المنطقة الآمنة في سوريا.. مواقف الدول والنتائج المتوقعة

12

طباعة

مشاركة

نشر معهد "سيتا" التركي للدراسات والبحوث، بحثا سلط فيه الضوء على المنطقة الآمنة في سوريا، وما تمثله من أهمية للقوى الدولية والإقليمية، ولا سيما تركيا، مستندة بذلك على تجارب في بلدان أخرى من العالم شهدت إقامة مناطق آمنة.

وذكر البحث أن "بقاء القوات الأمريكية داخل سوريا ليست أولوية بالنسبة لواشنطن؛ لأنها ترجح حاليا محاصرة الصين بإنشاء قواعد قرب بحر الصين الجنوبي. أما على الصعيد المحلي فهي تولي أمن إسرائيل أهمية كبرى، إلى جانب ضمان حماية آبار النفط ومنع تمدد إيران في المنطقة". وفيما يلي نص البحث كاملا.

المناطق الآمنة: هي المناطق المحمية من قوة عسكرية رادعة لحماية مجموعة معينة من السكان. وتؤسس هذه المناطق غالبا في مناطق تشهد اضطرابات بسبب الحرب لحماية السكان المحليين. هذه المناطق قد تكون محدودة المساحة كما جرى في البوسنة، كما تشمل مناطق واسعة أحيانا كما جرى في العراق ورواندا. ولا تشترط موافقة كل الأطراف المقاتلة لتأسيس هذه المناطق.

عند ذكر المناطق الآمنة؛ يتبادر إلى الأذهان نموذج البوسنة والعراق ورواندا. ويلاحظ أن جميع هذه الدول عاشت اضطراباتها الأمنية في تسعينيات القرن الماضي. هذه ليست مجرد صدفة؛ فرغم أن مشروع المنطقة الآمنة نوقش وقرر في المادة ٢٣ من اتفاقية جنيف عام ١٩٤٩، إلا أنها لم تفصّل كما ينبغي إلا خلال سنوات الحرب الباردة بعد أن تحتّم تطبيقها على أرض الواقع. وزاد بروز هذه القضية بعيد انتهاء الحرب الباردة مع محاولات أمريكا لتأسيس نظام عالمي جديد.

وتتنوع أشكال المنطقة الآمنة؛ فتارة تكون منطقة إخلاء عسكري، وتارة منطقة إخلاء جوي أو منطقة عازلة بحسب اختلاف الأوضاع.

موجز تاريخ مفاوضات "المنطقة الآمنة" في سوريا

بدأت مفاوضات المنطقة الآمنة في سوريا منذ أوائل الأزمة التي بدأت ضمن أحداث الربيع العربي(١). ففي 13 يونيو/حزيران 2013 صرح نائب مستشار الرئيس الأمريكي أوباما بأن المعلومات الإستخباراتية تقول إن الأسد يستخدم أسلحة كيماوية في سوريا. بعد هذا التصريح بدأت وسائل الإعلام العالمية بنشر تصريحات لدبلوماسيين أمريكيين أخفوا هويتهم حول أن أمريكا ستشكل منطقة حظر جوي قرب الحدود الأردنية. ورغم مضي زمن طويل على هذه التصريحات إلى جانب  إصرار الفصائل المسلحة في المنطقة على تشكيل منطقة حظر جوي في الشمال السوري؛ إلا أن أمريكا لم تقدم على هذه الخطوة.

تركيا أيضا قامت بتصريحات حول تشكيل منطقة عازلة. ففي عام 2012 جاء تصريح بأن دخول السوريين إلى تركيا عبر الحدود زاد في الفترات الأخيرة، وأن هذا يسبب لتركيا مخاوف حول تسلل عناصر من الـ"بي كا كا"، كما جاء في التصريح أيضا "هذا الوضع يدفعنا إلى البحث في إمكانية وجدوى تأسيس منطقة عازلة"، كما ورد في التصريح، أن تركيا ستقدم هذه المقترحات إلى المجتمع الدولي لمناقشتها.

وبعد بروز هذه المسألة وانتشارها في الأوساط، صرح رئيس الوزراء في حينها أردوغان في 2012، قائلا: إن المنطقة العازلة ومنطقة الحظر الجوي مكملتان لبعضهما، مؤكدا أهمية دعم المجتمع الدولي لإتمام هذا المشروع(٢).

