دعم السودان بعد سقوط البشير.. مال "الابتزاز" السعودي يتحدث

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

سارعت السعودية إلى تقديم مساعدات إنسانية للسودان بعد أيام من الإطاحة بالرئيس عمر البشير، في موقف رسمي هو الأول للرياض منذ الاحتجاجات التي اندلعت ضد الأخير قبل نحو 4 أشهر، ورغم أن المساعدة غير مستغربة في ظل ما تمر به الخرطوم من أزم اقتصادية خانقة كانت سببا مباشرا في اشتعال شرارة الاحتجاج، إلا أن توقيت الإعلان عنها، يثير العديد من علامات الاستفهام.

فلماذا اختارت الرياض تقديم مساعداتها في هذا التوقيت بعد سقوط البشير؟، ألم تكن قادرة على تقديمها للبشير نفسه على نحو قد يساعده في احتواء الغضب الشعبي المتصاعد ضده على مدار أشهر؟، وهل يوحي هذا بدور سعودي غير مباشر في إسقاطه؟

مساعدات بعد انقطاع

في رد فعلها الأول على الأحداث المتسارعة في السودان، أعلنت السعودية "تأييدها لما ارتآه الشعب السوداني الشقيق حيال مستقبله، وما اتخذه المجلس العسكري الانتقالي من إجراءات تصب في مصلحة الشعب السوداني الشقيق"، كما أعلنت "دعمها للخطوات التي أعلنها المجلس في المحافظة على الأرواح والممتلكات".

البيان الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية الرسمية "واس" السبت، قال إن توجيهات العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز صدرت "للجهات المعنية في المملكة بتقديم حزمة من المساعدات الإنسانية تشمل المشتقات البترولية والقمح والأدوية"، وذلك "إسهاما من المملكة في رفع المعاناة عن كاهل الشعب السوداني الشقيق".

المثير أن الإعلان عن المساعدات السعودية، يأتي بعد أكثر من شهر على تقرير نشرته "وول ستريت جورنال" الأمريكية، نقل عن مسؤول غربي رفيع المستوى في الخرطوم إن دول الخليج ترفض تقديم مساعدات للسودان.

وبحسب التقرير الذي تزامن مع الاحتجاجات الشعبية ضد البشير، فإن سبب الرفض الخليجي هو عدم حصول دوله على مقابل سياسي لاستثماراتهم المالية في السودان، وبالتالي "ليس لديهم استعداد لإنفاق المزيد من الأموال في هذا السياق".

المسؤول الغربي أشار الى أن دول الخليج لا تعرف إذا كان نظام البشير باستطاعته الصمود أمام الاحتجاجات أو إذا كان بالإمكان الوثوق به لذلك حجبت المساعدات، وألمح البشير أكثر من مرة خلال التظاهرات إلى أنه رفض عروضا من دول – لم يسمها - لتقديم المساعدة مقابل تقديم تنازلات، قال إنها "لا تتسق مع مبادئ الكرامة والعزة"، وقال: "نصحونا بالتطبيع مع إسرائيل لتنفرج عليكم، ونقول الأرزاق بيد الله وليست بيد أحد".

وعلى الرغم من تأييد الرئيس السوداني المعزول للمملكة في حربها على جماعة الحوثي باليمن ودفعه آلاف الجنود للمشاركة في الحملة البرية، إلا أن الخرطوم لم تحصل على أي دعم سعودي يقيل عثرتها الاقتصادية المتفاقمة، بينما سارعت الرياض لتقديم مساعدات سخية للأردن الذي واجه وضعا اقتصاديا مأزوما قبل أشهر عدة كما حذت دول خليجية أخرى ذات الخطوة في مساعدة البحرين.

هل السعودية أسقطت البشير؟

الكشف عن تلك المعلومات التي توحي بضغوط ربما تكون السعودية قد مارستها على البشير، من أجل شراء موقفه من مسألة التطبيع مع إسرائيل، يثير تساؤلات بشأن دور محتمل للمملكة ولو بشكل غير مباشر في دعم إسقاطه، عبر حجب مساعدات اقتصادية ملحة كانت بإمكانها لكنها امتنعت عن تقديمها في الوقت المناسب.

