العقد الاجتماعي وأي معنى للدستور التعاقدي؟

12

طباعة

مشاركة

دأبت في الفترة الماضية على متابعة محاضرات تخصصية في الفلسفة السياسية تطرحها عدد من كبريات الجامعات حول العالم مثل Harvard، و Cambridge، و Yale، ولدى تكرار وتنوع الشروحات المتعلقة بنصوص الفلسفة السياسية الكلاسيكسة، وخصوصاً تلك المتعلقة بنظرية العقد الاجتماعي، قفزت إلى ذهني ملاحظات تتعلق بطريقة وطبيعة تناول نظرية العقد الاجتماعي في الفضاء العام من قبل غير المختصين بالفلسفة السياسية، والملاحظة الثانية حول ما يسمى الدستور التعاقدي.

أما عن الملاحظة الأولى، فإنه من البين أن نظرية العقد الاجتماعي هي من أكثر مواضيع الفلسفة السياسية التي استطاعت وبكل رشاقة القفز بين مستويات التداول، من حيث خروجها من مستوى النقاش المتعلق بموضوعات الفلسفة السياسية إلى المستوى المتعلق بالنظرية السياسية، وتداولها المكثف في مستوى النظرية السياسية أكسبها تداولاً أوسع في مستوى عام مشاع، تتدافع فيه نقاشات الكثير ممن لا يتوفر لهم حظ كافٍ من المسائل المعرفية المتعلقة بالمستويين الأوليين، على أن تجلي هذه الفكرة في كل مستوى من المستويات اتخذ طبيعة مميزة.

ففي مهدها الأول، أعني مستوى الفلسفة السياسية، تأتي هذه النظرية لتبحث الأساس النظري لتشكل المجتمعات السياسية، أي طريقة تشكل هذه المجتمعات السياسية، وأي شكل كان لها قبل نشوء المجتمع السياسي، ثم ما طبيعة هذا التشكل، وما هي استحقاقاته على المستوى السياسي النظري وعلى المستوى الأخلاقي.

وجاءت إجابة الفلاسفة من خلال افتراض لحظة تأسيس متخيلة اسموها "العقد الاجتماعي"، بمعنى أن تشكل المجتمع السياسي تم بموجب تعاقد افتراضي بين أعضاء هذا المجتمع، ومحرك هذا البحث يستند على حقيقة وجود مجتمع سياسي حالي يفقد فيه أعضاؤه جزءا من حرياتهم، وهذا الأمر يقود إلى السؤال عن سبب تخلي هؤلاء الأفراد عن جزء من حقوقهم لصالح هذا الكيان المفترض، والطريقة التي عالج بها الفلاسفة هذه المسألة تتمثل في الإقرار بأن حالة المجتمع السياسية بما هو عليه ليست حالة طبيعية بل هو وضع تم بموجب إرادة البشر خروجاً عن الحالة الطبيعية.

وبالتالي فإن محاولة أي فهم فعلي لهذا الوضع يستوجب نوعا من الاسترجاع لطبيعة الوضع ما قبل المجتمع السياسي أو الحالة الطبيعية (State of Nature).

ونجد أن المسائل المتعلقة بمحاولة فهم حالة الطبيعة هذه، وباعث أفراد المجتمع للدخول في نوع من التعاقد/التفاهم الجمعي، وطبيعة هذا التعاقد، هي التي أدت إلى وجود نسخ متعددة من نظرية العقد الاجتماعي، على أن هذه النسخ كلها تنطلق من وجود عقد اجتماعي يقف أساساً مفترضاً خلف فكرة المجتمع السياسي.

في حين أنه يمكن رصد تجليات فكرة العقد الاجتماعي في مستوى النظرية السياسية من خلال تجسدها/تأثيرها في أفكار ونظريات أقل تجريداً من تلك الواردة في سياق الفلسفة السياسية، ومثال ذلك فكرة الدولة، والحكومة، العدالة، الحرية، المساواة، وغالباً ما تجد النضالات السياسية والنشاطات الحقوقية مجالها في هذا المستوى، نظراً لأنه ألصق بواقع الحياة السياسية، وبالتالي فإن مستوى التداول فيه أوسع بكثير من المستوى الأول، وكثافة التداول في هذا المستوى، أدى إلى مرور "العقد الاجتماعي" كمصطلح إلى مستوى أوسع من التداول.

وفي هذا المستوى الثالث من التداول نجد أن المفهوم الأساس لمصطلح "العقد الاجتماعي" لا يهتم بالتأسيس القبلي المفترض لفكرة المجتمع السياسي، ولا بمتطلبات النظرية السياسية وبالتجليات الممكنة لمفاهيم مثل المساواة والعدالة وطبيعة الحكومة، وغالبا ما يتشكل هذا المستوى في الدول غير الديمقراطية، التي يُغيَّب فيها الشعب عن المشهد السياسي بشكل شبه كلي، فمصطلح "العقد الاجتماعي" في هذا المستوى له سحره الخاص؛ ومصدر السحر يكمن في فعل "نقض التغييب" الذي يحبل به المصطلح، إذ أنه المصطلح -في هذا المستوى- يأتي بمعنى صورة من التقابل بين السلطة والشعب، فهو من جهة يحمل معنى نقضي لشمولية السلطة وطغيانها، ومن جهة أخرى يحمل معنى استحضار الشعب المغيب.

