محمد إقبال.. شاعر جاهد بأفكاره ضد الاحتلال الهندي لباكستان

محمد ثابت | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"كان إقبال مثل الصيدلي الذي يحضر الدواء الشافي ويجده مر المذاق غير مستساغ الطعم لا يقبله فم المريض، لكن هذا الصيدلي البارع يفكر في الأمر، ويقدح زناد فكره ويجري التجارب العديدة حتى يتمكن من إضافة مادة معينة، جميلة الطعم والرائحة، إلى الدواء المر، فتحجب مرارته، وتجعله مستساغا مقبولا، دون أن تنقص من فائدته للمريض شيئا".

في كتابه "إقبال الشاعر الثائر" جاءت هذه الكلمات للراحل نجيب الكيلاني عن الشاعر والفيلسوف الثائر محمد إقبال اللاهوري، الذي رحل عن عالمنا في 21 أبريل/نيسان 1938 الموافق 21 من صفر سنة 1357هـ عن عمر ناهز الـ 61 عاما.

في الهند مسقط رأسه، استطاع إقبال تحويل ثورته لواقع بالدعوة لإقليم يضم مسلمي بلاده بعيدا عن تعصب أعدائهم، فكانت باكستان، فكرة في عقله تحققت بعد سنوات من وفاته، مثلما بقي فكره وشعره دواء سائغا سهلا للأمة العربية الإسلامية.

نزعة صوفية

ولد إقبال في مدينة "سيالكوت" بولاية البنجاب الهندية، والتي صارت بعد وفاته جزءا من باكستان عقب استقلالها عن الهند، وجاء ميلاده في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1877، ورغم جمال البيئة من حول الطفل آنذاك، إلا أن الهند درة التاج البريطاني كانت تعاني، كأشد ما تكون المعاناة من الاحتلال البريطاني وامتصاصه لخيراتها، خاصة بعد فشل ثورة الجيش ضدها قبل 20 عاما من ميلاد الشاعر.

شاهد إقبال صغيرا مظاهر امتصاص خيرات بلاده وتصديرها لبريطانيا وبقاء أهل الهند في الفقر والعوز، وتربى في بيت من بيوت البراهمة الكشميريين في ظل روح شفافة ذات نزعة صوفية عميقة لأبيه، الذي ورثها عن جده الأعلى الذي أسلم قبل قرابة 150 عاما من ميلاد إقبال، وكلها عوامل أثرت في شخصيته.

لاحقا تشربت روح إقبال بالقرآن الكريم، ومع النزعة الصوفية الحميدة التي حرص أبوه على بثها فيه امتزج بداخله حس إنساني ذابت معه أسوار الحدود والأوطان، الإنسانية داخله تشربت بالإسلام والإيمان حتى قال عن نفسه: "إن جسمي زهرة من جنة كشمير، وقلبي من حرم الحجاز، وأنشودتي من شيراز".

سارت حياة إقبال مجاهدا على خطين: رغبته في تحرير بلاده وبلاد المسلمين من ظلم الاحتلال، ونشر فلسفته وفكره وأشعاره، وقد كتب الأخيرة  بالأردية والفارسية، وترجمت للعربية والإسبانية والإنجليزية وحتى الصينية واليابانية، وفي جميع حالاته الفكرية والإبداعية كان إقبال يصف جمال جوهر الحياة، خاصة إذا تعانقت مع الإيمان والثورة على مظاهر الجور والظلم والطغيان.

تأسيس باكستان

كان إقبال أول من نادى بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في شبه القارة الهندية واقترح لها اسم باكستان، وقدّم إقبال مقترحه في خطاب ألقاه بمدينة الله أباد، في دورة رابطة مسلمي الهند عام 1930.

مع تفشي الظلم وتأجج العنف الديني ضد المسلمين في الهند، استقال إقبال من حزب المؤتمر الذي كان يتزعمه غاندي، وطالب بدولة مستقلة للمسلمين، لم يكتف الشاعر الثائر بالدعوة بل حولها لعمل بالتواصل مع معلمه الروحي محمد علي جناح، واضطلع الأخير ورفع لواء الفكرة حتى استطاع تحقيقها بعد وفاة إقبال، وبالتحديد في 14 أغسطس/آب 1947، ليصير جناح أول رئيس لباكستان.

