بيان الضباط المتقاعدين بتركيا.. هدفه "قناة إسطنبول" أم تغيير الدستور؟

إسماعيل يوسف | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بين عامي 1960 و1980 نفذ الجيش التركي، الذي يعتبر نفسه وصيا علي دستور البلاد العلماني، 3 انقلابات عسكرية، بينما أحبطت حكومة أردوغان محاولة انقلاب رابعة في 15 يوليو/ تموز 2016.

الانقلابات السابقة جاءت عقب "مذكرة عسكرية"، لا تختلف عن تلك التي أعلنها 103 من جنرالات (أميرالات) البحرية التركية المتقاعدين مساء 3 أبريل/ نيسان 2021.

الفارق بين المذكرات العسكرية التي واكبت الانقلابات السابقة، والتي هي أشبه بالإنذارات، وبين المذكرة الأخيرة (الكتاب المفتوح) الذي قدمه الأميرالات، أن الأخيرة جاءت من "متقاعدين" ليسوا "في الخدمة".

لهذا وصفها وزير الخارجية التركي مولود جاوش في حوار مع  قناة "أ - خبر" 4 أبريل/ نيسان 2021 بأنها "أسلوب يستحضر انقلاباً" لأنها "بمثابة مذكرة عسكرية". واعتبر المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن أن الكتاب المفتوح "يذكر بزمن الانقلابات".

ورد عليهم رئيس دائرة الاتصالات في رئاسة الجمهورية، فخر الدين ألتون عبر تويتر: "اعرفوا حدودكم"، وذكرهم بـ"كيف داس الشعب على الانقلابيين عام 2016".

وقال الرئيس رجب طيب أردوغان 5 أبريل/ نيسان 2021 إن البيان "لا يمكن وصفه بأنه حرية تعبير" وإن "له تداعيات انقلابية خبيثة"، ونفى وجود "أي خطط للانسحاب من اتفاقية مونترو".

كان هذا كافيا لأن يصدر القضاء التركي 5 أبريل/نيسان 2021 مذكرات توقيف بحق 10 من كبار هؤلاء الأميرالات المتقاعدين، الذين يقفون خلف المذكرة، ويستدعي 4 آخرين (دون اعتقالهم لكبر سنهم).

خلفية جميع الأميرالات الموقعين على الاتفاقية من "اليسار الأتاتوركي"، وهو تيار قوي جدا في الجيش والخارجية التركية، لكنه ضعيف في أجهزة الدولة الأخرى، بحسب الصحفي التركي محمد أونالمش عبر حسابه بتويتر.

"انقلاب شفوي"

رغم أن البيان سعى للتركيز في بدايته على قضية قناة إسطنبول واتفاقية مونترو، إلا أن هدفه الحقيقي التحذير من سعي الرئيس أردوغان لوضع دستور جديد "مدني" بدلا من دستور العسكر الحالي المعدل.

بيان الـ 103 أميرالاي بحري متقاعد، يبدو ظاهريا كأنه يرفض عزم الحكومة تنفيذ مشروع قناة إسطنبول المائية، الموازية لمضيق البوسفور، خشية تسبب ذلك بمشاكل لتركيا الموقعة على اتفاقيات دولية خاصة بالمضائق البحرية.

لكن قضية البيان الأساسية التي يعمد تأخيرها وراء مطلب رفض قناة إسطنبول، هي "تغيير الدستور" أو ما أسموه "الخط الذي رسمه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية".

إعراب الجنرالات عن عدم ارتياحهم من "مناقشات تغيير الدستور"، وتأكيدهم رفض الجيش تغيير الدستور، أو التفكير في كتابة دستور جديد"، وتحذيرهم من أن "البلاد خرجت عن قيم الجيش، والخط الذي رسمه أتاتورك"، كان رسالة تهديد واضحة ترقى إلى "الانقلاب الشفوي"، أو تحريض أنصارهم للقيام بانقلاب حقيقي.

توقيت بيان العسكر المتقاعدين يبدو أنه مدروس بعناية، حيث صدر في وقت تتكالب فيه المؤامرات على تركيا وتحارب عملتها المحلية، للضغط لمنع تمرير دستور جديد وإعادة الاعتبار لما تبقى من جنرالات حماية علمانية أتاتورك.

