم الذي لم يخف هزيمته، أصر على تأكيد استعداده لانطلاقة جديدة ربما لن تكون مرتبطة بمنطقة معينة إداريا، بل منتشرة ومتمددة وربما كان المقطع الأخير قد حوى أوامر مباشرة متفق عليها لعناصر التنظيم في دول بعينها للتركيز عليها في شن الهجمات خلال مرحلة الاستنزاف.

المثير أن تلك الانطلاقة المرتقبة، تشير في الوقت ذاته إلى عامل ضعف شديد أصاب التنظيم، بحيث لم يعد قادرا على إعادة فرض سيطرته الكاملة على أراض معينة كما كان في الماضي، إلا أنه يحاول تحويل ذلك إلى نقطة قوة وليس ضعف، بالانتشار والضرب في أماكن متفرقة غير مرتبطة جغرافيا.

البغدادي حاول عند حديثه عن الربيع العربي وثورتي الجزائر والسودان، إلى إيهام الشعوب العربية بأن تنظيمه هو البديل المناسب لمواجهة الأنظمة القمعية الديكتاتورية، مستغلا ما آلت إليه هذه الثورات في بلدان مثل مصر وليبيا واليمن، وهي الدول المذكورة في ملف الولايات الخارجية.

البغدادي.. بين ظهورين

في 4 يوليو/تموز 2014، ظهر البغدادي للمرة الأولى معتليا منبر جامع النوري الكبير في الموصل العراقية، معلنا نفسه "خليفة" وداعيا إلى مبايعته تحت راية "الدولة الإسلامية" بعد أن أسقط منها العراق والشام.

"الخليفة" الذي بدا وقتها منتشيا بانتصاراته المتتالية ودولته التي تتسع وسيطرته التي بات يبسطها على أرجاء كبيرة في العراق وسوريا، تغير حاله كثيرا بعد هذا المشهد بنحو 5 سنوات، حين ظهر في الفيديو الأخير معترفا بهزيمة ساحقة أنهت وجود تنظيمه في كلا البلدين، بلا رجعة.

المؤكد أن المتغيرات التي وقعت خلال تلك السنوات البينية لم تكن قاصرة على بنية البغدادي الجسمانية ومظهره الخارجي وطريقة حديثه وغيرها من المظاهر الشكلية، مع الأخذ في الاعتبار ما لهذه المظاهر من دلالات وإيحاءات هامة.

فبعد أن سيطر التنظيم على الموصل العراقية، أعلن البغدادي في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 أن تنظيمه تمدد ووصل إلى كل من مصر واليمن والسعودية وليبيا والجزائر، لتتوالى انتصاراته وسيطرته على المدن العراقية والسورية حتى بات متحكما في نصف مساحة سوريا والمعبر الحدودي بين البلدين.

في ذات الشهر أسست الولايات المتحدة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة بمشاركة عربية واسعة، موجها العديد من الضربات التي نجحت في إبعاد التنظيم عن بعض المدن، إلا أنه كان ينسحب من مدينة ثم ينجح في السيطرة على أخرى، في معارك كر وفر مستمرة.

وكان عام 2016 بداية انهيار التنظيم، حيث فقد السيطرة على مدن استراتيجية من بينها سرت في ليبيا، والفلوجة والأنبار في العراق، ومنبج وجرابلس في سوريا، ثم توالت هزائمه خلال 2017 ليفقد معقله الأقوى والأبرز بمدينة الرقة السورية ويخسر كذلك تدمر الأثرية، ويستعيد الجيش العراقي الموصل التي أعلن البغدادي منها نفسه خليفة، ثم يحكم سيطرته على كامل الأراضي معلنا بذلك هزيمة التنظيم.

في 2018 توالت هزائم التنظيم الذي لم يكن مسيطرا سوى على أقل من 2% من مساحة سوريا وتُعلن هزيمته هناك بالكامل في مارس/آذار 2019، وخرج من آخر معاقله "الباغوز" في معركة أكد البغدادي في الفيديو الأخير أنها "انتهت".

صنيعة أمريكية!