في عام 2014، أعادت تركيا طرح هذه المسألة على المجتمع الدولي. واقترحت تأسيس "منطقة آمنة" تمتد بخط مواز لحدودها من البحر المتوسط حتى العراق. وقد نوقش هذا الموضوع مع أمريكا خلال زيارة الرئيس أردوغان لأمريكا ومباحثاته مع نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، لكن هذه المباحثات لم تثمر شيئا(٣).

بعد ذلك أعلن مسؤولون أتراك أن هذه المنطقة الآمنة تشمل مناطق من إدلب، وفرين، وجرابلس، وعين العرب (كوباني)، وتل أبيض وشمال الحسكة. وهذه المنطقة يقصد من إنشائها جعلها منطقة آمنة للمدنيين لا منطقة عازلة عسكرية(٤). وتلت هذه التصريحات تصريحات من الرئيس أردوغان بأن حدود هذه المنطقة ستكون خط 36(٥).

وقد بقيت هذه المسألة مطروحة طوال عام 2015، وفي هذا السياق كانت وسائل الإعلام الأمريكية قد نشرت معلومات تفصيلية منسوبة إلى الجهات الرسمية التركية حول المشروع(٦). ورغم كل المحاولات المبذولة لإنشاء هذه المنطقة الآمنة؛ فإن أمريكا لم تقم بخطوة في هذا الأمر. حكومة أوباما فضلت تدريب الفصائل السورية الداخلية لمحاربة النظام، ثم انتقلت إلى تدريب عناصر من حزب الاتحاد الديمقراطي (ذراع تنظيم البي كا كا في سوريا) هادفة بذلك إلى إنهاء وجود تنظيم الدولة في المنطقة عبر تدريب هذه العناصر لمحاربتهم، ومن ثم إنشاء قواعد عسكرية لها في هذه المنطقة.

في المقابل، لم تقف تركيا مكتوفة اليدين، فبعد إحجام أمريكا عن القيام بخطوة في قضية المنطقة الآمنة، بدأت تركيا مفاوضات "أستانا" مع إيران وروسيا، وبذلك تمكنت من إنشاء مناطق منزوع منها السلاح وخالية من "العناصر الإرهابية" بمفردها(٧). لكن بقي عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي موجودين في منطقة شرق الفرات، وهذا ما دفع تركيا إلى التواصل مع أمريكا وروسيا أحيانا لإنهاء وجود عناصر التنظيم المذكور في المنطقة.

وعادت مسألة المنطقة الآمنة إلى البروز على الساحة مرة أخرى بعد تغريدة نشرها ترامب على حساب "تويتر" في 13كانون الثاني/يناير 2018، والتي قال فيها: إن "القوات الأمريكية ستنسحب من المنطقة وسيتم إنشاء منطقة آمنة بعمق 20 ميلا (32 كيلومترا)".

موقف القوى العالمية والمحلية من المنطقة الآمنة:

أمريكا

لم تزل أمريكا تعاني من انقسام موقفها على الصعيد الداخلي والخارجي. وبالنسبة لترامب الذي يواجه العوائق في سياسته الداخلية، نجد أنه يتبع سياسة مناورات واسعة في السياسة الخارجية، ويرجع هذا إلى الصلاحيات الواسعة التي تمنحه إياها القوانين الأمريكية(٨). وهكذا استطاع ترامب اتخاذ قرار انسحاب القوات الأمريكية من سوريا دون الرجوع إلى رأي المسؤولين كرئيس هيئة القوات المركزية الأمريكية جوزيف فوتيل، والممثل الخاص للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة السابق بريت ماكجيرك ووزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، بل وخالفهم في هذا القرار. ورغم استقالة بعض هؤلاء المسؤولين واحتجاج بعضهم الآخر علنا على قرار ترامب هذا إلا أنه لم يرجع عنه.

ويمكن القول، إن ترامب تأثر برأي ممثل سوريا الخاص جيمس جيفري الذي عينه ترامب بنفسه. وكان جيفري قبل أن يعين في هذا المنصب قد نشر دراسات وأبحاث حول أهمية تشكيل منطقة آمنة في المنطقة.

