تركيا في مأزق بسبب حرب أوكرانيا.. تغلق مضائقها بوجه روسيا أم الغرب؟

إسماعيل يوسف | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

مع تصاعد الصراع بين الغرب وروسيا التي أطلقت في 24 فبراير/ شباط 2022، حربا للسيطرة على أوكرانيا، تعيش تركيا مأزقا حقيقيا بين رفضها مخططات موسكو العدوانية، ودورها كعضو في حلف شمال الأطلسي "ناتو" الذي شرع في فرض عقوبات على وريثة الاتحاد السوفيتي.

وتعطي ظروف الحرب تركيا الحق بموجب اتفاقية "مونترو" لعام 1936 أن تمنع مرور السفن الحربية الروسية والغربية عبر مضيقي البسفور والدردنيل، إلى البحر الأسود، الذي تطل عليه أهم الموانئ الروسية والأوكرانية.

فعندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 21 فبراير، الاعتراف رسميا باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، انتقدت تركيا، هذه الخطوة، لكنها امتنعت عن الإعلان عن أي إجراءات عقابية، على غرار بقية حلفائها بالناتو.

ومع بدء روسيا عملياتها العسكرية على أراضي أوكرانيا، زاد المأزق التركي، وخصوصا بعدما طالبتها أوكرانيا بتنفيذ ما جاء في اتفاقية مونترو، وإغلاق المضائق البحرية التركية أمام السفن الروسية.

وكانت روسيا تطالب طوال الأشهر الماضية بـ"ضمانات أمنية" كشرط لخفض التصعيد، أبرزها انسحاب الناتو من أوروبا الشرقية وعدم إلحاق أوكرانيا بالحلف، وهي مطالب اعتبرها الغرب غير مقبولة.

مأزق حقيقي

وتركيا لديها سلاح فريد، وفق مراقبين، يمكنها عبره تهديد روسيا وترويضها لو أرادت، وهو اتفاقية مونترو، المصادق عليها من قبل 10 دول، أهمها إلى جانب تركيا، بريطانيا وفرنسا واليونان والاتحاد السوفيتي.

ووُقِّعت الاتفاقية في سويسرا عام 1936، وتمنح أنقرة السيطرة على المضائق الموجودة داخل حدودها، وتمكنها من عرقلة مرور السفن خلال أوقات الحرب من وإلى البحر الأسود.

ويطل على البحر الأسود، دول أوكرانيا، وروسيا، وجورجيا، وتركيا، وبلغاريا، ورومانيا.

كما يمكنها الحد من وصول السفن الحربية البحرية الأميركية والروسية، ما يساعد على حماية البحر الأسود من العسكرة.

وخلال الحرب الباردة، كانت هذه الاتفاقية بمثابة صمام أمان بالنسبة لتركيا والدول الغربية في مواجهة التهديدات السوفييتية.

أما بعد الحرب الباردة، فشهدت تحولا من حيث المفهوم والأهمية، إذ تغيّرت موازين القوى في البحر الأسود إثر تفكّك الاتحاد السوفييتي وميول الدول الواقعة تحت سيطرة روسيا نحو الدول الغربية الواحدة تلو الأخرى.

وفي زمن الحرب، يُسمح لتركيا بإغلاق المضائق أمام جميع السفن الحربية الأجنبية أو عندما تكون هي مهددة بالعدوان كما يمكنها رفض عبور السفن التجارية من البلدان التي هي في حالة حرب مع تركيا، وتحصين المضائق في حالة نشوب نزاع.

وعلى جميع الدول الأخرى التي ترغب في إرسال سفن إخطار تركيا قبل 15 يوما، في حين أن على دول البحر الأسود تقديم إشعار في مدة ثمانية أيام.

لكن مصالح تركيا مع روسيا تعرقل فرضها أي قيود أو تنفيذ بنود اتفاقية مونترو رغم إدراكها أن الحرب في المنطقة تضر اقتصادها بشدة، لذا تبدو كمن يتحرك على حبل مشدود.

ورفض أنقرة العقوبات على موسكو يرجع لاشتباك مصالحها معها، ورغبتها في توازن العلاقات من جهة، ولاعتمادها على الغاز الروسي وحاجتها للعلاقات التجارية والسياحة الروسية من جهة أخرى.

ومنذ اندلاع التوترات في الساحة الأوكرانية، اكتفى المسؤولون الأتراك بتأكيد "الدور الفعال" لاتفاقية مونترو "في الحفاظ على السلام الإقليمي"، ولم يحددوا الموقف الذي ستتخذه البلاد في حال اندلاع حرب.

وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 26 يناير/ كانون الثاني 2022، إن تركيا ستفعل ما هو ضروري كحليف بالناتو، إذا شنّت روسيا غزوا، دون تفاصيل.

ويكمن سر الموقف التركي الهادئ نسبيا فيما يخص فرض عقوبات على روسيا بموجب اتفاقية مونترو، في اعتماد تركيا على روسيا في مجال الطاقة والسياحة، إضافة إلى تعاون وثيق في مجال الدفاع بالسنوات الأخيرة.

مصالح مشتركة

وتشير إحصاءات دولية أن روسيا زودت تركيا بـ46 بالمئة من احتياجاتها من الغاز عام 2021، وأنقرة تتطلع لإبرام صفقات غاز قصيرة الأمد مع موسكو لتخفيف تكاليف الاستيراد.

وفي عام 2008، عندما اعترفت روسيا باستقلال المنطقتين الجورجيتين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، رفضت أنقرة طلب الولايات المتحدة تطبيق اتفاقية مونترو على روسيا أو السماح للسفن الحربية الأميركية بالمرور عبر المضيق لنفس الأسباب.

وخلال الحرب العالمية الثانية منع اتفاق مونترو دول المحور من إرسال قوات بحرية عبر المضيق لمهاجمة الاتحاد السوفيتي.

لذا تركت الأزمة الرئيس أردوغان يوازن بين تلك العلاقات الدبلوماسية جنبا إلى جنب مع واجباته داخل الناتو، مع التركيز على حماية الاقتصاد التركي المحاصر من الصدمات المتتالية بعد أزمة العملة في ديسمبر/ كانون الأول 2021.

ويقول محللون إن أي خطوة تركية بعيدة للغاية ضد موسكو، ستجعل أنقرة تخاطر بإفساد إمدادات الطاقة والتجارة والسياحة الروسية المهمة، بحسب وكالة رويترز في 23 فبراير 2022.

وتضيف الوكالة البريطانية أن احتمال نشوب صراع طويل غير دموي أو عقوبات جوهرية على صادرات الطاقة الروسية هو ما قد يضر بتركيا بشدة ويهدد الاستقرار الاقتصادي.

ولتحقيق التوازن الذي استخدمته تركيا على مدى عقود، غالبا ما يسلط أردوغان الضوء على صداقته مع بوتين، لكنه حذر روسيا من الغزو وعرض التوسط في الأزمة، كما انتقد في الوقت ذاته تعامل الغرب مع الأمر باعتباره عائقا أمام السلام.

وتعاني تركيا نفسها من عقوبات أميركية لذا ترفض أن تشارك في أي عقوبات على أي دولة، فحين اشترت أنظمة دفاع "إس 400" الروسية في 2019، أثار ذلك غضب الولايات المتحدة وفرضت عقوبات على أنقرة.

وتركيا لا تريد أيضا مزيدا من توتر العلاقات مع روسيا، لا سيما بعد أن باعت طائرات بدون طيار متطورة لأوكرانيا ووقعت صفقة للمشاركة في إنتاج المزيد، ما أغضب موسكو.

كما تعارض تركيا السياسات الروسية في سوريا وليبيا، وتعارض ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، واعترافها باستقلال منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا.

اجتماع فوري

فور بدء العدوان الروسي، في 24 فبراير، عقد سفير أوكرانيا لدى أنقرة، مؤتمرا صحفيا أكد فيه إن بلاده طلبت من تركيا إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الروسية، وفرض عقوبات على موسكو.

كما سارع الرئيس أردوغان بعقد قمة أمنية بحضور قادة عسكريين وأمنيين لبحث ملف أوكرانيا بالمجمع الرئاسي.

وفي مقدمة الحاضرين للقمة الأمنية، نائب الرئيس، ووزيرا الدفاع والداخلية ورؤساء هيئة الأركان والاستخبارات ومسؤولو الرئاسة، ما يشير لاهتمام تركيا، وحاجتها لاتخاذ قرارات متوازنة لا تضر أمنها ولا اقتصادها وعلاقتها مع الأطراف المتصارعة.

وتخشى تركيا لو منعت السفن الروسية الحربية من المرور، الدخول في تصعيد مع موسكو يضرها اقتصاديا وهي في أمس الحاجة للاستقرار لإنجاح خطة أردوغان لوقف التضخم وخفض الليرة.

