قدمت "عطايا سخية" لدعمه.. ما المقابل الذي تنتظره فرنسا من السودان؟

محمد السهيلي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

طيلة 5 قرون مضت ومنذ القرن الـ16 الميلادي وحتى القرن الـ20، ظلت الإمبراطورية الفرنسية جاثمة على صدور نحو 32 شعبا في قارات إفريقيا وآسيا وأميركا، لكن الشعوب الإفريقية والعربية كانت أكثر من عانى من ويلات الاستعمار الفرنسي.

الدولة الفرنسية الحالية ومنذ خروجها من إفريقيا تحاول استعادة أدوارها وسط وغرب القارة السمراء، وهو أمر زهر بوضوح شديد في أحداث تشاد (مستعمرة فرنسية سابقة) الأخيرة، ومقتل الرئيس إدريس ديبي في 20 أبريل/ نيسان 2021، وتسليم السلطة لنجله محمد، الأحداث التي لعبت فيها باريس دورا مثيرا للجدل.

الحديث عن الدور الاستعماري الفرنسي بإفريقيا يأتي في سياق مؤتمر احتضنته العاصمة باريس في 17 مايو/ أيار 2021، لمساعدة السودان على الاندماج بالمجتمع الدولي، بمشاركة أميركية وأوروبية وعربية وإفريقية، بجانب المؤسسات المالية الدولية، وهو ما يثير التساؤلات بشأن الدور الفرنسي المحتمل في السودان.

دعم غير مسبوق

المؤتمر، دعا له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المعروف بعدائه للمسلمين والإسلام، وأعلنت خلاله فرنسا والنرويج، إلغاء جميع ديونها على السودان، والمساهمة بتسوية الديون المستحقة عليها لصندوق النقد الدولي.

ماكرون، قال إن بلاده تلغي ديون نحو 5 مليارات دولار على الخرطوم، وتقدم قرضا تجسيريا قيمته 1.5 مليار دولار؛ لسداد متأخراتها إلى صندوق النقد.

وزيرة الخارجية النرويجية، إيني إريكسون سوريد، أعلنت أيضا إلغاء جميع ديون السودان لديها دون تحديد قيمتها، قائلة: "نهدف للحفاظ على مستوى عال من المساعدة يجعل السودان أحد المتلقين الأساسيين للمساعدات التنموية النرويجية".

بدورها، أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الصينية، هوا تشون ينغ، خفض وإلغاء بعض الديون السودانية لديها، وحثت المجتمع الدولي ليحذو حذوها، فيما طالب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش العالم بدعم السودان، ودعا بمؤتمر باريس "كافة المانحين للاستثمار هناك".

الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، قال: "سيواصل الاتحاد الوقوف بجانب التحول الديمقراطي في السودان، سياسيا وماليا".

السعودية، من جانبها أعلنت تقديم 20 مليون دولار كمنحة لتغطية الفجوة التمويلية للسودان لدى صندوق النقد، فيما أكد رئيس الانقلاب بمصر عبدالفتاح السيسي المشاركة في المبادرة الدولية لتسوية مديونية السودان باستخدام حصة مصر لدى الصندوق لمواجهة الديون المشكوك بتحصيلها.

السودان، الذي تصل ديونه الخارجية نحو 50 مليار دولار بنهاية 2019، نحو 85 بالمئة منها متأخرات فوائد غير مدفوعة وغرامات، وفقا لصندوق النقد، يعاني من تضخم بلغ 300 بالمئة ونقص بالسلع الأساسية، وفقر وبطالة، نتيجة عزلة دولية وعقوبات اقتصادية عانى منها في عهد الرئيس السابق عمر البشير، الذي تم عزله في أبريل/ نيسان 2019.

البداية من التطبيع

ورغم آمال السودانيين المعقودة على الدعم الدولي لتغيير أحوالهم، إلا أن هناك مخاوف كبيرة من نوايا التوجه الدولي لدعم الخرطوم عبر عنها مراقبون تحدثوا لـ"الاستقلال"، خاصة وأن مؤتمر باريس والتمويل الدولي والاستثمارات وشطب الديون تأتي بعد تطبيع السودان وإسرائيل في يناير/كانون الثاني 2021.

