"دين قديم".. أسرار انحياز اليسار المصري لروسيا في حربها ضد أوكرانيا

محمد السهيلي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

لنحو 70 عاما ظل تيار اليسار المصري مثار جدل دائم بمواقفه المتشددة؛ حتى بعد تراجع الأفكار الشيوعية والاشتراكية مع تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتحول وريثته "روسيا الاتحادية" إلى النظم الغربية في الاقتصاد والحكم.

واليسار مصطلح صنعته أحداث الثورة الفرنسية (1789 –1799)، إلا أن الثورة البلشفية (1917) التي نتج عنها الاتحاد السوفييتي، كانت التطبيق العملي لأفكار اليسار ومنبر نشره بالعالم، ليصل لاحقا العالم العربي.

ومع بداية حركات التحرر من الاستعمار البريطاني والفرنسي منتصف القرن الـ20؛ برز تيار اليسار المصري والعربي، وتزايد عدد المؤمنين بالفكر الاشتراكي والماركسي، خاصة في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الذي تزعم ذلك التيار.

وفي السنوات الأخيرة، تراجع دور اليسار المصري، إثر الانقلاب العسكري في 2013، وتبني عبدالفتاح السيسي، الذي حكم مصر لاحقا منذ منتصف 2014، نهجا أمنيا عنيفا مع المعارضة، وبينها تيار اليسار رغم دعمهم له.

انحياز لروسيا

وبرغم ما تبناه اليسار المصري من دعوات للاشتراكية كنظام اقتصادي والثورة على الاستبداد السياسي، إلا أن من بين مؤيديه من يخالف هذه الأفكار صانعين مواقف جدلية، كان آخرها الانحياز لروسيا بالحرب التي تشنها على جارتها الغربية أوكرانيا، منذ 24 فبراير/ شباط 2022.

وأصدر 81 من قيادات اليسار المصري، بينهم مثقفون وحقوقيون وأكاديميون، بيانا مشتركا في 11 مارس/ آذار 2022،  أدانوا فيه ما أسموه "الحملة الغربية على روسيا وسياسات الحصار والعقوبات".

وتفرض أميركا وأوروبا ودول أخرى عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية مشددة على موسكو، بسبب عملياتها العسكرية في أوكرانيا.

وأعلن الموقعون على البيان وعلى رأسهم قيادات بالحزب العربي الناصري تفهمهم لـ"متطلبات وضمانات روسيا الأمنية"، وتأكيدهم على العلاقات المصرية المتميزة مع الجانب الروسي الذي كان "دائما داعما لقضايانا الوطنية والقومية في أصعب الظروف والأوقات"، وفق تعبيرهم.

ذلك البيان، الذي اقترحه نائب رئيس الحزب العربي الناصري الدكتور نور ندا، أحد خريجي الجامعات السوفييتية، دفع الكاتب الصحفي جمال سلطان، للتساؤل عبر "فيسبوك"، عن "سر عشق الناصريين لأي طاغية دموي أو ديكتاتور مستبد أو حاكم عسكري انقلابي في أي زمان أو مكان من العالم؟".

وفي السياق أعلن العديد من الشخصيات ذات التوجه اليساري والناصري دعمهم لروسيا وتضامنهم معها وتأييدهم لحملتها العسكرية في أوكرانيا.

وضمن حديثها المدافع عن الموقف الروسي، قالت الباحثة "اليسارية" الدكتورة فادية مغيث، لموقع "مصر 360"، في  10 مارس: "أوكرانيا هي الشوكة الأميركية التي كانت تؤرق روسيا، مثلما تضع واشنطن إسرائيل كشوكة وسط الدول العربية".

وأكد الصحفي اليساري سليمان شفيق، للموقع ذاته، أن "المطالب الروسية المتعلقة بحماية الجمهوريات الانفصالية عن أوكرانيا، وإبقائها على الحياد دون الانضمام لتحالفات غربية، مطالب عادلة".

وفي وقت مبكر من الحرب الروسية الأوكرانية، في 3 مارس، انتقد رئيس حزب "الجيل"، صاحب الفكر "اليساري" ناجي الشهابي، تصويت مصر بالأمم المتحدة بإدانة العملية العسكرية الروسية، وذلك في بيان اطلعت عليه "الاستقلال".

ومن إجمالي 193 دولة عضوا بالأمم المتحدة، صوتت 141 دولة بينها مصر، في 2 مارس، على إدانة روسيا، ومطالبتها بـ"وقف استخدام القوة ضد أوكرانيا"، وسط معارضة 5 دول، وامتناع 35 عن التصويت.

وبرر الشهابي، تأييده موسكو بالقول إنها "تحمي أمنها القومي وتدافع عن شعبها وعن الناطقين باللغة الروسية"، مضيفا: "وكان يجب ألا ننسى لها موقفها الداعم لثورة 30 يونيو 2013"، في إشارة إلى الانقلاب العسكري في مصر.