وبحسب تصريحات ترامب، فإنه ينوي سحب القوات الأمريكية من سوريا وإنشاء منطقة آمنة تديرها تركيا وحدها أو بالشراكة مع أمريكا. هذه التصريحات تعد فرصة جادة لترميم العلاقات بين أنقرة وواشنطن بعدما سادها التوتر في السنوات الأخيرة. وتريد أمريكا إعادة تركيا إلى معسكرها بعد أن بدأت بالتوجه إلى معسكر شبه مستقل مع روسيا وإيران خلال مفاوضات "أستانا". وبحسب جيمس جيفري فإنه "قد حان وقت إنزال المقصلة على مفاوضات أستانا"(٩).

نلخص ما سبق، فنقول إن بقاء القوات الأمريكية داخل سوريا ليست أولوية بالنسبة لأمريكا. أمريكا ترجح حاليا محاصرة الصين بإنشاء قواعد قرب بحر الصين الجنوبي. أما على الصعيد المحلي فهي تولي أمن إسرائيل أهمية كبرى، إلى جانب ضمان حماية آبار النفط ومنع تمدد إيران في المنطقة. وبطبيعة الحال فلا يمكن لأمريكا إيقاف المد الإيراني بوساطة قوات الاتحاد الديمقراطي، إذ أن الحزب أنما أسس لمعاداة تركيا. وهو في هذا السبيل لن يتردد في التحالف مع النظام السوري أو مع إيران. كما أنه لا يملك القوة الكافية لإيقاف إيران.

لقد أدركت أمريكا هذا الأمر –ولو متأخرا- ولذلك فهي تريد أن تنسحب من سوريا وتنتقل إلى إيقاف تمدد إيران في العراق كما أنها ستعيق تمدد إيران عبر العقوبات الاقتصادية. وهكذا فإن قرار ترامب بالانسحاب من سوريا يشبه قرار أوباما بالانسحاب من العراق عام 2011. كما أن أمريكا تريد تلافي أخطائها خلال المرحلة السابقة والتي تسببت بجمع روسيا وإيران وتركيا في معسكر واحد.

روسيا

تعد سوريا إحدى  أهم مناطق الهيمنة الروسية منذ فترة الحرب الباردة، ولا توجد دولة عربية لها من العلاقات مع روسيا مثل ما لسوريا، كما أنها تعد بالنسبة لروسيا المنفذ الوحيد إلى البحر المتوسط وبها القاعدة العسكرية السورية الوحيدة المطلة على البحر المتوسط في طرطوس. وتحاول روسيا أن تحافظ على دورها في سوريا وهي لذلك تعارض المنطقة العازلة. وكانت روسيا قد عارضت في وقت سابق الحظر الجوي الأمريكي على سوريا ووصفته بأنه غير قانوني(١٠).

من جانب آخر، فقد كانت الأزمة السورية فرصة مميزة لروسيا لترميم العلاقات مع سوريا واتخاذ السياسات المشتركة بعد فترة سادها التوتر. وقد اقترحت روسيا أن يتم مشروع المنطقة الآمنة بالاتفاق بين تركيا وحكومة دمشق، جاء ذلك في تصريحات المتحدث باسم الخارجية الروسية في 14 شباط/فبراير 2019، وبذلك فقد أكدت روسيا على مركزيتها في قضية مصير سوريا(١١).

وفي سياق آخر، فقد صرح الرئيس بوتين في 15 شباط/فبراير 2019، على غرار قمة سوجين قائلا: إن على تركيا وروسيا أن يعملا معا في مواجهة الإرهاب ولمح إلى "اتفاقية أضنة" التي وقعت بين أنقرة ودمشق عام 1998(١٢).

وبالنسبة للمنطقة الآمنة، فإن تركيا تصر عليها لكونها خطوة في مواجهة عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي، كما أن أمريكا تحرص على إنشائها لإيقاف المد الإيراني. وإذا الحالة هكذا فإن روسيا لن تمانع في إنشاء هذه المنطقة طالما لم تمس مصالحها في المنطقة. إذ لا تريد روسيا أن تعطي أمريكا مبررات لمهاجمتها بسبب ودون سبب.