التطبيع جاء برعاية أميركية شطبت بموجبه واشنطن الخرطوم من قائمتها للدول الراعية للإرهاب، نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2020.

وإثر عملية التطبيع، تم رفع تلك العقوبات بل وفتح صندوق النقد والبنك الدوليين برامجهما أمام الخرطوم للاستفادة من برنامج البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، ومنحها تمويلا دوليا أرخص، وهو ما جعل البلاد تلتزم بخطط وقرارات صندوق النقد بدعوى الإصلاحات الاقتصادية والتي شملت تقليص دعم الوقود وخفضا حادا لقيمة العملة، ما أضر بالفقراء.

كما أن ذلك التطبيع فتح بابا للسودان في مايو/أيار 2021، لعقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي، على خطة تمويل للخرطوم تخصص لتخفيف ديونها المستحقة.

ووسط انتقادات حادة لمؤتمر باريس؛ وكون المكاسب السودانية تلك تأتي في ظل جرائم إسرائيل الجارية منذ 13 أبريل/ نيسان 2021، بحق الفلسطينيين والتي أودت بحياة أكثر من 200 مدني جراء القصف الإسرائيلي، ووسط صمت سوداني مطبق؛ دافع رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبدالفتاح البرهان، عن قرار التطبيع ومؤتمر باريس.

البرهان، قال في 17 مايو/ أيار 2021، خلال حديث لقناة "فرانس 24"، إن "التطبيع ليس له علاقة بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم"، ووصفه بأنه "تصالح مع المجتمع الدولي ومن ضمن المجتمع الدولي إسرائيل".

مخطط إخراج الإسلام

الكاتب الصحفي السوداني حسن إبراهيم، قال إن "هذا مشروع فرنسي لإخراج الإسلام والعروبة من المعادلة السودانية"، مؤكدا أن "باريس تحاول أن تحقق ما فشلت فيه طيلة استعمارها دول المغرب العربي".

وفي حديثه لـ"الاستقلال"، حذر من أن "يتحول السودان إلى بؤرة إلحاد ديني، وتطبيع مع الكيان الإسرائيلي"، داعيا لكشف هذا المخطط للشعب السوداني الأكثر تدينا بين بلدان العرب، وموضحا أن "الشعب جائع ومرهق ولا شفافية بمجتمعنا المنكوب، وهناك جهل بما يحاك".

الصحفي إبراهيم، يرى أن قبول السلطة السودانية الحالية لكل هذا الدعم المالي الغربي مهما كانت نتائجه ليس "اضطرارا أصابها" لصعوبة الأوضاع الاقتصادية ولكنه "تواطؤ منها"، مؤكدا أن هناك "أجندة أتت تلك السلطة لتحقيقها في السودان".

وفي تفسيره لتزامن مؤتمر باريس مع العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، قال إن "بلادنا مطمع للكل؛ لو ضمنوا سودانا خانعا فلا مانع لديهم حتى من حل الدولتين"، وموضحا أن "من يسيطر على السودان يتحكم بإفريقيا جنوب الصحراء، والمخطط هو خروج الإسلام من إفريقيا عبر السودان كما دخلها عبره".

وعلق على تبرير البرهان للتطبيع ومؤتمر باريس وعدم إضرارهما بالملف الفلسطيني، قائلا إن "البرهان مستمر في نهج الحكومات منذ الرئيس الأسبق جعفر نميري وحتى حكومة الرئيس السابق عمر البشير، في التنسيق مع إسرائيل".

وجزم إبراهيم بأن ما يقدم من دعم الآن للخرطوم دعم بلون الدم الفلسطيني، متسائلا: "أين كانت السعودية وفرنسا والنرويج والاتحاد الأوروبي عندما تعرض السودان سنوات طويلة للمحن والمجاعات؟".