لكن ليست قضية التطبيع فقط هي الثمن الذي كانت تريده الرياض، بل ربما يتعلق الأمر بالأزمة الخليجية وموقف السودان منها، الذي بدأ بالحياد وعرض جهود الوساطة، وانتهى إلى تناغم تام مع الموقف القطري، وتحالف غير مسبوق مع تركيا الداعم الأول للدوحة في مواجهة السعودية وفريق الحصار.

وكأن المملكة أرادت عقاب البشير على موقفه من الأزمة الخليجية، فامتنعت مرارا عن مساندته اقتصاديا، مرورا بالصمت حيال ما يواجهه من احتجاجات تسببت فيها الأزمة الاقتصادية، وصولا إلى دعم قوي قد يكون له ما بعده للجنرالات الذين أطاحوا بالبشير.

هذا الاستنتاج الذي يشي بدور سعودي في إسقاط البشير ليس بدعة في هذه الحالة، بل سبق للرياض أن مولت جهود الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، ثم انهالت ملياراتها على نظام ما بعد 3 يوليو/تموز 2013، وأصبح عبدالفتاح السيسي رجلها المدلل فيما بعد.

الابتزاز سيد الموقف

يبدو أن الضغوط والابتزاز الذي تعرض له السودان في عهد البشير من قبل السعودية ليس مستغربا، حيث استخدمت السعودية مالها من أجل شراء مواقفه، وابتزازه بورقة المساعدات مقابل ما تمليها عليه من مواقف وقرارات وتوجهات، حيث تمد له يد العون كلم تناغم مع سياستها، وتحجب عنه أموالها، حين يحيد عما رسمت له.

منذ عام 2009 حين أقرت الولايات المتحدة عقوباتها ضد السودان وانضمت دول الخليج – عدا قطر - مشاركة في الحصار، لم يجد البشير بدا من الانضمام إلى حلف إيران الاقتصادي، وعندما رغب في العودة إلى البيت العربي كان عليه دفع المقابل للسعودية، فطرد المستشار الإيراني أواخر عام 2013، ثم أعلن المشاركة في عاصفة الحزم 2015، كما حضر بقوة في صف الرياض أثناء خصومتها مع القاهرة عام 2016.

وهكذا عندما رفض السودان مقاطعة قطر والتماهي مع السعودية ودول الحصار كان العقاب المباشر، بإحياء قانون أفضى إلى ترحيل نحو 50 ألف سوداني إلى بلادهم، بعد أن كانت قد جمدته الرياض لسنوات عندما قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع إيران أوائل عام 2016، استجابة لطلب سعودي إثر اندلاع الأزمة الأكبر بين الرياض وطهران على خلفية إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر في المملكة.

وشهد عام 2017 وحده حدثت 5 لقاءات بين الملك سلمان والبشير، أبرزها في 23 يناير/كانون الثاني، عاد من الرياض بعقود استثمارية كبيرة، بعددها بشهر هاجم مصر بشدة حين كانت علاقاتها متوترة مع السعودية، وكان على موعد في الزيارات الأخرى مع طلبات سعودية متصاعدة بمقابل جديد وتنازلات تناسب المرحلة، الأمر الذي وضع البشير أمام خيارين إما يستمر في موقفه من الأزمة الخليجية فيخسر المال السعودي، أو تجبره الرياض على ذلك فيخسر داعميه في سنوات الحصار.

إشارات استجابة السودان إلى ابتزاز السعودية، دفعت الأخيرة إلى إجراءات تنتشل الخرطوم من عثرتها المالية، مثل إيداع  مليار دولار في البنك المركزي السوداني، ومساعدات عسكرية قيل إنها صلت لنحو 5 مليارات دولار، وغيرها من المساعدات.

إلا أن استمرار السودان في موقفه من الأزمة الخليجية نظرا لدور قطر المحوري في أزمة حصاره ثم إنهاء الحرب في دارفور عبر وثيقة الدوحة، وغيرها من المشروعات الاقتصادية، ثم مؤخرا من التطبيع مع إسرائيل، دفعه إلى مواجهة ضغوط سعودية تقود اقتصاده إلى الهاوية كما انتشلته من السقوط، تمهيدا لإسقاط البشير نفسه.