في الفترة الأخيرة، تولي روسيا أهمية لتوجيه عملياتها إلى منطقة إدلب الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، بينما تتوجه تركيا نحو منطقة شرق الفرات، وربما تطلب روسيا تنازلات من تركيا لصالح سوريا فيما يخص إدلب وما حولها. ومن الجدير  بالذكر هنا أن من فوائد المنطقة الآمنة لروسيا أنها ستحد من نفوذ إيران دون تدخل مباشر من روسيا، بل وربما يدفع هذا إيران إلى الانسحاب من سوريا لاحقا، وهذا يعني تفرد روسيا بالهيمنة على النظام السوري وفرض القرارات عليه.

الدول الأوروبية

نلاحظ أن الدول الأوروبية لم تأخذ دورا فعليا في حل الأزمة السوريّة منذ بدايتها، نعمْ، شاركت مشاركة رمزية في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، لكنه لم يخرج عن الرمزيّة.

وبخصوص المنطقة الآمنة فقد اتّخذت الدول الاوروبية موقفا متحفظا من قرار أمريكا بشأنه، وأفادت هذه الدول بأنه، إن كان سيتم تشكيل منطقة آمنة في سوريا، فإن هذا ينبغي أن يكون تحت إشراف أمريكا المباشر. وكان مكتب الشؤون الخارجية بالمملكة المتحدة قد صرح بأن تنظيم الدولة، وإن هزم وخسر نفوذه على الساحة السورية ،إلا أنه لا زال يشكل تهديدا، مؤكدا على أن بريطانيا ستستمر في العمل بكل ما يلزم ضمن التحالف الدولي(١٣).

يمكن القول بأن فرنسا كانت صاحبة أكثر الاحتجاجات حدة على قرار أمريكا بالانسحاب من سوريا. فقد صرح وزير الدفاع الفرنسي فلورنس بارلي، بأنه لم يُقض على نفوذ تنظيم الدولة بالكامل، وأنه لا زال هناك ما يجب القيام به. كما صرّحت وزيرة الشؤون الأوروبية الفرنسية نتاليا لويزو، أن القوات الفرنسية ستبقى في سوريا، مؤكدة أن الحرب على تنظيم الدولة مستمرة(١٤). لكن هذه الاحتجاجات خففت من حدتها بعد أن أصرت أمريكا على قرارها.

وفي السياق نفسه، صرح وزير الخارجية الألماني هيكو ماس، أن قرار واشنطن هذا غير مأمون العواقب، مضيفا أنه على أمريكا ان تعيد النظر في قرارها ومآلاته على أمن المدنيين في الشمال الشرقي من سوريا واستقرار المنطقة؛ وذلك للحول دون حدوث أزمة إنسانية(١٥).

وإذا نظرنا إلى الإطار العام للدول الأوروبية نلاحظ أنها عارضت قرار أمريكا بادئ الأمر، ثم أعلنت أنها لن تشارك في تنفيذ القرار لاحقا. ويجدر بنا هنا التنبيه على تصريح وزير الخارجية الدنماركي أندرس صمويلسون، الذي قال إن على الدول الأوروبية أن تقف وقفة موحدة كي تعيد أمريكا النظر في قرارها(١٦). وهذا صحيح فلا يمكن للدول الأوروبية أن تغير شيئا في الساحة السورية إذا صدرت أصوات متفرقة، إلى جانب أنها لا تملك على أرض الواقع عامل قوة يذكر.

إيران

رغم أن الأزمة السورية تسببت لإيران بخسائر مادية وبشرية جسيمة؛ إلا أنها لعبت دورا مهما في محاولة طهران حماية خط حزب الله (إيران-العراق-سوريا-لبنان) محاصرة بذلك السعودية وإسرائيل من الشمال. ولا تكتفي إيران بهذا دورا لها في الشرق الأوسط، بل هي بمشاركتها في حرب سوريا واليمن تنشئ لها خط دفاع، متقدم، كما تحافظ على مكانتها الدينية كحامية للمذهب الشيعي في المنطقة. وبهذا تستقطب إلى طرفها محاربين من العناصر المحلية من غير جيشها المحلي. واستطاعت بهذا أن تكون أكبر حامٍ برّي لقوات الجيش النظامي في سوريا(١٧).

