نوتردام حرائق التاريخ وعُقد الحاضر

خالد أبو صلاح | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تعرّضت كاتدرائيّة نوتردام في العاصمة الفرنسية باريس إلى حريق هائل قبل أيام قليلة، أدّى إلى تدمير جزء كبير من هذا الصّرح التّاريخي، فانقسمت ردود الأفعال وتشعّبت على وسائل التواصل الاجتماعي لأهمية المكان ورمزيته، فجزء تعاطف مع الحدث بشدّة، وجزء أظهر شماتة بالواقعة، وجزء يميل إلى الحيادية ويرى أن الأجدر بنا الالتفات لقضايانا المحليّة في ظل الحرائق التي تلتهم بلداننا. 

فتحولت هذا الآراء عبر منصات التواصل إلى ساحات جدال وصراع، وكلٌّ يدلي بدلوه ويستنفر حججه، وكان حضور التّاريخ والسّياسية والدّين جليا في هذه النقاشات، مما يستدعي الوقوف ومحاولة فهم هذه الظاهرة انطلاقا من حادثة حريق نوتردام. 

يرى المتفاعلون إيجابيّا مع الحدث أنه من البديهي الألم على فقدان أو احتراق جزء من التراث الإنساني فالكنيسة بنيت عام 1163م وخلّدها فيكتور هوغو في روايته الشهيرة ”نوتردام باريس/أحدب نوتردام“، ولها رمزيتها التاريخية والأدبية، كمدرج بصرى أو إهرامات مصر أو الآثار التي تركها اليونان والرومان في بلداننا، فهي أوابد عزيزة علينا حتى وإن لم تكن من منجزات الحضارة العربية والإسلامية. 

أمّا الموقف الذي يدعو للتأمّل مليّا هو الشماتة في مثل هذا الحدث، ولابدّ بداية من التفريق بين أصحاب هذا الموقف، فجزء كبير من معتنقيه هم من الجمهور العام ”غير المؤدلج“ الغاضب، الذي يرى حريق بلداننا وتدمير آثارنا لايعني أحدا، بينما أقل حادثة تحصل في العالم الآخر تستنفر الرأي العام، وتشترك بها وتتفاعل معها معظم نخبنا التي صمتت عن آلامنا والمجازر المرتكبة بحقنا في حين أن تفاعلها مع هذا الحدث يشوبه الاستعراض والنفاق، مما يؤدي للاستفزاز والتفاعل السلبي مع أية واقعة من هذا القبيل. 

كذلك الأمر يرى هذا الجمهور أنّ فرنسا الدولة الديمقراطية تقوم بدعم ديكتاتور عسكري إنقلابي في ليبيا، وتحاول الحفاظ على نفوذها في الجزائر ودعم عسكرها هناك، فكيف لدولة قامت بأعظم ثورة في التاريخ الحديث وجلبت الديمقراطية لأوروبا أن تقدم على دعم العسكر، والحفاظ على مصالحها بخلاف ماتعتنقه من قيم قامت عليها الجمهورية الفرنسية. 

أمّا الجزء الآخر من الشامتين فهو المعبّأ بالأيديولوجيا والذي تُؤثِّر حججه التي يسوقها على ”غير المؤدلجين“، وتدفعهم لاعتناق آرائه التي تستحضر الدين والتاريخ والسياسية في غير موضعها، فيجعل الكاتدرائية رمزا للحملات الصّليبية وينسى أنها في المفهوم الديني الإسلامي دار عبادة واجب حمايتها ورعايتها والإنفاق عليها من الدولة، ويستحضر مواقف فرنسا الاستعمارية في المنطقة ويشحنها بنفس ديني ويحملها كدليل لبث الكراهية.

فيخلط هنا بين الدين والسياسة ويحمل السياسة على الدّين وينسى أن فرنسا دولة تبحث عن مصالحها وأنّها أولى الدول التي حاربت الكنيسة في القرن الثامن عشر وثارت على الملكية، وهذا طبعا لن يدفعها للتخلّي عن هويتها الثقافية التي هي عماد قوتها، وستبقى كغيرها من الإمبراطوريات الآفلة، والتي تحولت إلى دول عظمى تبحث عن مصالحها على حساب بلداننا، فهو منطق السياسة في هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم والقائم على مبدأ القوة بمعزل عن القيم والأخلاق. 

إنّ استدعاء حرائق التاريخ في غير موضعها وتحميل السياسة على الدين في وقتنا الحاضر في كل مسألة، لن يزيد واقعنا إلا سوءا ويدفعنا إلى الجدل العقيم حتى في بديهيات الأمور، فنوتردام في وجدان النّاس هي تلك التي صورها فيكتور هوغو في روايته التي خلّد فيها فكرة الدفاع عن الحرية والعدالة، وحوّل الكنيسة من رمز للسلطة والاستبداد إلى ساحة للحرية والقيم النبيلة التي يحملها "الأحدب" بطل روايته، والتعاطف مع ماتمثله الكاتدرائية أو عدم الشماتة بحريقها على الأقل، هو انحياز أخلاقي وحضاري عام، لامكان للسياسة وعقد الحاضر والتاريخ فيه.

فحتى ولو التهمت النيران نوتردام ستبقى فكرتها ماثلة في الضمير الشعبي، هذا الضمير الذي حركه البوعزيزي بإضرام النار بجسده فتبعته شعوب المنطقة وثارت على طغاتها، ومازالت جذوة الحرية تتجدد في قلوب شبابها وهاهي الجموع بعد ثماني سنوات تتوسط ساحات الجزائر والسودان معلنة أن الحرية لاتموت، تنهض كالعنقاء من رمادها رغم كلّ الحرائق.

الكلمات المفتاحية