أول محكمة دستورية بتونس.. هل يُعيق تأسيسها صراع "الرئاسات الثلاثة"؟

آمنة سالمي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

على مدار سنوات، كان للتجاذبات والصراعات السياسية والمحاصصة الحزبية عميق الأثر في تأخير تأسيس أول محكمة دستورية في تاريخ تونس، إذ فشل البرلمان 8 مرات في استكمال انتخاب أعضاء المحكمة، لم ينتخب إلا عضوا واحدا من أصل 4.

ويبدو أن الوضع السياسي والبرلماني المتشنج اليوم في تونس ينذر بتواصل الفشل في استكمال انتخاب أعضاء المحكمة، بعد تأخير يقارب 6 سنوات عن الآجال الدستورية.

ما يزيد الوضع تعقيدا رفض الرئيس التونسي قيس سعيد مؤخرا المصادقة على "تعديلات" قد تسهل عملية انتخاب أعضاء المحكمة. 

وتصاعدت مؤخرا دعوات للتسريع في تأسيس المحكمة في ظل أزمة دستورية وسياسية تعيشها تونس منذ أشهر جراء خلاف بين قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي حول تعديل وزاري ما زال "معلقا". 

والمحكمة، هيئة قضائية جرى إقرارها بموجب دستور 2014، وتضم 12 عضوا، 4 منهم ينتخبهم البرلمان، و4 يختارهم المجلس الأعلى للقضاء (مؤسسة دستورية مستقلة)، و4 يعينهم رئيس الجمهورية.

وتراقب المحكمة مشاريع تعديل الدستور، والمعاهدات ومشاريع القوانين، والقوانين، والنظام الداخلي للبرلمان، وتبت في استمرار حالات الطوارئ، والنزاعات المتعلقة باختصاصي الرئاسة والحكومة.

خلط الأوراق

في 25 مارس/آذار 2021، لجأ البرلمان إلى تعديل قانون المحكمة الدستورية عبر خفض الأغلبية المطلوبة لانتخاب أعضائها من 145 صوتا إلى 131، على أن تعقد في 8 أبريل/نيسان 2021 جلسة عامة انتخابية لاستكمال انتخاب 3 أعضاء بالمحكمة.

إلا  أن الرئيس سعيد رفض ختم قانون المحكمة المعدل والمصادقة عليه ورده إلى البرلمان، من أجل إعادة التصويت عليه في قراءة ثانية. 

وليدخل القانون حيز التنفيذ يتطلب ذلك موافقة رئيس الدولة وإذا تعذر ذلك فإن الجلسة الانتخابية المقررة بالبرلمان ستعمل بنسخة القانون الأصلية قبل التعديل.

وعلل سعيد رفضه القانون، في بيان مكتوب توجه به إلى رئيس البرلمان راشد الغنوشي، بوجود خروقات دستورية، داعيا إلى احترام المقتضيات الدستورية دون تأويلات غير علمية وغير بريئة، وفق ما جاء في بيان للرئاسة 4 أبريل/نيسان 2021. 

وأهم "الخروقات الدستورية" التي أشار إليها سعيد في رفضه للقانون المعدل، أن الفصل 148 من دستور 2014 ينص على أن تأسيس المحكمة الدستورية يتم في غضون سنة كحد أقصى من إجراء أول انتخابات بعد إقرار الدستور (أول انتخابات تمت في 2014)، ما يعني أن أجل تأسيس المحكمة انتهى منذ 2015 بحسب تأويل سعيد. 

انتقادات لسعيد

وفور إعلان رفضه المصادقة على التعديلات، وجهت للرئيس قيس سعيد انتقادات حادة واتهامات بمحاولته تعطيل انتخاب أعضاء المحكمة.

وفي هذا الصدد، اعتبر "الحبيب خضر" المقرر العام للدستور والمدير السابق لديوان رئيس البرلمان راشد الغنوشي، أن "رد رئيس الجمهورية قيس سعيد القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية في صيغته المنقحة (المعدلة)، تضمن خطأ فادحا".