الجنرالات سعوا لتأليب العالم شرقا وغربا على أردوغان بإثارة مخاوف الدول الموقعة على اتفاقية مونترو كي تدعم سعيهم لحصار مشروع أردوغان العثماني (الإسلامي التوجه).

وزعموا أن أردوغان يسعى من خلال قناة إسطنبول لـ "فتح النقاش حول اتفاقية مونترو والمعاهدات الدولية التي وقعتها تركيا" بعد انهيار الخلافة، وأنه قد يلغيها، وروجوا أن تركيا قد تلجأ بعد الانتهاء من إنشاء القناة الجديدة لفرض شروط على عبور السفن عبر الممرات المائية (البوسفور) مثلما ستفعل في "قناة إسطنبول".

استهدفوا من وراء هذا دفع دول الحرب العالمية الأولى للتكالب مرة أخرى على تركيا وأردوغان وحصاره بدعاوى أنه "ينوي" - ولم يفعل- نقض اتفاقية دولية، كي يكون هذا عونا لهم ربما للتحضير لـ"انقلاب" يستهدف منع وضع دستور جديد لتركيا يخلصها من هيمنة العسكر وأصحاب "قميص أتاتورك".

وفي مداخلته مع قناة "أ - خبر" المحلية 5 أبريل/ نيسان 2021، أكد وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو نية الضباط المتقاعدين استهداف أردوغان والتغيير الديمقراطي في تركيا وليس اتفاقية مونترو.

وقال "إن الذين يقفون وراء البيان لا يعنون منه اتفاقية مونترو، وإنما يستهدفون الرئيس أردوغان وحكومته وتحالف الشعب (يضم حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية)".

تشاووش أوغلو أكد أن قناة إسطنبول المائية التي تعتزم تركيا فتحها "لا تؤثر على اتفاقية "مونترو" (الخاصة بحركة السفن عبر المضايق التركية)، وأن الاتفاقية ليس لها تأثير كذلك على مشروع القناة".

وأشار إلى وجود بيانات مشابهة لبيان الضباط الـ 103 صدرت في وقت سابق من سفراء أتراك متقاعدين، وتم تفنيدها، وأنها "بيانات سياسية وليست فنية"، قائلا: "يلوحون بالعصا من تحت عباءتهم، ولو كانوا على رأس مهامهم لكان بيانهم بمثابة مذكرة (عسكرية) إلا أنهم متقاعدون".

"ملكية عسكرية"

سعي الأميرالات الأتراك المتقاعدون للتركيز في بيانهم على استرجاع فكرة أن الجيش هو حامي حمى العلمانية وتعاليم أتاتورك، التي هدمها الأتراك بالانتفاضة ضد انقلاب يوليو 2016.

الجنرالات حرصوا على تأكيد أنهم وحدهم من لهم حق وضع الدستور وتغييره، كأنه "ملكية عسكرية"، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من نفوذ العسكريين العلمانيين أتباع أتاتورك.

لهذا قالوا في البيان "من الضروري أن يحافظ الجيش التركي على القيم الأساسية للدستور، والتي لا يمكن تغييرها ولا يمكن اقتراح تغييرها". وأدانوا الابتعاد عن "هذه القيم وعن المسار المعاصر الذي رسمه أتاتورك"، وطالبوا بـ "ضرورة السير مع مبادئ ثورة أتاتورك".

وفق متابعين، فإن ما جرى قد يندرج تحت المثل الشهير "رب ضارة نافعة"، ومثلما أعطت محاولة انقلاب يوليو/ تموز 2016 الفاشلة لأردوغان فرصة ذهبية لتحجيم نفوذ الجيش العلماني، فقد تعطيه مذكرة الأدميرالات الأخيرة دافعا أكبر للقضاء علي ما تبقى من نفوذ علماني في الجيش.

وفي 24 يوليو/ تموز 2017 أكدت وكالة الأناضول الرسمية أن عدد الجنرالات والأميرالات في الجيش التركي انخفض بنسبة 40 بالمئة بسبب الإقالات والتقاعد والاستقالات بعد محاولة الانقلاب.

