مسجد تقسيم.. نموذج بارز لصراع الإسلاميين والعلمانيين في تركيا

سام أبو المجد | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بافتتاح "مسجد تقسيم" في 28 مايو/أيار 2021، تطوي تركيا فترة "صراع رمزي" استمرت أكثر من 7 عقود، أعدم بسببه رئيس وزراء وانقلب على اثنين من خلفه، فيما نجح الرئيس رجب طيب أردوغان في إنهاء "عقدة العلمانيين".

ورغم أن بناء المساجد في تركيا أمر طبيعي ومألوف، إلا أن المسجد الذي بني في ميدان تقسيم وسط إسطنبول، كان "استثناء"، وافتتاحه مثل، بحسب كثيرين، انتصارا للإسلاميين والمحافظين على حساب الليبراليين والعلمانيين، وأيضا "انتصارا للهوية التركية على الهوية المستوردة".

ويكتسب الجامع أهميته من رمزية المكان الذي يتربع فيه، فميدان تقسيم في قلب إسطنبول، رمز لجمهورية تركيا العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.

ويحتضن الميدان الشهير، نصبا تذكاريا لأتاتورك ورفاقه من الضباط المؤسسين للدولة، ومركزا ثقافيا باسم أتاتورك، لذلك فإن الأحزاب العلمانية قد عدت بناء جامع في هذه الساحة "تحديا لها ولمشروعها التغريبي".

تاريخ من الصراع

رغم البدء في بناء المسجد عام 2017، وافتتاحه في 28 مايو/أيار 2021، إلا أن النزاع بشأن بنائه يعود لأكثر من 7 عقود، ذلك لأن المشروع قد طرح في خمسينيات القرن الماضي، لكن واجه اعتراضات ورفض عدة مرات من قبل الأطراف العلمانية في تركيا.

وكانت المحاولة الأولى لبناء المسجد عام 1953، عندما طالبت جمعيات أهلية رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس ببناء المسجد، وقد تجاوب مع مطلبهم، إلا أن مشروع بنائه توقف عقب الإطاحة بحكم مندريس ثم إعدامه لاحقا في 17 سبتمبر/أيلول 1961.

وفي منتصف الستينيات، أثيرت مسألة بناء الجامع مرة أخرى من قبل تجار ورجال أعمال أتراك، وذلك في عهد رئيس الوزراء الأسبق سليمان دميرال، وبعد مرور نحو 15 عاما، وافق مجلس الوزراء على بناء المسجد عام 1979، إلا أنه لم تمض سوى سنة واحدة حتى تم الانقلاب العسكري على دميرال عام 1980، وأحكم العسكر قبضتهم على السلطة.

كان العسكر يمثلون الجناح العلماني في الدولة، وكانوا العدو التقليدي للإسلاميين، لهذا فقد أصدر "مجلس الدولة" وهو السلطة الإدارية والقضائية الأعلى في تركيا، قرارا في 1983 يقضي باعتبار الأرض الخاصة بالمسجد "موقعا محميا"، لينهي بذلك القرار أي نوايا لإنشائه.

وبالفعل فقد قطع الطريق على رئيس الوزراء آنذاك نجم الدين أربكان وتلميذه (رئيس الجمهورية حاليا) أردوغان في تسعينيات القرن الماضي المحاولات التي بذلها الرجلان لبناء المسجد.

وفي 1994، أي قبل نحو 27 عاما، أظهر مقطع مصور لأردوغان، إبان توليه منصب رئاسة بلدية إسطنبول، وهو يشير من أحد أسطح المنازل الواقعة في منطقة تقسيم إلى أرضية الجامع، ويقول: "هنا سنبني مسجدا، وأسأل الله أن يكون وضع حجر الأساس من نصيبي".

في تلك الفترة كان قرار اعتبار أرضية المسجد "محمية" ما يزال ساريا، غير أن أردوغان أعاد فتح الملف بعد توليه منصب رئاسة بلدية إسطنبول، لكن ما لبث أن تسبب انقلاب عام 1997، بإغلاق الملف مرة أخرى.

حجج الطرفين

قرار اعتبار أرض المسجد "أرضا محمية" ظل ساريا في تلك الفترة لدى البيروقراطية التي لم يستطع أردوغان اختراقها، لقبضتها الشديدة بمفاصل الدولة، رغم كونه أعلى سلطة سياسية في البلد.

وفي 2013، أعدت البلدية مخططا لتجديد ميدان تقسيم، وكان ضمن المخطط بناء المسجد المتنازع على بنائه، فانتفضت المعارضة، والأحزاب السياسية العلمانية، ورفضوا المخطط، متذرعين بعدة حجج، منها أن "أردوغان يريد أسلمة الدولة والانقلاب على جمهورية أتاتورك العلمانية".