سبقت دعوة إقبال لتكوين دولة للمسلمين، ثورة فكرية حولها لعمل على أرض الواقع، إذ وصف الاحتلال بكونه زيفا وبريقا للضعفاء حتى: "عمِيَت العيون من كحله، فالعَبْد معه أشَدُّ قهراً من ذي قبل"، وحذر من الفرقة والتنازع فقال: "آهٍ من القوم الَّذين عميَتْ أعينُهم، فتعلَّقَت قلوبهُم بغير الله، فضاعوا، إذا كانت الذاتيَّة (البعد عن الله) في صدر الأُمَّة انهارت ولو كانت كالجبَل!".

وبعد الدعوة النظرية الفكرية كان انتخابه في البرلمان بالبنجاب عام 1926م، وانضمامه لحزب الرابطة الإسلامي، ورئاسة المؤتمر السنوي للرابطة عام 1930م، واشتراكه في وضع دستور الهند في اجتماعات مائدة مستديرة بلندن، مع دعوته لاستقلال المسلمين حتى عده البعض في زمانه مجنونا.

ومع ازدهار دعوة وجهود إقبال حاول الإنجليز شراء ذمته وعرض عليه منصب نائب الملك في جنوب إفريقيا لكنه رفض قائلا: "إن حرم نائب الملك لابد أن تكون سافرة، وتستقبل الضيوف، وهذا لا أقبله لأنه إهانة لديني ومساومة لكرامتي".

لم يلبث إقبال أن أعلن عاليا للمحتل أنه: "لا، أنا منتخب عن الشعب فيما أصدر من مقالات، هذه المقالات التي ناصرت ليبيا وفلسطين والأفغان وسوريا ومصر وكل بلد إسلامي كان يرزح تحت الاحتلال".

رويدا رويدا بدأت تستقر ملامح شخصية إقبال حتى ليضعه العالم الأزهر محمد البهي في جانب مع الإمام محمد عبده فيقول عنهما: "فكلاهما (محمد عبده ومحمد إقبال) عاش في القرن التاسع عشر وأدرك القرن العشرين، وكلاهما حفظ القرآن الكريم، ووقف على حياة الشرق بسبب ميلاده وتوطئته فيه، ورأى حياة الغرب بالارتحال إليه والإقامة فيه فترة من الزمان".

اختلافه مع الغرب

عقب حفظه القرآن الكريم ودراسته للغات العربية والفارسية والأردية، وتعمقه في دراسة الفلسفة في كلية لاهور، انتقل إقبال للدراسة في كامبرديج ببريطانيا بالاقتصاد والفلسفة، كما حصل على الدكتوراه من جامعة ميونخ الألمانية عن "تطور الفلسفة الميتافيزيقية في بلاد الفرس"، إلا أن هذا لم يمنعه من العودة لبريطانيا ثانية لينال ليسانس الحقوق.

ومع تجواله في الغرب كان إقبال صاحب موقف لا يبارى ولا يضارع، بل كانت مواقفه تهز العالم الإسلامي حتى قال عنه شيخ العربية الراحل محمود محمد شاكر: "كان أعظم ما أدهشني رفضُ إقبال أن يدخل مسجد باريس"، وذلك أن إقبال دعي لزيارة المسجد فقال: "إن هذا المسجد ثمنٌ رِخيص لتدمير دمشق (على يد الاحتلال الفرنسي).

ويكمل شاكر: "كان يعيش (إقبال) في حقيقةٍ صريحة، وفي ذكرٍ دائِمٍ لا ينقطع لما نزل بنا وطَمّ، لما خطر له هذا الخاطر، وكم من غافلٍ ساهٍ مِنَّا ومن قومنا يعرض له أن يحيا تاريخ نفسه، وتاريخ دينه، بمثل هذه الكلمة، ثم لا تراه إلا حيث يكره الله من الذل والضَّعَة والعبودية، والفتنة بمازَيَّن له".

سافر الشاعر الثائر لإنجلترا عام 1905م، واستمر في إبداع شعره الذي يحث العالم الإسلامي على صيانة حدوده ومقدراته من مصر حتى تركستان الشرقية، وفي إنجلترا ألقى إقبال عشرات المحاضرات عن الإسلام، لينقله بدقة للغربيين، وقارن بين أشهر فلاسفة الغرب وفلاسفة المسلمين بخاصة ابن سينا وابن رشد وهيغل ونيتشه.