وبحسب بعض الشائعات فإن عدد القوات التي تحارب تحت مظلة إيران من حزب الله والحرس الثوري والميليشيات الأفغانية والباكستانية يبلغ أكثر من 80 ألف مقاتل(١٨). هذا العدد بحسب بعضهم لا يخلو من مبالغة؛ لكن عدد المقاتلين لا يقل عن 10 آلاف مقاتل في أقل التقادير. وثمت مزاعم حول أن 8 آلاف مقاتل من المليشيات غير السورية قد قتلوا خلال الأزمة؛ منهم 1655 مقاتل من حزب الله اللبناني. ووفق المصادر الإسرائيلية، فبين أواسط شهر آب/أغسطس وشهر أيلول/سبتمبر عام ٢٠١٨ فقد قتل ١١٣ جنديا إيرانيا نتيجة الهجمات الإسرائيلية(١٩). ورغم هذا نلاحظ أن إيران تتجنب التصعيد مع إسرائيل كما تتجنب منح أمريكا مبررات للتدخل في شؤونها.

لا بد أن طهران ستعارض مشروع المنطقة الآمنة في سوريا. يأتي هذا في فترة ربما هي أكثر فترة تحتاج فيها طهران إلى أنقرة. ربما تجرب إيران إيجاد حل مشترك مع تركيا فهي لا تريد كسب عدو جديد بينما تعيش فترة عصيبة تجاه التحالف السعودي-الإسرائيلي من جهة، والحصار الاقتصادي الأمريكي من جهة أخرى. ومن جهة أخرى فانسحاب إيران وتركها المنطقة لتركيا ليس أسوا الخيارات بالنسبة لطهران، إذ هو أفضل من تركها للسعودية أو إسرائيل مثلا.

وملخصا نقول: إن إيران تمر بفترة عصيبة سياسيا واقتصاديا، وتدخلها في سوريا غير مرحب به من قبل القوى النافذة في المنطقة: أمريكا وإسرائيل، بل وروسيا(٢٠). ولذلك فالمنطقة الآمنة بإشراف أنقرة تبدو خيارا غير سيء وقابل للتفاهم بالنسبة لإيران.

إسرائيل

في تصريحه حول قرار إسرائيل الأخير، قال نتنياهو: إن القرار بيد أمريكا، وأشار في تصريحه هذا أيضا إلى أن إسرائيل ستستكمل مداخلاتها في الداخل السوري للحفاظ على أمن إسرائيل في هذه المنطقة الإستراتيجية(٢١). وكانت إسرائيل قد بدأت قصف مواقع حزب الله اللبناني منذ عام ٢٠١٣، وفي ٢٠١٧ بدأت قصف مواقع الجيش الإيراني أيضا.

إسرائيل التي لم تتردد في اتخاذ هذه الخطوات، والتي ربما تتسبب في نشوب حرب بينها وبين إيران، عاشت بسبب ذلك أزمات مع روسيا أيضاً. لكنها تبغي من ذلك أن تعبر عن قدرتها على حماية أمنها حتى خارج أراضيها. لكن هذا لا يعني أنها لن تتأثر بقرار ترامب، إذ أن انسحاب أمريكا يعني أن تواجه إسرائيل صعوبات في اتخاذ قرارات جريئة ربما تضعها في مواجهة روسيا. ولهذا فبقاء أمريكا أفضل بالنسبة لإسرائيل.

أما بخصوص المنطقة الآمنة، فيمكن القول: إنها لا تشكل أولوية بالنسبة لإسرائيل، إذ أولوية إسرائيل هي إبعاد إيران من المنطقة، وإنشاء منطقة آمنة تحت إشراف دولة غير إيران لا يشكل تهديدا مباشرا لإسرائيل.

السعودية

أما بالنسبة للسعودية فإن الوضع الحالي وهو بقاء أمريكا في المنطقة على خط المواجهة مع تركيا وإيران هو الوضع المثالي. أما في حال انسحاب أمريكا بالفعل؛ فإن السعودية -مع انزعاجها من هذا الفراغ- عاجزة عن القيام بخطوة عملية في هذا الشأن.

بعد إعلان ترامب قراره بالانسحاب، فضلت السعودية الاعتراض على هذا القرار بطريق غير مباشرة عبر وسائل الإعلام، بعيدا عن الطرق الرسمية.