وشدد على أن "السودان لا يحتاج مالا؛ ومشكلته منذ الأزل آلية توزيع الثروة والحكم الرشيد، وجميع أزماته مفتعلة".

ويرى أن تلك الأموال والمساعدات قد تحقق للشعب "انفراجة، لكنها ليست بسبب الأموال؛ لكنها مرتبطة بالتطبيع"، مبينا أنهم "يريدون ربط الانفراجة بالعلم الإسرائيلي، وبدعم الإمارات، مع أننا لسنا بحاجة لأحد، وفي الوقت ذاته ستذهب المليارات لجيوب معينة".

فرنسا الماكرونية

ويعتقد الباحث والمحلل السياسي عباس محمد صالح، أن "مخرجات مؤتمر باريس لن تؤثر إيجابا في تحسين الأوضاع في السودان في المدى المنظور؛ ذلك أن البلاد تعاني اختلالات هيكلية خطيرة، فاقمها نظام الحكم الانتقالي بسياسات زعزعت مؤسسات القطاع العام وانكماش الأداء الاقتصادي".

وفي حديثه لـ"الاستقلال"، أكد أنه "بعد مؤتمر باريس بساعات فقط تراجعت قيمة العملة السودانية (الجنيه) مقابل الدولار"، مضيفا أن "المشاركين في المؤتمر قلوبهم شتى؛ ففرنسا الماكرونية تريد احتواء أطراف النظام الجديد لتحقيق مصالحها في إفريقيا، بجانب توريط هذا النظام بلعبة التطبيع، وتصويره كطوق نجاة".

وألمح إلى أن "بعض عناصر النظام الانتقالي من ذوي التوجهات الليبرالية يريدون الاندماج بالمجتمع الدولي على طربقتهم؛ بينما عناصر أخرى تطمح النفاذ إلى أشكال التمويل لتحسين الأوضاع الداخلية السيئة؛ وبالتالي البقاء في السلطة في ظل تململ شعبي كبير".

وجزم الباحث السوداني إلى أنه "وبعكس ما هدف إليه مؤتمر باريس بإعفاء ديون البلاد، كانت الإعفاءات متواضعة، وأكثر من ذلك القروض التجسيرية تعني ببساطة إغراق البلاد بمزيد من الديون".

ويعتقد أن "المشكلة في اقتصاد البلدان، ليس نقص الموارد أو العنصر البشري ولا القدرات الإنتاجية، بل سلوكيات الطبقة وفسادها واغترابها عن قطاعات الشعب، وبالتالي إفراطها تحت النظام الحالي".

وألمح إلى وجود "هدر بالموارد، وإنفاق سياسي مفرط، في ظل تضخم هذه الطبقة بشكل سرطاني، والصراع المحتدم بين مكوناتها على السلطة وليس لإصلاح البلاد، خاصة اقتصاديا".

ويرى أنه "لن يعود على الشعب السوداني شيء، لأن السياسات الحالية كفوضى الإنفاق واختلال الأولويات، ستمتص فورا ما توفره بعض هذه الإعفاءات من فائض بالعملات الأجنبية".

خطوة استعمارية

السياسي المصري رضا فهمي، من جانبه قال إن "مؤتمر باريس لدعم السودان لا يمكن تقييم مخرجاته بمنأى عن تاريخ فرنسا بإفريقيا بشكل عام؛ والكل فوجئ بتصريح ماكرون عن أسف فرنسا عن فترات الاستعمار للقارة، ما اعتبره البعض بمثابة توبة فرنسية عن انتهاكات لمدة قرون بإفريقيا".

رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان المصري سابقا، وفي حديثه لـ"الاستقلال"، طرح التساؤل: "هل السلوك الفرنسي بعد تصريح ماكرون تغير تجاه إفريقيا، وأصبحت سياستها أكثر عدالة، وتوقفت عن نهب ثروات تلك الدول؟".