إسقاط مرسي

في مصر لعب المال السعودي دورا بارزا، قد تتشابه بعض فصوله مع النموذج السوداني، فأهملت الرياض محمد مرسي أول رئيس منتخب في تاريخ مصر ولم تدعمه في أزمة مصر الاقتصادية بعد عام ونصف من ثورة يناير/كانون الثاني 2011، رغم ما عبر عنه من تقديره لقيمة ومكانة السعودية وخصها بأول زيارة رسمية له.

لم يتوقف دور المال السعودي عن حد حجبه مع الرئيس المنتخب بإرادة شعبية، بل وجهته الرياض نحو الثورة المضادة والساعين لإسقاطه، فدعمت حركة تمرد والمناوئين لحكم مرسي، ثم الجيش وصولا إلى لحظة إعلان بيان 3 يوليو/تموز 2013 بالإطاحة بمرسي، لتنجح السعودية في مخططها.

صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، كشفت في مقال تحليلي، أسرارا مثيرة عن تفاصيل الانقلاب على مرسي، مؤكدة أن كلا من الاحتلال الإسرائيلي والإمارات والسعودية كانوا داعمين للانقلاب.

وتحت عنوان "البيت الأبيض والرجل القوي" قال كاتب المقال مدير مكتب الصحيفة السابق بالقاهرة، ديفيد كيركباتريك إن "السعودية والإمارات، اللتين يخشى حكامهما الانتخابات، ويمقتونها أكثر  لأنها انتهت بفوز الإسلاميين، قادوا حملة ضغط شديدة لإقناع واشنطن أن مرسي والإخوان المسلمين يشكلون خطرا على المصالح الأمريكية".

وفي سياق شهادته على ما جرى بمصر، تابع كيركباتريك قائلا إن "وزير الدفاع الأمريكي آنذاك (بين فبراير/شباط 2013 ونوفمبر/تشرين الثاني 2014)، تشاك هاجل، وفي مقابلة أجراها معه بداية عام 2016، تحدث عن الشكاوى والتذمر بخصوص مرسي من قبل إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة".

وبعد أن لعب المال السعودي دوره في إجهاض ثورة يناير/كانون الثاني بدهس أبرز مكتسباتها (أول رئيس مدني منتخب)، كان 3 يوليو/تموز لحظة فارقة، بعدها بساعات قليلة بدأ دور جديد للمال السعودي، حيث انهالت المساعدات والمنح المليارية على الدولة الجديدة بقيادة الجنرال السيسي، واستمرت بعد وصوله إلى سدة الحكم.

ولا توجد أرقام مدققة حول حجم المساعدات المقدمة من السعودية للسلطات المصرية في فترة ما بعد الانقلاب؛ وذلك بسبب عدم إعلان أي من الدولتين عن هذه الأرقام؛ لكن حسب بعض الأرقام غير الرسمية فإن مصر حصلت على مساعدات سعودية تجاوزت 25 مليار دولار منذ الانقلاب وحتى تعهدات مؤتمر شرم الشيخ البالغة 4 مليارات دولار مساعدات جديدة.

توزعت هذه المساعدات بين 5 مليارات مساعدات نفطية، و3 مليارات في شكل ودائع لدى البنك المركزي المصري، والباقي منح ومساعدات نقدية وعينية أخرى، وكان العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز قد أمر عقب بيان 3 يوليو/تموز، مباشرة بتوجيه حزمة مساعدات إلى مصر تقدر بـ5 مليارات دولار، تضمنت ملياري دولار منتجات نفطية وغاز، وملياري دولار كوديعة ترد، بالإضافة إلى مليار دولار نقدا كمنحة.

وعلى الرغم من أن العديد من المحللين توقعوا عدم منح السعودية مساعدات جديدة لمصر عقب تولي الملك سلمان الحكم، ودعم هذه التوقعات تهاوي أسعار النفط المورد الرئيس للموازنات الخليجية، وفقدانها نحو 60 بالمئة منها في النصف الثاني من عام 2014، وتسريبات مكتب السيسي التي وصف فيها دول الخليج بأنها أنصاف دول، فإن ولي العهد السعودي حينها الأمير مقرن بن عبد العزيز أعلن في كلمة بمؤتمر "مصر المستقبل" الدولي للتنمية الاقتصادية في شرم الشيخ مارس/آذار 2015، عن تقديم المملكة حزمة مساعدات جديدة لمصر بقيمة 4 مليارات دولار، تشمل وديعة بمليار دولار في البنك المركزي والباقي مساعدات تنموية.

