الشارع الموريتاني يغلي والرئيس يتدخل.. ملابسات مقتل ناشط حقوقي بمخفر للشرطة

عالي عبداتي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

تفاعلٌ كبير شهدته قضية مقتل الناشط الحقوقي الموريتاني الصوفي جبريل ولد الشين، داخل مخفر للشرطة، تحولت على إثره إلى قضية رأي عام.

وهو ما دفع الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني إلى التدخل لإجراء تحقيق فيها، وسط دعوات شعبية بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.

غضب شعبي

الحادث وقع في 9 فبراير/ شباط 2023، وقالت الشرطة بخصوصه في بيانها الأول، إن الصوفي تعرض لوعكة صحية مفاجئة خلال توقيفه لدى مفوضية الشرطة رقم 2 بدار النعيم، بناء على تعليمات من النيابة العامة، بعد التوصل بشكاية ضده وتعذر وجود ضامن إحضار له.

وذكرت إدارة الأمن الوطني الموريتاني، في بيان نقله موقع "أنباء" المحلي، 10 فبراير 2023، أنه "جرى فتح تحقيق قضائي في هذه الحادثة للوقوف على ظروفها وملابساتها"، مشددة على أن العدالة ستأخذ مجراها الطبيعي في هذه القضية بكل شفافية.

من جانبه، قال موقع "موريتانيا الآن"، في 11 فبراير 2023، إن "رئيس الجمهورية أصدر تعليمات لوزير الصحة المختار ولد داهي، بقطع المهمة التي كان يقوم بها في داخل البلاد، وبدء إجراءات التحقيق في وفاة الشاب الصوفي جبريل".

ووفق المصدر ذاته، أمر الرئيس وزير الصحة بتشكيل فريق متعدد الاختصاصات من أجل الإشراف على التشريح الجنائي للجثة، ومن ثم إعداد تقرير طبي مستقل سيجري رفعه إلى الرأي العام بكل استقلالية وشفافية.

واشتهر القتيل بنشاطه الحقوقي، ودعوته لضرورة التعايش بين مختلف شرائح المواطنين وانتماءاتهم العرقية والقبيلة في ظل الدولة الموريتانية، الموحدة والديمقراطية، ورفعه شعار "اللحمة الوطنية"، وكان شديد اللهجة في مواجهة المتطرفين العرقيين، سواء من أبناء شريحته القبلية أو من غيرهم.

وتداول مواطنون وفاعلون موريتانيون مقاطع فيديو عبر فيسبوك، ترصد نشاط جبريل الصوفي الحقوقي ودفاعه عن بعض المظلومين، أو يتحدث فيها عن قضايا حقوقية وطنية.

 ومن ذلك فيديو شاركه رئيس حزب الشباب الوطني الديمقراطي لحبيب ماء العينين التومي في 10 فبراير 2023.

إثر ذلك، ووفق ما نشر موقع "الصحراء"، 12 فبراير 2023، قال وكيل الجمهورية في نواكشوط الشمالية محمد الأمين ولد باري، إن النتائج الأولية للتشريح الطبي لجثمان الراحل الصوفي كشفت أنه مات مقتولا.

وأكد وكيل الجمهورية أن التشريح كشف وجود سببين قد يكون أحدهما أدى للوفاة، إذ توجد كسور في فقرتين من رقبته، وتعرض للخنق.

وبحسب المصدر ذاته، أعلن وكيل الجمهورية في نواكشوط الشمالية "أنه جرى إعطاء الأوامر بتوقيف مفوض دار النعيم 2 وجميع العناصر المداومة في مفوضية الشرطة وقت الحادثة للاشتباه في ارتكابهم جريمة القتل".

وكشف الوكيل أنه جرى تشكيل لجنة يرأسها المدعي العام ونائبه وبعضوية وكيل الجمهورية في نواكشوط الشمالية ونائبه وضباط من إدارة الأمن الوطني، وأن تقريرها سيحال على العدالة في الأيام القادمة، على حد تعبير الوكيل.

وفي ندوة صحفية عقدها المسؤول القضائي نفسه، في 13 فبراير 2023، جدد المتحدث القول بأن آثار الضرب والعنف في نواحي عدة من بدن القتيل واضحة.