وأشار خضر، في منشور عبر "فيسبوك" إلى أنّ رد سعيد تضمن عبارة ''القانون الصادر في  2015، والحال أنه كان يتعين على رئيس الدولة أن يستعمل عبارة "المصادق عليه يوم 25 مارس/آذار 2021"

وأضاف خضر قائلا: ''هل هذا معقول؟ إن كان خطأ فهو خطأ فادح وإن كان قصدا فهو دلالة جهل بالدستور والقانون. ننتظر لنرى أخطأ أم قصدا".

كما لقي موقف سعيد انتقادات واسعة من عدد من نواب البرلمان التونسي الذين اتهموه بمحاولة تعطيل عملية استكمال انتخاب أعضاء المحكمة ليواصل احتكار مهمة تأويل الدستور، حسب تقديرهم.

فيما فسر مراقبون آخرون موقف سعيد بأنه رد فعل سياسي إزاء "محاولة الحزام السياسي للحكومة (أحزاب: النهضة، قلب تونس وائتلاف الكرامة) التسريع بتأسيس المحكمة من أجل عزله (سعيد) بسبب الخلاف معه حول التعديل الوزاري الأخير"، الأمر الذي نفاه ممثلو هذه الأحزاب.

وإلى جانب مهمة مراقبة مدى مطابقة القوانين للدستور، تختص المحكمة الدستورية، بالنظر في "إعفاء رئيس الدولة في حالة الخرق الجسيم للدستور وتصدر قرارا يقضي بعزله في صورة ثبوت إدانته بخرق الدستور"، بحسب المادة 68 من قانون المحكمة.

وتشمل مهام المحكمة 13 اختصاصا، أبرزها مراقبة دستورية القوانين والمعاهدات الدولية، وإقرار الشغور النهائي أو المؤقت لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي 5 أبريل/نيسان 2021، أصدرت كتلة حركة النهضة بالبرلمان بيانا، أكدت فيه ضرورة استكمال عملية انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، المتعثرة جراء خلافات سياسية، مضيفة أن ذلك سيتم خلال "الجلسة العامة المقررة بالبرلمان في 8 أبريل/نيسان 2021".

ودعت كتلة النهضة إلى "بذل الجهد الأوسع في تحقيق التوافق مع بقية الكتل السياسية داخل البرلمان".

خلاف قانوني سياسي

وفي هذا السياق، قال أستاذ القانون الدولي بالجامعة التونسية هيكل بن محفوظ، إن "مسألة المحكمة الدستورية تتضمن نقطتين خلافيتين، الأولى خلاف قانوني دستوري والثانية خلاف سياسي، فمن الناحية القانونية الدستورية هناك محاولة من البرلمان لتجاوز الصعوبة في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بعد عدة محاولات فاشلة وتجاوز الأجل القانوني لتأسيس المحكمة.

وأوضح ابن محفوظ، لـ"الاستقلال"، أن "الدستور التونسي المصادق عليه في 2014 وضع أجل سنة لتأسيس المحكمة الدستورية لكن تم تجاوزه، أي كان من المفترض تأسيسها عام 2015".

وأضاف أن "الإشكالية في تعطل تأسيسها ليست حسابية أو رقمية تتعلق بالنصاب القانوني المطلوب لانتخاب أعضاء المحكمة بل تتمثل في أن الأغلبية السياسية غير متوفرة في مجلس نواب الشعب أو ما تعبر عنه الأحزاب بالتوافق حول المرشحين".

أما البعد السياسي، فيرى ابن محفوظ أنه "يتمثل في شكل المحكمة الدستورية التي يجب إحداثها، وما إذا كانت ستمثل قضاء دستوريا فاعلا ناجزا مستقلا يضمن احترام الدستور وتتكون من قضاة تتوفر فيهم الكفاءة والاستقلالية والمهنية والحياد من بين المختصين في القانون الدستوري، أم تركيبة لا تعكس هذه المتطلبات وتقوم على توافقات الأحزاب وتخفيض شروط انتخاب أعضائها".

وشدد على أن "الأصل أن يتم انتخاب أفضل ما هو موجود في تونس من كفاءات نسائية ورجالية في مجال القانوني الدستوري لهذه المحكمة".