وبين الزعيم المنتصر والآخر المعترف بالهزيمة، والمستقبل الذي ينتظر العالم مع حرب الاستنزاف المرتقبة، ربما لم يجب أحد صراحة عن الجهة التي يعمل لصالحها التنظيم، فبينما يرى كثيرون أن نشأته وامتداده نتيجة حتمية للغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، يقول آخرون أنه مجرد صنيعة أمريكية لخدمة أغراض الولايات المتحدة في مناطق كثيرة بالعالم.

هؤلاء يرون أن أمريكا تمول التنظيم سرا فيما تخوض ضده معارك وهمية تنجح من خلالها في بسط نفوذها من ناحية، ومن الناحية الأخرى تدمير الجيوش العربية الوطنية لصالح ميليشيات طائفية، وكذلك استنزاف دول الخليج النفطية مالا وسلاحا.

وحسب خبراء فإن عام 2015 خلال ولاية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما شهد تقاعسا من واشنطن في محاربة "تنظيم الدولة"، بل وصل الأمر إلى تزويد مقاتليه بالسلاح والمؤن عن طريق الخطأ، وكذا تسريب إدارة أوباما للخطط والمشاريع المزمعة لتحرير مدينة الموصل العراقية، حتى يتحسب الأخير لها ويعد العدة لمواجهتها.

وربما تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية إنتاج ورعاية التنظيمات المسلحة التي انبثقت من عباءتها لاحقا وتباعا لتبدأ نشاطها العالمي منذ عام 1979 حيث الغزو السوفييتي لأفغانستان في أوج الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فهنالك اعتمدت وكالة الاستخبارات الأمريكية إستراتيجية إثارة العامل الديني في نفوس الشباب المسلم وتوظيفه لمحاربة السوفييت في أفغانستان.

فلطالما دأبت الدوائر الأمريكية على الترويج لفكرة مفادها أن الغزو السوفييتي لأفغانستان إنما هو في حقيقته عدوان من دولة ملحدة على شعب مؤمن، الأمر الذي يستوجب استنفارا عالميا للمؤمنين والمجاهدين بقصد تحرير الشعب الأفغاني المؤمن من براثن الغزو السوفييتي البربري الملحد.

وأُبرمت لأجل ذلك المقصد في حينها صفقة بين المخابرات الأمريكية وأجهزة استخباراتية شرق أوسطية وعربية، بحسب خبراء، لتشكيل ما سمي وقتذاك بتنظيم "المجاهدون الأفغان" بعد أن تم استنفار الشباب المسلم من مختلف الأصقاع العربية والإسلامية، وإمدادهم بالسلاح الناجز.

وما أن وضعت الحرب أوزارها عام 1990 بانتصار المعسكر الغربي وحلفائه ووكلائه وهزيمة القوات السوفيتية وإعلان الرئيس ميخائيل جورباتشوف سحب قوات بلاده من أفغانستان، حتى أوقفت واشنطن نشاطها وقررت مغادرة المنطقة تاركة "المجاهدين" يتصارعون ويقتتلون إلى حين ظهور حركة طالبان وسيطرتها على المشهد الأفغاني واستضافتها تنظيم القاعدة، الذي حملته واشنطن مسؤولية هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، والتي غزا على إثرها الأمريكيون أفغانستان.

مؤخرا، طالت الشبهات دوائر أمريكية بالتفاهم مع تنظيمات على شاكلة "تنظيم الدولة" وجبهة النصرة وغيرهما، بدعم من شركاء ووكلاء إقليميين بغية توظيفها في الإستراتيجية الأمريكية الرامية إلى تغيير خارطة المنطقة بالكامل توطئة لنقل مركز الثقل في الإستراتيجية الأمريكية من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا تحسبا للخطر الصيني المتفاقم.

المثير في تلك الجزئية المتعلقة بتنظيم الدولة، أن زعيمه أبو بكر البغدادي كان معتقلا في سجن "بوكا" الأمريكي خلال عام 2004 ثم أُفرج عنه بعدها بأقل من عام ليشارك عام 2006 في قيادة تنظيم الدولة بالعراق، بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة هناك أبو مصعب الزرقاوي.

وتحت وطأة الضغوط الإعلامية والمساءلات السياسية، نقلت تقارير إعلامية عن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد أوباما أنها أقرت بضلوع واشنطن في تأسيس وتطور تنظيم الدولة، وذلك في إفادة سرية لها أمام الكونجرس أدلت بها في أبريل/نيسان 2013.