وأوضحت أن عدد الجنرالات والأميرالات انخفض خلال عام من 326 إلى 196 منذ 15 يوليو/ تموز 2016 بعد محاولة الانقلاب العسكري.

دستور مدني

ظل قادة حزب "العدالة والتنمية" منذ وصولهم لسدة الحكم قبل نحو 15 عاما، يؤكدون على ضرورة تغيير الدستور العسكري (دستور 1982 الذي وضع إثر انقلاب عسكري)، والعمل على تعديلات جذرية فيه.

أجرى الحزب تعديلات بهذا الدستور عامي 2007 و2010، وكان التعديل الأبرز هو الاستفتاء الكبير على تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي عام 2017.

مطلع فبراير/ شباط 2021، دعا الرئيس أردوغان لمناقشة صياغة "دستور مدني" جديد للبلاد محملا كل المشكلات التي كانت ومازالت إلى الدساتير القديمة التي وصفها بأنها من "صنع الانقلابيين".

لاحقا، وفي خطاب أمام نواب حزبه 10 فبراير/ شباط 2021 قال: "من الواضح أنه في صلب مشاكل تركيا دساتير صاغها انقلابيون"، وقال إن الدستور الجديد "سيكون أول دستور مدني في تاريخ الجمهورية التركية".

عملية وضع دستور جديد في تركيا تتطلب الحصول على أغلبية الثلثين في البرلمان التركي لهذا يحاول حزب العدالة إقناع الأحزاب المعارضة به، لكنها تتهم أردوغان بالسعي لتعزيز سلطاته عبر نظام الحكم الرئاسي الذي أدخله على الدستور كي يفوز في انتخابات 2023، وإجهاض دعوات للعودة للنظام البرلماني.

 

اتفاقية مونترو

بعد انهيار الخلافة العثمانية واحتلال جيوش عالمية لتركيا، جرى توقيع اتفاقية "مونترو" التي دخلت حيز التنفيذ عام 1936، حيث تنظم مرور السفن المدنية والعسكرية عبر المضايق التركية، وتسمح لسفن الدول المطلة على البحر الأسود (أوكرانيا وروسيا وجورجيا وتركيا وبلغاريا ورومانيا) بحرية العبور من مضيقي البوسفور والدردنيل في السلم والحرب.

ولأن تركيا لا تستفيد ماليا من مرور السفن في أراضيها، ويزدحم مضيق البوسفور بسفن الدول المختلفة، فكرت في إنشاء قناة موازية تسمى "قناة إسطنبول" تفرض من خلالها رسوما على العبور.

في ذروة انشغال تركيا بالانسحاب من "اتفاقية إسطنبول" لمكافحة العنف ضد المرأة لمخالفتها الشريعة، أطلق رئيس البرلمان مصطفى شنطوب، تصريحا قال مراقبون إنه مس خطوطا إستراتيجية حمراء بالنسبة  للأمن القومي التركي.

شنطوب قال في 30 مارس/ آذار 2021: "رئيس الجمهورية مثلما انسحب من اتفاقية إسطنبول بقرار رئاسي، يمكنه أن ينسحب من اتفاقية مونترو، كما من كل الاتفاقيات الدولية الأخرى". 

أحدث تصريح رئيس البرلمان التركي قلقا بين المعارضة التركية، وقالوا إنه "يمس بثوابت تركية"، إذ إن من وقع "اتفاقية مونترو" هو كمال أتاتورك، وزعموا أن أردوغان يذهب بعيدا في مسألة تجاوز إرث أتاتورك ويمس بـ "الخطوط الإستراتيجية الحمراء".

ورغم أن مصدرا تركيا قال لوكالة "نوفوستي" الروسية 4 أبريل/ نيسان 2021 إن انسحاب أنقرة من اتفاقية مونترو "غير وارد"، ظل تصريح "شنطوب" يقلق المعارضة والدول الموقعة على "مونترو".

بيان العسكر الـ 103 المتقاعدين جاء متماهيا مع رفض المعارضة التركية مشروع شق قناة إسطنبول، وتخوفهم من احتمالات انسحاب تركيا من اتفاقية مونترو، وتسبب هذا في صراعات دولية.