ونجد أن التحليل السابق يقدم أحد التفسيرات الممكنة لفكرة "الدستور التعاقدي"، الذي يحمل المعنى الحرفي للتعاقد من حيث إن التراضي (consent) يحتل المركز في كامل هذه العملية، فالفكرة الأساسية تتمثل في أن يتم صياغة الدستور عن طريق لجنة تأسيسية لصياغة الدستور –سواءً منتخبة بصورة مباشرة أم غير مباشرة أم كانت معينة بشكل مباشر- على أن إقرار هذه الدستور ونفاذه معلق على موافقة الشعب والسلطة السياسية معاً، وهو بذلك بمثابة حل تلفيقي، وسبب ذلك هو أن الدستور لا يمكن أن يكون عقدياً أساساً، ومسألة أن توافق السلطة السياسية القائمة على مواد هذا الدستور، وتفاوض بشأنها لتتخير ما هو أنسب لها، يخرجنا من فكرة الدستور ووظيفته.

إن النقاش المتعلق بدستور تعاقدي له دلالته في عمان، ذلك أنه في عام 2009 قام عدد من الناشطين من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بالدعوة إلى وضع دستور تعاقدي للبلاد، وتم في إثر ذلك إعداد عريضة قدمت إلى السلطان قابوس، وفي هذه الفترة ظهرت مقالات تناقش هذ المسألة، وأذكر منها مقال "الدستور التعاقدي العماني وطرق أبواب المقدس" لزكريا المحرمي، ومقال "الدستور التعاقدي خطوة نحو الأمام" لعمار المعمري.

ويطرح مقال زكريا فكرة أن ثمة انشقاق في صف "المثقفين" في سلطنة عمان حيال فكرة الدستور التعاقدي، فالأولى تؤيده بدعوى أنه ضرورة مشاركة الشعب في وضع الدستور وهذا الأمر بمثابة ضمان لاستقرار البلاد، أما الفئة الثانية فهم أؤلئك المعارضين لفكرة الدستور التعاقدي من حيث إنه –أي الدستور التعاقدي- يحد من صلاحيات السلطان، وبغض النظر عن صحة وجود هذا الخلاف بين المثقفين بحسب إدعاء هذا المقال، نجد أن كاتبه يقترح حلاً وسطاً مفاده أن يعين السلطان لجنة من الحكماء والخبراء يقومون بوضع مسودة الدستور ومن ثم تعرض على الشعب أو ممثليه.

إلا أنني وللحق لا أرى كيف يمكن لهذا الاقتراح أن يكون وسطاً، لاسيما وأن الخلاف بحسب توصيف المقال هو حول تقييد صلاحيات السلطان، وهل سيعين من يشغل منصب السلطان من سيحد من صلاحيات المنصب؟! وأليست المشاركة الحقيقية تكمن في وضع الدستور من خلال ممثلي الشعب أو ممن ينتخبهم الشعب لهذا الغرض؟!

أما المقال الثاني، فهو أوضح قصداً و أكثر نضجاً؛ ذلك أنه يقرر منذ البداية أن هذه النوعية من الدساتير هي دساتير غير ديمقراطية أساساً، إلا أنها بمثابة "مرحلة أولى لوجود إرادة المواطنين والاعتراف بها"، وهو بمثابة جسر للانتقال من "الإرادة المختلطة إلى المرحلة الثانية في المستقبل لتستأثر وحدها الأمة في وضع دستورها بعد أن كانت –في الدستور التعاقدي- إرادتها مقيدة بموافقة الحاكم وتصديقه للدستور التعاقدي".

والنقطة الأهم التي ركز عليها هذا المقال هي أن عملية إعداد الدستور التعاقدي يتعهد به الشعب ابتداء، على أن تكون المصادقة النهائية على مسودة الدستور التي أعدها الشعب معلقة على موافقة الحاكم لا العكس، وهي مسألة جوهرية إذا ما أخذنا في الاعتبار أن لفظة "المشاركة الفعلية" هي كلمة السر في هذه العملية. 

إلا أن ثمة شكوك حول مدى إمكانية "الدستور التعاقدي"، إذ أن السلطة السياسية التي بيدها مقاليد كل شيء لا يمكن أن تتخلى عن جزء من سلطتها وتتشارك مع الشعب في إعادة صياغتها والتوافق بشأنها، وفي اللحظة التي توجد فيه مثل هذه السلطة، فإني أتوقع أنها ستكون مستعدةً لا إلى هذه الخطوة فقط بل إلى خطوة أوسع وأكبر.

الكلمات المفتاحية