وقال المحتجون إن ذلك المسجد "دلالة على نوايا أردوغان الانقلابية على علمانية أتاتورك، وأنه ينوي تغيير معالم الميدان وإضفاء الطابع الديني على الساحة وإلغاء إرث أتاتورك ومحو رمزيته من الذهنية التركية".

واستنكر المحتجون أن تكون قبة الجامع أكبر من نصب أتاتورك وسط الميدان، واندلعت جراء ذلك احتجاجات منظمة في منتزه "غيزي" المجاورة للميدان، وعرفت حينها باحتجاجات "غيزي بارك".

علاوة على ذلك، فإن ميدان تقسيم يعد مزارا لملايين السياح، وخاصة الغربيين الذين يزورون كاتدرائية القديس سانت أنطونيو الكاثوليكية في شارع الاستقلال، وكنيسة أيا تريادا الأرثوذكسية قرب الميدان.

لهذا فإن بناء مسجد بهذا الحجم وفي هذا المكان، يقول متابعون، سيعطي انطباعا للسياح بـ"تفوق مشروع تركيا الإسلامي على مشروع الغرب العلماني"، وهو الأمر الذي أشار إليه أردوغان عند افتتاحه مسجد تقسيم بالقول: "لا يساورنكم الشك في أن الصوت الذي يتردد صداه من مسجد تقسيم يزعج الإمبرياليين الطامعين في بلادنا وداعمي الإرهاب".

في المقابل، فإن حجج المؤيدين لبناء المسجد تستند إلى أن "المكان لا يوجد فيه مسجد يتناسب مع كثافة السكان، وأن هذه الأرض هي أرض مسجد في الأصل منذ عدة عقود، وعليه فإن إعاقة بنائه أو التحسس من بنائه أمر غير مفهوم ولا مبررا، خصوصا مع وجود كنائس عملاقة في المحيط.

كما يعتبر المؤيدون أن المساجد "معالم حضارية تدل على الهوية التركية في البلد التي تحتضن نحو 90 ألف مسجد، منها نحو 3500 في إسطنبول".

حتى قيام الساعة

ذلك النزاع الطويل في جولته الأخيرة دام لأقل من عامين، وأصدر "مجلس الدولة" في يناير/كانون الثاني 2017 قرارا يقضي ببطلان القرار الصادر عام 1983، بشأن مكان الجامع "أرضية محمية"، غير أنه لم يشرع ببناء المسجد في تلك الفترة رغم صدور القرار.

وبعد القضاء على المحاولة الانقلابية منتصف يوليو/تموز 2016، وصدور قرار مجلس الدولة ببطلان "قرار 1983 التعسفي"، كان أردوغان على موعد مع شارة البدء.

وبالفعل تم الشروع في بنائه حتى الانتهاء منه وافتتاحه في 28 مايو/أيار 2021، وهي الذكرى المئوية الـ568 لافتتاح مدينة إسطنبول على يد محمد الفاتح، لينهي بذلك 7 عقود من الصراع، وعدة جولات شرسة من النزاع، انتصر في نهايتها "المشروع الثقافي" الحضاري لتركيا.


وبني "مسجد تقسيم" مع مرافقه على مساحة إجمالية قدرها 2500 متر مربع، وبقبة يبلغ ارتفاعها 33 مترا ومآذن طولها 61 مترا، ويتسع لـ2575 مصليا.

ويضم المسجد قاعات خاصة للمعارض الثقافية بمساحة 155 مترا مربعا، إلى جانب مساحة مخصصة للأوقاف والجمعيات تقدر بـ180 مترا مربعا، وموقفا خاصا بالسيارات يتألف من 3 طوابق تحت الأرض يتسع لـ165 سيارة.

وبحسب وكالة "الأناضول" الرسمية، فقد صمم المسجد المهندسان المعماريان التركيان العاملان في المجمع الرئاسي التركي شفيق بيرقية وسليم دالامان، وقد حرصا أن يجمع التصميم النمط العصري والكلاسيكي، خصوصا أن المسجد يجاور كنيسة الروم الأرثوذكس وكنيسة الأرمن الكاثوليك.

وفي حفل الافتتاح، عقب أداء أول صلاة للجمعة في المسجد، قال الرئيس أردوغان: إن "مسجد تقسيم هدية لإسطنبول في الذكرى الـ568 لفتحها".

وكتب في تغريدة عبر حسابه على "تويتر": "آمل أن يجلب مسجد تقسيم الذي أدينا فيه اليوم أول صلاة جمعة الخير لإسطنبول وتركيا والعالم الإسلامي. بمشيئة الله تعالى لن يغيب المصلون عن جامعنا ولن ينقطع صوت الأذان من مآذنه وستعلو أصوات القرآن من قبته حتى قيام الساعة".