وأشار ابن محفوظ إلى أنه "عند فتح باب الترشحات لعضوية المحكمة للمرة الأولى تم إسقاط عديد من المرشحين من الكفاءات من قبل اللجنة الانتخابية البرلمانية"، مؤكدا وجود "إشكالية تحوم حول مسألة الكفاءة والاستقلالية وهذا هو العنصر الذي يجب السعي لتحقيقه".

ويعتبر أستاذ القانون الدولي أن "تأخر انتخاب المحكمة أصبح يشكل حرجا كبيرا للمنظومة الدستورية والسياسية الحالية القائمة في تونس، حيث من المفترض أن تكون (المحكمة) هي الضمانة والركن الأساسي للمنظومة السياسية".

وتابع قائلا ''هذا الأمر ينسف مقومات دولة القانون ومبادئ الديمقراطية عندما تعلو الاعتبارات الضيقة للأحزاب على ضمان الحقوق والحريات واحترام تطبيق الدستور وجعل المؤسسات الدستورية ناجعة وفاعلة وبعيدة عن الحسابات السياسية والحزبية الضيقة".

ولفت في ذات السياق، إلى أن "انتخاب البرلمان لأربعة أعضاء بالمحكمة ليس إلا مرحلة في حلقة متكاملة، لأن هناك إشكالية أخرى في انتخاب 4 أعضاء آخرين من قبل المجلس الأعلى للقضاء الذي يتكون من ثلاثة مجالس فرعية (مجلس قضاء عدلي/إداري/ ومالي)".

وبين أن "نفس الحسابات والتوازنات التي عطلت العملية الانتخابية على مستوى البرلمان، قد تعطلها على مستوى مجلس القضاء، ثم يأتي دور تعيين رئيس الجمهورية لـ4 أعضاء".

الأغلبية المتجانسة

من جانبها، عبرت أستاذة القانون الدستوري بالجامعة التونسية منى كريم، عن مخاوفها من أن "لا يتم الحصول على الأغلبية المطلوبة لاستكمال انتخاب أعضاء المحكمة، باعتبار عدم وجود أغلبية واضحة ومتجانسة بالبرلمان، ويا حبذا إن تم التوصل إلى جمع هذه الأغلبية".

وأضافت كريم، لـ"الاستقلال"، أن "الأهم من مسألة توفر الأغلبية هو التركيز على الكفاءات وأن تكون عملية الاختيار قائمة على الكفاءة لأن القاضي الدستوري من أنبل المهام كونه الضامن لاحترام الدستور ومساهما في بناء دولة القانون، وهذا يتطلب علما ودراية كبيرة بالقانون العام والقانون الدستوري لذلك يجب أن يتم اختيار أشخاص لهم كفاءة كبيرة في هذا الميدان".

وقالت أستاذة القانون الدستوري إن "الأزمات التي مرت بها تونس ساهمت في إدراك التونسيين لأهمية المحكمة الدستورية فهي ضرورة قصوى اليوم، لن تحل جميع المشاكل لكن مررنا بعديد من الأزمات السياسية لو كانت المحكمة موجودة لما تعمقت تلك الأزمات".

وفي تعليقها على "ادعاءات" أطلقها مراقبون تقول إن "دعوات بعض الأحزاب للتسريع بتأسيس المحكمة تهدف إلى عزل الرئيس قيس سعيد بسبب خلافاتها معه".

وأكدت منى كريم أن "الرغبة في التسريع بتأسيس المحكمة بنية عزل رئيس الجمهورية لا تعني أنه سيتم النجاح في ذلك بعد إحداثها".

وأوضحت أن "الأحزاب يمكنها فقط إثارة المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية ويمكنها التقدم بلائحة لدى المحكمة لإعفائه، لكن قرار العزل لا يصدر إلا عن المحكمة الدستورية التي تدرس اللائحة وتقدر إن كان الرئيس قد ارتكب خرقا جسيما للدستور أم لا".

وتابعت قائلة إن "النظر في العزل هو اختصاص من بين اختصاصات عديدة للمحكمة الدستورية، وإذا كان هذا هو الهدف الوحيد من تأسيسها فيا خيبة المسعى لأن مهام المحكمة أكبر من عملية عزل رئيس الدولة فقط".