قالوا إن "اتفاقية مونترو تمنع تركيا في حال نشوب أي حرب أن تكون مع أحد أطراف الحرب، ما وفر لتركيا حق الحياد في الحرب العالمية الثانية"، وأنه "يجب الابتعاد عن نقاش اتفاقية مونترو أو تناوله بشكل قطعي"، حسب زعمهم.

ويرى مراقبون أتراك أن بيان العسكر ليس محاولة انقلاب بقدر ما هو تخوف من أن يكون مشروع قناة إسطنبول مرتبط بالانسحاب من اتفاقية مونترو، وأن يكون "هدية أردوغان لأميركا".

يرجح الصحفي التركي محمد أونالمش أن يكون جانب من الأزمة مرتبطا بالتوجه اليساري للأميرالات الـ 103 الموقعين علي البيان الأخير، حيث يرى أنهم متخوفون، بحكم انتمائهم إلى "اليسار الأتاتوركي"، أن تؤدي قناة إسطنبول واحتمالات الانسحاب من "مونترو" للسماح بدخول حاملات الطائرات الأميركية البحر الأسود، ما يفيد الناتو، ويضر روسيا.

وفي كتابهم المفتوح اعتبر 103 أدميرالات متقاعدين أن فتح نقاش حول اتفاقية مونترو "يثير القلق"، واصفين إياها بأنها تشكل "أفضل حماية لمصالح تركيا".

قناة إسطنبول

"قناة إسطنبول" هي ثالث أهم 3 مشاريع عملاقة أعلن عنها الرئيس أردوغان عام 2011، وتهدف إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي للبلاد ليصل إلى تريليوني دولار بحلول الذكرى المئة لإعلان الجمهورية، في عام 2023.

تتضمن المشروعات مطار إسطنبول الجديد، الذي افتتحت المرحلة الأولى منه في أبريل/نيسان 2019، بعد نقل رحلات مطار أتاتورك إليه، والمشروع الثاني هو مد طريق بري بطول الغابات الواقعة على ساحل البحر الأسود، وصولا إلى المطار الجديد، بهدف جلب البضائع من أوروبا وآسيا.

أما المشروع الثالث والأكبر فهو "قناة إسطنبول"، وهي عبارة عن مجرى مائي مواز لمضيق البوسفور، على بعد 30 كيلومترا منه في اتجاه الغرب تربط البحر الأسود في الشمال ببحر مرمرة في الجنوب.

وحسب خبراء، فإن هذا المشروع سيغير من وجه النقل البري والبحري في تركيا، ويخفف من الضغط على قناة البوسفور في الشرق، التي تعتبر من أكثر الممرات المائية ازدحاما وتشهد كثافة ملاحية هي الأعلى على الصعيد العالمي.

في عام 2017 وحده، مرت من خلال مضيق البوسفور 53 ألف سفينة مدنية وعسكرية مقارنة بـ 17 ألف سفينة مرت عبر قناة السويس، و12 ألف سفينة مرت في قناة بنما.

وتقول الحكومة التركية إن مشروع القناة سيدر عليها 8 مليارات دولار سنويا، مقابل الرسوم التي ستدفعها السفن مقابل المرور عبرها، كون القناة لن تخضع لاتفاقية مونترو التي تنص على حرية الملاحة في مضايق البحر الأسود.

وستبدأ أعمال إنشاء قناة إسطنبول خلال العام الجاري، على أن تكتمل بين عامي 2025-2026، بسعة مرور يومية تصل إلى 185 سفينة.

الحكومة تؤكد أن القناة الجديدة ستخفف من العبء الملاحي عن مضيق البوسفور، وتقلل الانبعاثات والمخلفات التي تضر بالمناطق الأثرية والتراثية، لكن المعارضة ترى أن القناة ستعزل المنطقة الأثرية في إسطنبول وتحولها إلى جزيرة.

ويعارض عمدة (رئيس بلدية) إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، خطط حفر القناة، ووصفها بأنها "مشروع كارثي سيتسبب في مجزرة بيئية"، ويقود حملة إعلانية ضدها.