وذكر ولد باري أن "المرحوم قتل بالعنف المادي في مكان الحجر، وأن المشتبه فيهم قيد التحقيق، وسيجري تقديمهم للعدالة فور انتهاء التحقيق"، داعيا إلى عدم التشكيك في الإجراءات الحكومية المتخذة.

جريمة بشعة

في توصيفه للحادث، أكد رئيس حركة "كفانا" الحقوقية الموريتانية يعقوب أحمد لمرابط، أن "ما حدث انتهاك خطير لحقوق الإنسان، وجريمة بشعة مكتملة الأركان".

وقال ولد لمرابط لـ "الاستقلال"، إن مسؤولية الجريمة التي وقعت في حق الناشط الحقوقي الصوفي ولد الشين، تقع على عاتق الأجهزة الأمنية، ومفوضية دار النعيم 2، والإدارة العامة للأمن الوطني، ووزارة الداخلية".

وتابع: "هناك أمور يجب أن تكون واضحة وصريحة من ناحية المبدأ، ولذلك أعبر بشكل مباشر وصريح عن أن القضاء الموريتاني على المحك أمام هذه الواقعة".

في جوابه عن سؤال الترابط بين ما وقع للقتيل ونشاطه الحقوقي والسياسي، قال ولد لمرابط إن الأمر لا يمكن فصله.

 إذ إنه حينما يجرى القتل على أساس دعوى مدنية بسيطة، فمن الطبيعي أن نجد أنفسنا أمام العديد من إشارات الاستفهام.

وأوضح أن هذا الاستفهام يتعلق بارتباط حادثة القتل بنشاط الصوفي الحقوقي والسياسي، مشددا على أن التحقيق يجب أن يجيب بشكل لا لبس فيه عن تلك الأسئلة العالقة، التي تضع نفسها بشكل موضوعي ينسجم وواقع الأحداث.

من جانبه، أكد الخبير القانوني والمحامي محمد المامي مولاي اعل، أن "القتل بواسطة التعذيب لا يكون خطأ".

وقال ولد مولاي اعل، وفق ما نقل الموقع المحلي "الفكر"، 12 فبراير 2023، عقب إعلان وكيل الجمهورية بولاية نواكشوط الشمالية نتائج تشريح جثمان الفقيد، إنه "لا مانع من اجتماع عدة أوصاف جرمية في واقعة واحدة؛ قتل عمد، وتعذيب، وإساءة استعمال السلطة".

ورأى الخبير القانوني أن "ضمان حياد التحقيق يقتضي إسناده لسلك من الضبطية القضائية لا ينتمي إليه المشتبه فيهم"، مشيرا إلى أن "التحقيق عيني لا شخصي، يتعلق بالوقائع بحثا عن مرتكبها، لا بالأشخاص سعيا لنسبة الأفعال إليهم".

ولفت ولد مولاي اعل إلى أن "حرمان أي موقوف من الضمانات القانونية يعد قرينة قوية على ممارسة التعذيب ضده"، مبينا أن "ضمان حقوق المشتبه فيهم وكفالة حقهم في الدفاع شرط في تحقق العدالة".

وأعلنت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، تشكيل فريق مشترك مع المفوضية السامية للأمم المتحدة، وتكليفه بتحقيق شفاف وموضوعي، يعتمد نهج المهنية في الظروف التي اكتنفت وفاة المواطن الصوفي ولد الشين. 

وأكدت اللجنة في بيان، وفق ما نقلت "الوكالة الموريتانية للصحافة"، 10 فبراير 2023، أن الفريق باشر عمله على الفور، ولقي تعاونا إيجابيا من قبل السلطات الأمنية.

وشدد على أن اللجنة تبذل قصارى جهدها في هذا الصدد مع  المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

بدوره، قال رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان أحمد سالم ولد بوحبيني، إنه "من الواضح أن معايير استجواب واحتجاز ولد الشين لدى الشرطة انتهكت بالفعل".

وأكد ولد بوحبيني، وفق الموقع المحلي "صحراء ميديا"، 11 فبراير 2023، أن هذا أمر خطير، مشيرا إلى أن "الإفلات من العقاب في حالة إثبات المسؤولية أكثر خطورة في دولة القانون".

وقال: "يحق لنا أن نتوقع من السلطات، في الزخم الحالي لاحترام حقوق الإنسان، عدم التسامح مطلقا فيما يتعلق بالإفلات من العقاب".