ومنذ عام 1908م، صار مدرسا ثم محاميا في الهند، وفي آخر حياته صار ينادي بالقوة والوحدة فكان يقول رامزا للأمة بنفسه: "اعطني القوة لأقول لا، واعطني العقل لأعرف كيف أقولها، واعطني الكفاية لأعرف متى أقولها"، كما كان يعيب واقع شباب المسلمين بالقول: "لا خير في أمة لا تعلم نخبتها ومفكريها ومصلحيها، فاليوم شباب هذه الأمة لا يهتمون إلا بسفاسف الأمور، والحضارة الإسلامية لن تنهض مجددًا إلا كما نهضت في مرحلتها الأولى".

وقبل وفاته بشهور ستة زاره في بيته العلامة الهندي أبو الحسن الندوي، فعاب إقبال مسيرة الفلسفة الإسلامية لمدة 200 عام مضت، بخاصة الفلسفة الإلهية التي تقدمت أوروبا لما ثارت عليها مضيفا: "أوروبا نهضت وملكت العالم لما اشتغلت بعلوم الطبيعة المجدية المنتجة".

أما رأي الندوي فيه فأوجزه في قوله: "إن إقبال أنبغ عقل أنتجته الثقافة الجديدة، التي ظلت تشتعل وتنتج في العالم الإسلامي من قرن كامل، وأعمق مفكر أوجده الشرق في عصرنا الحاضر، إن جُلّ ما أعتقده أنَّ إقبـــال شاعرٌ أنطقه اللهُ ببعض الحكم والحقائق في هذا العصر، أنطقه اللهُ الذي أنطق كل شيء، أنطقه كما أنطق الشعراء والحكماء، قبل عصره، وفي غير عصره".

تحطيم القيود

عاش إقبال  يرى أن تربة المدينة المنورة أحب إليه من العالم كله، ولذلك أحب الرسول، صلى الله عليه وسلم، محبة شديدة، ترسخت في نفسه منذ الصغر على يد أبيه، ولكنه حول ذلك لفعل وعمل ثوري حث المسلمين على التحلي به، ولذلك لم يحب أن يكون الشعر مجرد فلسفة ووصف للأزهار والورود، ولا الفلسفة البعيدة عن واقع العلم الحديث، أو أن يكون العلم بمعزل عن سيادة العالم.

عانى إقبال من الحركة والقلق والرغبة في التجديد وتحطيم القيود فقال: "كل حياة لا تجديد فيها ولا ثورة، أشبه بالموت. إن الصراع هو روح حياة الأمم إن أمة تحاسب عملها في كل زمان سيف بتار في يد القدر، لا يقاومه ولا يقف في وجهه شيء".

أما جوهر رؤيته للمسلمين فكان يرى أنهم لا يجيدون اكتشاف أنفسهم، وفي شعره قال لهم: "أخرج النغمة التي في فطرتك، يا غافلًا عن نفسك! أخلها من نغمات غيرك".

كان إقبال يفسر موقفه الشعري السابق بأنه على المسلمين عدم الخوف من العلم الحديث وانتشاره، والعزلة عن العالم، وإنما يجب عليهم أن يتوحدوا ويتزودوا بتفكير أعمق ويستفيدوا من سابق تجاربهم نحو التجديد الفلسفي والعلمي.

المجاهد المبتسم

احترم الغرب إقبال مثلما احترمه العالم العربي الإسلامي وبلده الهند، ومن العجيب أن الراحل زار إسبانيا عام 1933م، فسمحت له بالصلاة في الجامع الكبير في قرطبة، ليكون أول من يصلي فيه بعد تحويله لكنيسة منذ قرابة 6 قرون.

وكان من احترام الغرب له أن سمع حاكم إيطاليا المستبد موسوليني به فوجه الدعوة إليه لزيارة بلاده، وذهب إقبال بالفعل إلى روما فألقى محاضرة تحدث فيها وسط جمع غفير عن الحضارة الإسلامية والغربية، وإن المسلمين ابتعدوا عن الصدارة لما خالفوا صحيح دينهم، ولكن آثار حضارتهم باقية في الغرب.

عاش الراحل فقيرا، وضعف بصره في نهاية حياته حتى لم يكن يتعرف على أصدقائه، ولكن عند وفاته أحاطت الجماهير به، وكرمته باكستان بإطلاق اسمه على أبرز منشآتها، وترك ورائه 9 دواوين شعرية وعددا من الكتب، ومن شعره قصيدة "حديث الروح" التي ترجمها الراحل الشيخ الصاوي شعلان وغنتها الراحلة أم كلثوم، ومن أجمل ما قاله إقبال عن نفسه: "أنا مسلم، ومن شأن المسلم أن يقابل الموت مبتسما".

الكلمات المفتاحية