وشدد السياسي الناصري، على أن إدانة القاهرة لموسكو، "تجاهلت تاريخ روسيا معنا بعد ثورة 23 يوليو 1952، ووقوفها مع مصر ضد العدوان الثلاثي 1956، وبنائها السد العالي وتسليح الجيش المصري عقب هزيمة يونيو 1967".

تناقضات اليسار

حديث الشهابي، وبيان اليسار، يشيران إلى أن مواقف الاتحاد السوفييتي من أزمات مصر في عهد جمال عبدالناصر، ظلت عالقة في أذهان اليساريين المصريين الذين ظل بعضهم يدين لموسكو بالكثير من الولاء، رغم انهيار دولة الشيوعية والاشتراكية.

وهو ما يفسر إلى حد ما مواقف أغلب اليسار المصري المؤيدة علنا للجرائم الروسية بحق الشعب السوري، بل وتأييدهم قبلها مجازر النظام السوري بحق شعبه، وتأييدهم بعدها الانقلاب العسكري في مصر، بل انقلابهم على الربيع العربي في 2011.

العديد من الدراسات والمقالات رصدت أمر تماهي اليسار مع جرائم المستبدين العرب ودعم روسيا لهم، وبينها دراسة للباحث اللبناني توفيق شومان، نشرت في 15 سبتمبر/ أيلول 2020.

وقال فيها إن "الفكرة اليسارية، ارتبطت نظريا بالنضال من أجل الخلاص من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، لكنها واقعيا تباينت ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التعامل معه".

وأضاف: "على الرغم من شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي رفعها اليسار العربي... ، فإنه ومع هبوب رياح الربيع العربي... ، اتضح أن كثيرا من الشعارات التي رفعها للدفاع عن الحريات والتداول السلمي على السلطة؛ لم تصمد أمام الواقع".

شومان، أكد أن "اليساريين العرب ورغم تراكم تجاربهم السياسية وثراء مكتبتهم الفكرية، إلا أنهم انحازوا للمؤسسة العسكرية بديلا عن خيارات الصندوق الانتخابي".

وفي هذا الشأن، قال الباحث والمفكر اليساري الفلسطيني سلامة كيلة، في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018: "نظرت الأحزاب اليسارية العربية والعالمية إلى التدخل العسكري الروسي في سوريا كجزء من فهمها للصراع في سوريا على أنه صراع النظام ضد الإمبريالية التي تريد إسقاطه".

وأضاف لموقع تلفزيون سوريا": "حين حدث التدخل الروسي اعتبروا ذلك إنقاذا لسوريا رغم أنها وقعت في براثن إمبريالية جديدة هي الإمبريالية الروسية".

وفي مقابل بروز دور المقاومة السورية بمواجهة نظام بشار الأسد، قدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي لإنقاذ النظام السوري من السقوط.

إلا أن موسكو، لم تكتف بهذا الدور، وقررت في 30 سبتمبر 2015، توجيه ضربات جوية للمقاومة على الأراضي السورية، أتبعتها بإرسال قوات عسكرية إلى سوريا، سيطرت على قواعد عسكرية سورية، وأعادت للأسد توازنه على الأرض .

وفي السياق، وتحت عنوان "اليسار المصري ومفهوم الدولة والثورة السورية"، كتبت الباحثة عبير يحيى، في أبريل/ نيسان 2014، عن تناقضات اليسار المصري بشأن الأوضاع في مصر عقب الانقلاب العسكري منتصف 2013.

وقالت إن اليسار الستاليني المصري "منذ تولي مرسي (الرئيس الراحل محمد مرسي) الحكم هرعت قوى اليسار السياسية بما فيها يسار الدولة لتكوين جبهة الإنقاذ، مبررين مثل هذا التحالف بمواجهة الفاشية الدينية".

وفي المقابل، أوضحت مدى حدة تناقضات اليسار المصري مؤكدة أن "النخب اليسارية شاركت في تناسي رجال نظام مبارك الذين ظهروا من جديد في زي معارضة ثورية للإخوان"، مشيرة إلى استدعائهم الجيش جهارا للتدخل ضد حكم الإخوان المسلمين.

ولفتت إلى تناقض جديد بقولها: "بعد 30 يونيو 2013، انقلبت الآية وأصبح بطش الشرطة ضروريا، والتعذيب في الأقسام والسجون ملفقا، ولا سبيل لمصر سوى التقشف وربط الحزام، كل هذا تحت راية محاربة الإرهاب في حالة سعار ضد جماعة الإخوان".

تبريرات التناقض

الصحفي المغربي عبداللطيف الحماموشي، كشف أيضا عن تناقضات اليسار وتأييده للأنظمة الدموية، في مقاله "اليسار العربي بين الحرية والتسلط"، في 11 أكتوبر 2018.