تفاعلات مجتمعية

من جانبه، أكد حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"، الإسلامي، أنه يتابع بقلق بالغ المجريات المتعلقة بوفاة المواطن الموريتاني المرحوم الصوفي ولد الشين. 

وشدد الحزب في بيان، نشره بصفحته الرسمية على فيسبوك، 11 فبراير 2023، على "وجوب أخذ العدالة مجراها الطبيعي في الواقعة".

ودعا إلى معاقبة من يثبت ضلوعهم في عملية الوفاة، مشيرا إلى "حرمة الدماء المعصومة وخطورة استسهال انتهاكها".

والمطلب نفسه دعا إليه زعيم المعارضة الموريتانية، إبراهيم ولد البكاي، مع ما تترتب عليه من عقوبات رادعة للمسؤولين عن الواقعة.

ورأى ولد البكاي في بيان، 10 فبراير 2023، أن الحادثة "توقظ هواجس تحول مخافر الشرطة لمراكز للتعذيب وسلب المواطنين من أرواحهم وانتهاك كرامتهم"، مدينا ما وصفه بـ "أساليب العنف والشطط التي لا تزال تحكم علاقة بالأجهزة الأمنية بالمواطنين".

أما الناشط المدني، الخليل الخياري، فقال في تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك، 13 فبراير 2023، "من واجبنا كمهتمين بالقضايا العامة أن ندعو لضبط النفس وعدم ركوب الموجة في قضية المرحوم بإذن الله الصوفي ولد الشين".

وأردف: "نطالب بتفهم القضية كونها غير طبيعية، وفعلا للأمانة كل إجراءات السلطات مقدرة ومثمنة، فقط التحقيق القضائي في شأن الجناة ينبغي أن يكون على قدر التحدي، ويتسم بالعدل والإنصاف وأن يستفاد من الدرس المرعب".

وفي تصريحه لـ "الاستقلال"، قال ولد لمرابط إن "حركة "كفانا"، وما أن علمت بواقعة الوفاة، حتى عملت على جمع المعلومات حول الحادث وتوثيقها بشكل جيد.

وأردف: "وثقنا الرضوض والكدمات، وآثار القيود في اليدين والرجلين والدماء المنتشرة على الجسم ونزول الدم من الأنف.. الخ".

واسترسل: "كما عملت الحركة على إبلاغ الهيئات الحقوقية، الوطنية والدولية بالواقعة وطلبت دعمهم من أجل المعاينة والتحقيق".

وأوضح ولد لمرابط، أن المجتمع الموريتاني تفاعل بشكل عام مع الحادث منذ البداية، ويرى أن اتساع التفاعل يشكل حماية شعبية للقضية.

كما يشكل جدارا عازلا للوقوف أمام هذا النوع من الانتهاكات الخطيرة التي تُعد كارثة على مستقبل حقوق الإنسان وسلامة الناشطين المعارضين، وفق قوله.

وقال ولد لمرابط إن التفاعل المجتمعي مع الواقعة ساهم فيه الجميع، بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والقبلية والجهوية، وحتى السياسية مع الموقف الخجول لأحزاب الموالاة.

الحاضر والمستقبل

وأكد الناشط الحقوقي الموريتاني يعقوب أحمد لمرابط، أن التفاعل مع القضية يراد منه صون الحق في الحياة، كأقدس حق تضمنه المواثيق الدولية والقوانين الوطنية.

وتوقف ولد لمرابط عند القانون رقم 2015/033 المتعلق بمناهضة التعذيب، موضحا أنه صنف التعذيب جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم ويعاقب مرتكبها بالحرمان من الحقوق المدنية، والسجن المؤبد إن أدى التعذيب إلى الوفاة.

وأشار إلى أن القانون جاء نتيجة نضال طويل للحركات الحقوقية والسياسية المهتمة بالدفاع عن حقوق الإنسان.

وذكر ولد المرابط أن القانون لم يأت سدى، بل نتيجة تراكم لنضالات حقوقية كبيرة، لاسيما خلال العشرية الماضية، ومنها نضالات حركة "كفانا" وحلفائها في الساحة.