تركيا

تنتهج تركيا في الشأن السوري سياسة لها ثلاثة محاور: المحافظة على وحدة الأراضي السورية، وانتهاء الحرب والأعمال الإرهابية، وتأسيس نظام جديد يحتوي الجميع دون إقصاء. وهكذا تكون تركيا في مأمن من الأخطار والمخاوف بشأن سوريا. وقد صرحت انقرة غير مرة بأن حلفاءها في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة يختلفون معها في هذه المبادئ، فيدعمون عناصر الاتحاد الديمقراطي وهذا يعزز الانقسام في المنطقة، وقد كررت أنقرة احتجاجاتها هذه كثيرا وعلى لسان رئيس الجمهورية أردوغان(٢٢).

وقد رفضت تركيا إشراك حزب الاتحاد الديمقراطي، في مشروع المنطقة الآمنة. كما أكدت على قدرتها على حماية المنطقة بنفسها. ومن ذلك ما قاله وزير الدفاع التركي خلوصي أكار حول أن التحالف الدولي لن يستطيع أن يقوم بالحماية الكافية لمنطقة بطول ٤٤٠ كم وأنه ينبغي أن يكون الأمر بيد تركيا وحدها(٢٣). وأكدت تركيا موقفها هذا، معلنة على لسان رئيس الجمهورية أردوغان بأنها ستنشئ هذه المنطقة سواءً بدعم أمريكا أو بدونه(٢٤).

كما أفاد الرئيس أردوغان في المقال الذي نشرته "نيويورك تايمز" بأن تركيا قادرة على ملء الفراغ بعد انسحاب أمريكا(٢٥)، مؤكدا تجربة تركيا في مكافحة الإرهاب، كما تطرق إلى أهمية مكافحة التطرف، مذكرا أن تركيا ستؤسس نظاما مستقرا تشارك فيه جميع الأطياف والأطراف.

وترى تركيا أنها الدولة الوحيدة القادرة على تأسيس منطقة آمنة في المنطقة دون إحداث مشكلة مع أمريكا وروسيا. كما أن أنقرة لديها رؤية وتطلع لمنطقة آمنة تتوفر فيها جميع الخدمات الصحية والسكن والتعليم، وتقلل من معدل الهجرة إلى الخارج، وإعادة تأهيل المنطقة بحيث تكون صالحة لعودة اللاجئين إليها.

وإذ تحدثنا عن أولويات تركيا وعلى رأسها الأمن، فلا بد أن نذكر أن تركيا تولي أهمية كبيرة لمدى تعمق الجهة المشرفة على المنطقة الآمنة في المنطقة، إذ أن الحفاظ على أمان المنطقة؛ وخصوصا الطريق البري م٤ الذي يقع جزء كبير منه خارج المنطقة الآمنة سيكون صعبا للغاية مع أهميته الكبيرة في القضاء على تنظيم الاتحاد الديمقراطي(٢٦).

وهكذا، فإن تركيا تتطلع إلى جعل منطقة شرق الفرات منطقة آمنة خالية من الحرب والأعمال الإرهابية، مستفيدة من كونها أحد الدول القليلة التي تحافظ على علاقاتها مع أمريكا وروسيا على نفس المستوى.

النتيجة

في بحثنا هذا حللنا قضية المنطقة الآمنة التي ستنشأ بعد قرار ترامب بانسحاب أمريكا من سوريا. هذه المنطقة التي ستنشأ على الحدود التركية، حيث تم التركيز عليها بشكل كبير جدا في مقابل إهمال مشاريع المناطق الآمنة الأخرى التي خطط لها طوال فترة الأزمة السورية كالتي كان يخطط أن تنشأ على الحدود الأردنية.

واليوم ومع أن أمريكا لم تنسحب بعد، لا زالت علامات استفهام كثيرة تطغى على الأذهان. وفي ضوء هذا كان التحليل نتيجة للمعلومات الموجودة والاحتمالات المتوقعة حول هذا الشأن.

ثمّ تعارض بين مصالح ومواقف القوى العالمية والإقليمية المختلفة. وقد احتوى هذا البحث تحليلا لمواقف القوى العالمية كأمريكا وأوروبا وروسيا، والقوى الإقليمية كإيران وإسرائيل والسعودية. وختم بطلبات ووعود تركيا حول هذا، باعتبارها إحدى أهم الدول المهتمة بالأمر وأكثرها إصرارا على إنشاء منطقة آمنة.