وكتب "ليس غريبا أن تجد بعض الأحزاب الاشتراكية تقر في مقرراتها التنظيمية، وفي وثائق مؤتمراتها بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي نفس الآن تدافع عن نظام مجرم ودموي كنظام بشار الأسد".

الحماموشي، أشار إلى أن من تبريرات اليسار أن الأسد يقود حكومة "علمانية اشتراكية" مناهضة للإسلاميين ومحافظة على "تقدمية" الدولة، وأنه مناهض لـ"الإمبريالية الغربية"، بجانب اتهامهم للثورة السورية بأنها "مؤامرة استخباراتية".

ولفت إلى أن "هذه التبريرات المستعملة من بعض اليساريين الموالين لنظام الأسد تذكر بما كان ولا زال يتحجج به بعض اليساريين والليبراليين المؤيدين للانقلاب العسكري في مصر عام 2013".

وألمح إلى تأييد الكثيرين منهم مذبحة "رابعة العدوية" في 14 أغسطس/ آب 2013، منتقدا "تناسيهم أن الطابع الإنساني يتجاوز كل ما هو فكري/أيديولوجي"، وفق تعبير الحماموشي.

وأشارت الكاتبة المصرية دينا عمر، في مقال بعنوان "الاشتراكيون الثوريون والثورة السورية"، في أبريل 2014، لتبريرات اليسار لتلك المواقف المتناقضة لما أعلنوه من أفكار قبل عقود.

وقالت "مع مناقشة مواقف اليسار المصري، فإن الكثير ممن أبدوا تأييدا في بادئ الأمر للثورة الشعبية في سوريا أصبحوا يسوقون جديا لهيمنة القوى الإرهابية على المشهد السوري".

وأضافت: "عكفت العديد من القوى اليسارية على تصدير الخطاب القومي وترويج أكاذيب نظام (الممانعة)، والمؤامرات الصهيونية في المنطقة في تخبط واضح وتفسيرات غير ناضجة للحالة الثورية العامة".

أسباب تاريخية

وفي تعليقه، قال الكاتب والباحث المصري أسامة الهتيمي: "ليس مستغربا اتخاذ اليسار والتيار الناصري المصري موقفا داعما ومتضامنا مع روسيا بالتزامن مع الحرب التي تشنها على أوكرانيا".

وأوضح لـ"الاستقلال"، أن "اليسار المصري لا يمكن أن يتجاهل على الإطلاق العلاقات التاريخية التي تربطه بروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي، والذي كان داعما وممولا لكل الأحزاب والتنظيمات اليسارية ليس في مصر فحسب بل في العالم كله".

"وهو الأمر الذي منح هذه الأحزاب زخما مكنها أن تصبح رقما صعبا في المعادلة السياسية بالكثير من الأحايين"، وفق تعبير الهتيمي، مضيفا: "والتيار الناصري لا ينسى العلاقات المتينة التي ربطت الاتحاد السوفييتي وقادته بالرئيس جمال عبدالناصر، القائد والملهم لهذا التيار".

"وهي العلاقات التي وصفها عبدالناصر نفسه بأنه يجمعها المواقف النضالية المشتركة ضد الاستعمار والاستغلال فضلا عن المصالح المشتركة والتي جعلته يرفض وبلا تردد عام 1955 الانضمام لحلف عسكري يناهض الاتحاد السوفييتي"، وفق سرد الباحث المصري.

وأكد أن "هذا البعد التاريخي كان حاضرا وبشكل دائم حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بتسعينيات القرن الـ20، حيث حرصت روسيا التي ظلت تحلم بعودة القوة السوفييتية على تكوين ظهير سياسي داعم لها وداعمة له بمواجهة الانفراد الأميركي والغربي بالقرار العالمي".

وتابع الهتيمي قائلا: "ومن ثم فلم يتوقف التواصل الروسي مع الاتجاهات السياسية والفكرية التي كانت تربطها بروسيا السوفييتية علاقات جيدة".

ويعتقد أنه "في هذا الإطار فإن اليسار والناصريين لا يترددون بدعم الأنظمة السياسية التي تبدو مواقفها ولو ظاهريا مناوئة للرؤية الغربية، فذلك ووفق وجهة نظرهم يدعم عملية التحرر من التبعية للغرب ويسهم بتحقيق الاستقلال والتنمية بعيدا عن الإمبريالية الأميركية".

ورأى الباحث المصري أن هذا "يفسر إلى حد كبير انحياز قطاعات كبيرة منهم لدعم الرئيس السوري بشار الأسد بمعركته مع الثورة والثوار متوافقين معه في وصف الثورة بأنها عميلة للغرب".

وختم بالقول: "وهم هنا يغضون الطرف عن أن الغرب نفسه تخلى عن هذه الثورة حتى أصبحت لقمة سائغة للنظام، بالإضافة إلى عدم الالتفات إلى تطلعات الشعب السوري نفسه في التمتع بالحرية والحق في اختيار الحاكم بالآليات الديمقراطية".