وأبرز أن القانون تضمن تحسينات جيدة باقتباسه من الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، كما نص على عقوبات تصل أحيانا إلى الحرمان من الحقوق المدنية، والسجن المؤبد ضد ممارسي التعذيب من المنتسبين لقوات الأمن والدرك والجيش أو ممن يحملون صفة عمومية أو يتقلدون وظائف حكومية.

وقال ولد لمرابط إن عموم المواطنين الموريتانيين في الداخل والخارج يتابعون قضية "الصوفي ولد الشين" ويتطلعون لوقت تقديم الجناة الى العدالة، داعيا إلى إحقاق الحق من أجل تجنيب البلاد مزيدا من الاحتقان والويلات التي لا تحمد عقباها.

بدوره، وللاستفادة من الدرس، أكد الناشط السياسي الموريتاني محمد المنير، في تدوينة على حسابه بفيسبوك، 12 فبراير 2023، أن الواقعة تبين حاجة موريتانيا إلى "إنشاء جهاز مكلف بمراقبة قوات الأمن، يتعدى النواة الحالية، من أجل معاقبة أي تجاوز وضمان التحلي بالقواعد الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم المصالح الأمنية".

وأيضا "تكثيف التكوين الأولي والمستمر على قواعد وضوابط استخدام القوة في سياق ديمقراطي، وتعزيز شروط استخدام القوة من قبل أجهزة الشرطة، من خلال تطوير ونشر إجراءات عملية مدمجة وموحدة للحفاظ على النظام في سياق ديمقراطي"، وفق قوله.

ودعا الناشط السياسي إلى "تنفيذ إصلاح شامل للأجهزة الأمنية، يضمن انضواء الشرطة تحت إمرة السلطة المدنية، بما في ذلك الحكومة والبرلمان".

وتوقف أيضا عند أهمية "استبدال كبار المسؤولين التنفيذيين بجيل جديد من الوكلاء المكونين في مجال حقوق الإنسان وتقنيات إدارة القوات العامة وحفظ الأمن في سياق ديمقراطي"، مع العمل على "تحسين نوعية الاكتتاب في أجهزة الأمن حتى لا تكون وعاء للرداءة".

وبين المنير أن الحكومة أدركت خطورة التداعيات المحتملة لهذه الأزمة وتأثيرها الكارثي على الحزب الحاكم وعلى النظام بصفة عامة، لذلك تعاملت بشفافية مع القضية، عن طريق اتخاذ الإجراءات اللازمة.

وشدد على أن الدولة مدعوة للاستمرار في هذا النهج واغتنام الفرصة من أجل تطهير الأمن من كل من تحوم حولهم شبهات الاستهتار بحقوق وحريات المواطنين وخرق القانون.

في رده عن سؤال الآليات الكفيلة بمنع تكرار ما وقع، أكد ولد لمرابط أن لا وجود لضمانات أكثر من تطبيق القانون.

وأضاف، أنه يجب على السلطات أن تفهم بشكل جيد وجدي أن هذه الانتهاكات لم تعد مقبولة، وأن التعذيب يشكل انتهاكا للقانون الوطني وللاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

وشدد ولد لمرابط أن ما حدث في هذه القضية بالضبط واضح وصريح، وتصريحات النيابة تلزمها بالجدية من أجل الوصول إلى الحقيقة.

وقال رئيس حركة "كفانا" إن ممارسات منافية لحقوق الإنسان شهدتها موريتانيا في الفترات الماضية، ومنها قتل متظاهرين على يد الشرطة والدرك والجيش، وقمعهم بشكل عنيف من قِبل الدرك الوطني.

وأشار إلى الكثير من الانتهاكات الموثقة، التي لم يعد الشارع الموريتاني يقبل بتكرارها، بدليل هذا التفاعل المجتمعي الكبير مع واقعة الصوفي ولد الشين.

ودعا ولد لمرابط إلى التحرك بشكل جدي وسريع وفعال لوضع حد نهائي لهذه الممارسات والانتهاكات، داخل مخافر الشرطة أو خلال الحجر، مشددا على أن السلطة السياسية مدعوة لإدراك أن انتهاك حقوق الإنسان والمس بالحياة المواطنين خط أحمر.

ونبه إلى أن الهبة الشعبية الحالية والموكب الجنائزي الكبير يعدان أكبر داعم لقطع موريتانيا للطريق أمام أي نكوص أو تراجع حقوقي، وذلك بتطبيق القانون وضمان عدم إفلات الجناة من العقاب.