باختصار، فإن امريكا ترى أن حصرها لنفسها في سوريا غير منطقي، خلال محاولاتها لإطباق الحصار على إيران، وترى أمريكا أن استكمالها حصار إيران عبر قواعدها في العراق أفضل. وإلى جانب هذا لا زالت النقاشات قائمة في الداخل الأمريكي حول تاريخ الانسحاب وحدود المنطقة الآمنة والشراكات التي ستقوم مرتبطة بهذا.

أما روسيا، فقد قابلت هذا القرار بإيجابية، لكنها لم تغفل الإشارة إلى أنها ستبقى متنبهة على المنطقة. وفي الوقت الذي ترشح فيه الأسد خيارا وحيدا لإدارة سوريا، تقوم روسيا بفتح قنوات التواصل مع أنقرة وتتفهم موقفها ومخاوفها بشأن حزب الاتحاد الديمقراطي.

في هذا السياق، تحاول دول أوروبا الحصول على دور في المسألة السورية على المستوى السياسي مع عدم كونها صاحبة نفوذ أو تأثير على الساحة. وإلى جانب فرنسا والمملكة المتحدة التين لهما تواجد عسكري في سوريا؛ تحاول ألمانيا الحصول على حصتها من الكعكة. وتتفق رؤى الدول الأوروبية حول أهمية اتخاذها قرارا مشتركا يكون ذا تأثير في مسألة لم يلعبوا فيها دورا مهما. ويتلخص رأيها حول القرار في أنها تحاول ثني أمريكا عن قرارها ولو جزئيا.

وبالنسبة للقوى الإقليمية، نذكر أن إيران قد دفعت ثمنا كبيرا لتدخلها في سوريا اقتصاديا وعسكريا. وبينما تحاول إيران تعويض هذه الخسائر، يستمر اقتصادها في التراجع إلى الأسوأ، وتتعرض لغارات جوية إسرائيلية على جيشها في سوريا، في وقت تستمر فيه في حربها بالوكالة مع السعودية في اليمن، بين هذا كله يبدو أن إيران بعيدة عن أن تكون ذات تأثير في قضية المنطقة الآمنة. وترى إيران أن إشراف تركيا على المنطقة الآمنة ليس أسوأ الخيارات، فهو على كل حال أفضل من أن تكون تحت إشراف أمريكا أو السعودية.

وباعتبارها قوة إقليمية أخرى نذكر إسرائيل التي تسعى إلى دحر التمدد الإيراني في المنطقة لحماية حدودها، وهي بهذا ليست ذات دور في هذا القرار الذي سيجري في منطقة ليست على حدودها.

أما السعودية، فوضعها لا يختلف كثيرا عن إسرائيل في بعدها عن المنطقة. لكن ثمة شيء يقلق السعودية كإيران أو أشد وهو انتقال سوريا إلى حكم الإسلاميين مثل جماعة الإخوان المسلمين. وترى السعودية ان هذا الاحتمال سيقوى بوجود تركيا في المنطقة بعد انسحاب أمريكا. ولذلك تتحفظ على هذا القرار، لكنها ليس لها دور فعال تستطيع من خلاله القيام بشيء حياله. كما أنها لا تستطيع مواجهة تركيا وإيران في الوقت نفسه إذا أتت بديلا عن أمريكا. وهي تحاول إضعاف تركيا وإيران بدعم القوى المعارضة للدولتين ماليا.

أما تركيا فهي أوضح الدول موقفاً تجاه المنطقة الآمنة. إذ تريد تركيا إنشاء منطقة آمنة تساهم في اجتثاث جذور تنظيم الدولة وحزب الاتحاد الديمقراطي الإرهابيين، وتكون تحت سيطرتها. وتصر تركيا على موقفها مستشهدة بقدرتها العسكرية والإنسانية وتجربتها في المنطقة الآمنة غرب الفرات. وثم نقطة إيجابية لصالح تركيا وهي مصداقيتها لدى فصائل المعارضة السورية من جهة، وعلاقتها الجيدة بروسيا وأمريكا معا من جهة أخرى.

والخلاصة، أن هذه المنطقة الآمنة مشروع بعمق ٣٢ كم في الأراضي السورية يستهدف الحفاظ على أمن تركيا، وتطهير المنطقة من "الإرهاب"، وإعادة تأهيل المنطقة لتكون صالحة للحياة لحل مشكلة الهجرة واللاجئين.