دعم الثورات المضادة

رغم الثروة الكبيرة للسعودية التي راكمتها العوائد النفطية منذ منتصف السبعينيات، وبخاصة تلك التي تدفقت في الفورة النفطية الثالثة خلال الفترة 2003-2013؛ لم تظهر السعودية كدولة متقدمة ضمن التصنيفات الدولية، حيث تعتمد في ناتجها المحلي على المصادر الريعية، وتقل مساهمة القيمة المضافة في نشاطها الاقتصادي، كما لم يساعدها وضعها المالي المتميز في صناعة واقع سياسي على الصعيدين العالمي والإقليمي.

وإن كان من دور للمال السعودي على الصعيد السياسي، فهو دور سلبي من أجل كسب تأييد أمريكي أو غربي أو روسي للموقف السعودي في إطار القضايا والملفات الإقليمية، وهو ما جعل من السعودية ثاني مستورد للسلاح على مستوى العالم في 2017.

التجربة السعودية تشهد تراجعا في أدائها تجاه التوظيف السياسي والاقتصادي لثرواتها المالية، فالعديد من الملفات التي تدخلت فيها السعودية كان مردودها سلبي كما هو الحال في اليمن وسوريا، وكذلك دعم الثورات المضادة بدول الربيع العربي مما خصم كثيرا من رصيد السعودية لدى أبناء دول الربيع العربي والعالم الإسلامي.

وبهذا رسم المال السعودي، خاصة في عهد الأمير محمد بن سلمان الملك الفعلي، طريقه في اتجاهين، الأول إجهاض ما تبقى من ثورات الربيع العربي، أما الثاني فتمويل الثورات المضادة بكل ما أوتي من قوة.

ولعل أحدث ما يبدو في هذا السياق، ما كشفته "وول ستريت جورنال" قبل أيام، حيث نقلت عن مصادر سعودية وصفتها بالرسمية، أن المملكة وعدت بتوفير الدعم المالي للواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر زعيم الثورة المضادة في ليبيا، بحربه التي يشنها حاليا لاحتلال العاصمة طرابلس.

وفي التفاصيل، أوضحت الصحيفة الأمريكية أنه "قبل أيام معدودة من إطلاق حفتر عمليته العسكرية على العاصمة الليبية للسيطرة عليها، وفي ظل محاولته توحيد البلاد المنقسمة تحت سلطته، وعدت المملكة العربية السعودية بتقديم عشرات الملايين من الدولارات للمساهمة في تمويل عمليته"، بحسب ما نقلته عن مسؤولين سعوديين.

وأضافت  أن العرض السعودي جاء خلال زيارة حفتر للرياض، التي سبقتها زيارات خارجية أخرى جمعته بعدد من المسؤولين الغربيين، خلال الأيام والأسابيع التي سبقت إعلانه بدء حربه على طرابلس، الخميس 4 أبريل/نيسان الجاري.

في اليمن مزقت نيران الثورة المضادة مهد العرب مرتين؛ حين انقلبت على نتائج الثورة على يد الحوثيين وبتشجيع ودعم من السعودية والإمارات كما أكدت ذلك مصادر إعلامية متعددة، ومرة أخرى حين حولت عاصفة الحزم وأخواتها اليمن السعيد إلى أكثر بلد مجاعة وشقاء في العالم، وفق بيانات الأمم المتحدة.

ولا تزال السعودية تحاول لملمة جراحها وتعويض خسائرها المالية نتيجة تورطها في الحرب هناك، بسبب الدور السلبي الذي لعبته بمالها على مدار سنوات، لم تحارب خلالها الحوثيين فقط، بل حاربت اليمنيين أنفسهم، وحولت البلاد إلى فريسة سهلة تتنازعها ميليشيات مدعوم إماراتيا وأمراض مستعصية، بجانب الحوثيين.

وفي سوريا، ظن كثيرون أن الرياض تحارب نظام بشار الأسد عبر دعم بعض الكتائب المسلحة المعارضة له، لكن سرعان ما تحولت البلاد – بفعل عوامل أخرى أيضا – إلى ساحة حرب دولية وإقليمية، ثم تراجعت السعودية مؤخرا تحت ضغوط كبيرة عن مطلبها الدائم بضرورة إزاحة الأسد عن الحكم.