وأجاب: "لم يحدث ذلك، ومازال السلوك الفرنسي كما هو، بل إن باريس الأكثر نفوذا في الساحة الإفريقية، ولديها 5 قواعد عسكرية بالقارة، والأخطر سيطرة بنيتها التحتية الثقافية وقيامها بتغيير مدارك وأفهام ومنطلقات الشعوب الإفريقية عبر المدارس والجامعات والمراكز الثقافية، وزيادة وتعملق رقعة المتحدثين بلغتها".

وأضاف "على المستوى الاقتصادي؛ لفرنسا حصة كبيرة من المواد الخام في القارة وبأسعار متدنية مستخدمة نفوذها، وأغلب المواد الخام للمفاعلات النووية التي تمد فرنسا بالكهرباء إفريقية"، مشيرا إلى أنه حتى "في الألعاب الرياضية فإن منتخبات فرنسا أغلبها للاعبين أفارقة".

وجزم السياسي المصري بأن "فرنسا تتعامل مع إفريقيا باعتبارها امتدادا طبيعيا ومجالها الحيوي وضمن أملاكها ونفوذها، ولديها 14 دولة تتعامل معها بعملة موحدة كفرنك إفريقي مرتبط بالفرنسي، ما يشير إلى حجم السيطرة على القارة، وأن تصريحات ماكرون خداع".

وبشأن مؤتمر باريس، يرى فهمي أن "فرنسا أعلنت عن المؤتمر، وقدمت عطايا سخية بإسقاط ديون 5 مليارات وتسديد ديون لصندوق النقد 1.5 مليار دولار، وأيضا دمج السودان بالمنظومة الدولية وتمهد الطريق لها مع المؤسسات المالية العالمية".

وأوضح أنه "معلوم من السياسة بالضرورة أن الدول ليست جمعيات خيرية"، لافتا إلى "تصريحات فجة لماكرون، تشبه تصريحات الإرساليات التبشيرية وليس تصريحات رؤساء الدول عندما قال في المؤتمر: الآن هناك فرصة لتخليص السودان من عبء الدين".

وعاد فهمي، للتساؤل مجددا: "ما علاقة رئيس دولة أو مؤتمر لإنهاء عثرات السودان الاقتصادية بالبعد الديني؟"، مجيبا بقوله إن "ماكرون مسكون بفكرة الصراع الديني والعقائدي والطائفي، وهو بعد مسيطر على تصريحاته، وكل ما له علاقة بالعالم الإسلامي وكيفية تقويضه والسيطرة عليه هي أجندة لماكرون".

وتابع: "تصريح ماكرون يعبر عن مكنوناته تجاه العالم العربي والإسلامي ومنه السودان، وإعلان التوبة عما حدث في السابق ما هو إلا تصريح لتطييب الخواطر، لكن السياسة الفرنسية مازالت ممجوجة وفجة ولا تختلف عن الكيان الصهيوني". 

فهمي، أكد أن "فرنسا تضع عينها على خيرات السودان، وبذهنها استرداد الأموال التي أسقطتها بأقصر وقت، لو انفردت بالبلد العربي الذي يمكنه أن يكون سلة غذاء العالم إذا وصلت لإقامة اتفاقيات بعيدة المدى للمشروعات الكبرى عبر استثمارات بالزراعة والثروة الحيوانية والتعدين والطاقة والموانئ والبنى التحتية".

وأشار إلى أن "الحضور المصري السعودي في المؤتمر الفرنسي يأتي في ظل الحديث عن انتخابات لتداول السلطة في الخرطوم، ولاشك أن فرنسا تسعى لفرض منظومة ترضى عنها وتكون باريس جزءا من رسم خريطة السودان بمباركة مصرية سعودية ضمن حلقات إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية في المنطقة".

وختم البرلماني السابق فهمي، حديثه بالتحذير مما أسماه بـ"النقلة الخطيرة بأن يكون على الحدود الجنوبية لمصر نفوذ فرنسي واسع، واعتبره تهديدا للأمن القومي المصري".