وفي الوقت نفسه، تفرض عليها عضويتها في حلف الناتو عدم ترك روسيا تظفر بأوكرانيا، برغم أن حلف الناتو نفسه أعلن أنه لن يتدخل لأن كييف ليست عضوا به.

أميركا والناتو وضعوا تركيا في الواجهة كونها قادرة على التحكم بالمضائق وبحركة القطع البحرية الروسية، معتبرين أن الدور التركي واستخدام حقها في اتفاقية مونترو، قد يعرقل التصعيد في الحرب بسبب سيطرتها على المضائق.

لكنها لم تقم بذلك حتى الآن، وربما لا تفعل لو توقف العدوان الروسي ولم يصل لاجتياح كامل، واقتصر، كما قال القادة الانفصاليون في أوكرانيا، على السيطرة على بقية مناطق الجمهوريتين اللتين اعترف بهما بوتين دونيتسك ولوغانسك.

وهذه الحيرة التركية انعكست على بيان الرئاسة التركية عقب انتهاء الاجتماع الأمني الذي عقده أردوغان.

إذ أكد رفض تركيا للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا باعتبارها انتهاكا للقوانين الدولية، وناقش المبادرات التي من الممكن طرحها لإنهاء التصعيد، لكن لم يرد أي حديث في البيان عن نية أنقرة تعطيل حركة سفن روسيا وفق "مونترو".

ولخص الرئيس التركي في كلمته بعد الاجتماع الأمني موقف بلاده مما يجرى بين روسيا اوكرانيا، وفق البيان، في "رفض العمليات العسكرية الروسية، ودعم وحدة واستقرار الأراضي الأوكرانية، والدعوة للحوار وتغليب الدبلوماسية والعودة لاتفاقية مينسك".

ويعني هذا أن الموقف التركي لم يتغير عن الأيام السابقة، إذ تحاول أنقرة الموازنة وطرح مبادرة سياسية، ولديها أسبابها التي تتعلق بعلاقتها المعقدة مع روسيا.

قناة إسطنبول 

يذكر أن أردوغان عندما كان رئيسا للوزراء عام 2011، أعلن عن مجموعة من "المشروعات العملاقة" التي تهدف إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي للبلاد ليصل إلى تريليوني دولار بحلول الذكرى المئة لإعلان الجمهورية، في عام 2023.

وكان المشروع الأكبر والأكثر إثارة للجدل بينها "قناة إسطنبول"، التي ستكون موازية لمضيق البسفور الحالي وتخفف الضغط عنه، ولن تخضع بالتالي لقيود اتفاقية مونترو الدولية المبرمة في المرحلة الاستعمارية.

وتكمن أهمية هذا المشروع أنه سيغير من وجه النقل البري والبحري في تركيا، ويخفف من الضغط على مضيق البوسفور في الشرق، الذي يعتبر من أكثر الممرات المائية ازدحاماً وتلوثا ويشهد كثافة ملاحية هي الأعلى عالميا.

وتقول الحكومة التركية إن مشروع القناة سيدر عليها ثمانية مليارات دولار سنويا، مقابل التعريفات التي تدفعها السفن من أجل المرور عبرها، كون القناة لن تخضع لاتفاقية مونترو التي تنص على حرية الملاحة دون رسوم.

لكن قناة إسطنبول تثير مخاوف موسكو بشأن استخدامها لأغراض عسكرية، إذ تتخوف من فتحها الباب أمام وجود السفن الحربية الأمريكية في البحر الأسود والتي تقيدها اتفاقية مونترو .

وفي أبريل/ نيسان 2021، أصدر 103 جنرالات أتراك بيانا زعموا فيه أن هذه القناة ستجلب مشاكل لتركيا، وأن أردوغان سينسحب من اتفاقية مونترو، ما قد يغضب العالم ويعرض تركيا للخطر.

وقوبل بيان الجنرالات بحزم شديد، وتم التحقيق معهم. وقال الرئيس أردوغان عن بيانهم إنه تضمّن عبارات تهديدية تذكّر بـ "البيانات التي سبقت الانقلابات العسكرية التي عانت منها تركيا" لعقود طويلة".

كما نفى الرئيس التركي حينذاك وجود "أي خطط للانسحاب من اتفاقية مونترو"، مؤكدا أن مشروع قناة إسطنبول لا علاقة له بالاتفاقية، وأنقرة لا تنوي مراجعتها أو الخروج منها.