آخر الشهادات.. كيف جرت الإبادة الجماعية بحق التوتسيين في رواندا؟

12

طباعة

مشاركة

تناول كتاب جديد بعنوان "حيث كل شيء صامت"، قضية الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي تعرضت لحالة إغفال وإهمال حتى يومنا هذا. 

مجازر الإبادة الجماعية نفذتها قبائل الهوتو بحق التوتسيين في رواندا، وراح ضحيتها قرابة 800 ألف شخص، خلال نحو 100 يوم فقط. 

والتوتسي أحد ثلاث شعوب تعيش في منطقة البحيرات العظمى الإفريقية وخصوصا في رواندا وبوروندي، أما الشعبان الآخران فهما الهوتو والتوا.

وتنظم الأمم المتحدة سنويا في السابع من أبريل/ نيسان، فعالية لإحياء ذكرى ضحايا المجازر التي بدأت بتاريخ 6 أبريل/نيسان عام 1994، على مرأى من أنظار العالم أجمع.

ويواصل الروانديون إلى اليوم مساعي ملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن تلك المجازر، كما يحملون جزءا من المسؤولية لبلجيكا التي أشعلت فتيل التفرقة العرقية بين القبائل خلال استعمارها البلاد، والأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا لتقاعسها عن الوقوف في وجه الإبادة. 

وفي 6 أبريل/نيسان 1994، وإثر سقوط طائرة الرئيس الرواندي آنذاك "جوفينال هابياريمانا" والذي ينتمي للهوتو، بدأت عمليات الإبادة بحق جماعة التوتسي، بعد مضي أقل من ساعة على حادثة سقوط الطائرة.

ولعبت إذاعة "RTLM" الهوتية دورا كبيرا في نشر الكراهية وتأجيج عمليات الإبادة، من خلال وصفها التوتسيين "بالصراصير"، ودعواتها للتخلص منهم وقتلهم. 

انسحاب قوات الأمم المتحدة من البلاد خلال المجازر، واستمرار فرنسا في تقديم الأسلحة للهوتو، أدى إلى نقل عملية الإبادة إلى أبعاد يصعب تصديقها.

وتحدثت مجلة جون أفريك الفرنسية في 12 مارس/ آذار عن جان هاتزفيلد الذي جمع عن منطقة نياماتا في كتابه الجديد، شهادات عن الهوتو الذين خاطروا بحياتهم في سبيل مساعدة التوتسي إبان الإبادة الجماعية.

وروى مؤلف الكتاب بدقة ما حاول أن يتذكره في نياماتا، رواندا: ذلك الصمت الذي أعقب الإبادة الجماعية للتوتسي ولا يزال متواصلا حتى يومنا هذا. يتحدث الكاتب عن الصمت، بالقول إنه معنى آخر هنا للإغفال والإهمال. 

بصيغة أكثر واقعية، فإن كتاب "حيث كل شيء صامت" يتحدث عن الأبرار الذين يعيشون في مدينة بوغيسيرا، هؤلاء الهوتو الذين خاطروا بحياتهم وساعدوا بكل تواضع، التوتسي الذين طاردهم غضب القتلة المتعطشين للدماء.

آخر الشهود 

عاش جان هاتزفيلد، وهو صاحب العديد من الكتب التي تتحدث عن الإبادة الجماعية ، جزءا من طفولته في شامبون سور لينيون، وهي قرية فرنسية شهيرة تمكن فيها حوالي 3500 يهودي من الاختباء خلال الحرب العالمية الثانية. 

رغم ذلك يقول هاتزفيلد، وهو أيضا صحفي سابق، غاضبا في مؤلفه هذا "أنت لا تعرف حقا ما هي التأثيرات التي كانت لطفولتك على اختياراتك". 

وأضاف بأنه " دائما ما كان الأبرار يكافحون ليجدوا مكانا لهم عبر التاريخ. وفي أوروبا، لم يهتم المؤرخون بهم إلا بعد حوالي 20 عاما من الحرب". 

في حالة رواندا التي عمل فيها لأكثر من عشرين سنة، كان هو نفسه بطيئا في البحث عن التغييرات والمنعرجات في تاريخ ذلك البلد. 

يفسر ذلك بقوله إن "السبب هو قلة الانتباه من جهتي، حيث كنت مهتما بالناجين في المستنقعات، ثم تركز اهتمامي على السفاحين، وفي النهاية مات كثير من الأبرار ولم يكن هناك من يتكلم نيابة عنهم". 

ويقول في ذات السياق إن "الناس يتحدثون عن أنفسهم في جميع كتبي، لكن هذه المرة، كان علي أن أجد طريقة أخرى لجعل الناس يتحدثون".

 توجه جان هاتزفيلد نحو رواندا مقتنعا كالعادة، بأن الوقت قد حان للتصرف قبل اندثار أو طمس آخر الشهود، وعاش هناك مطولا وقد أعد أسئلته قبل الذهاب إلى نياماتا في ثلاث مناسبات (مرتان منفصلتان في 2018 ومرة ثالثة في 2019). 

الصمت والتهديدات

يقول هاتزفيلد "علمت بوجود الأخيار/الأبرار وقد أثر ذلك علي، لكنني كنت متوترا بعض الشيء ومذهولا بموقف التوتسي تجاههم، وافتقارهم إلى الاعتراف بهم". 

لا يوجد في مدينة بوغيسيرا، سوى شخص واحد معترف به رسميا على أنه شخص خير يطلق عليه اسم "حارس الجوقة" على المستوى الوطني، وهو سيلاس نتامبفورايشياري.  

ويضيف الكاتب في ذات السياق أنه "منذ منح  ذلك التشريف النادر - لدى الدولة فقط 34 من حراس الجوقة- أدلى سيلاس بشهادته عديد المرات خلال الاحتفالات أو بدعوة من الجمعيات الناشطة بشدة التي حشدها مشروع المصالحة". 

يقول الكاتب أيضا في سياق حديثه عن سيلاس أنه كان "مدركا تماما لفرادة شخصيته في خضم فوضى تلك المجازر، كان يخشى الإزعاج لأنه واجه لعدة سنوات إهانات دفينة، ودائما ما حاول تجنب تلك التهديدات التي يتعرض لها في  شوارع ريليما، وكذلك الحال مع تلك النظرات السيئة التي لا تنتهي عندما كان يمشي وحيدا".

يمكن ربط أحد تفسيرات الصمت حول الأخيار بعددهم المنخفض. لم تترك فجائية ووحشية اندلاع العنف من الوقت سوى القليل للتفكير في التنظم.  

لعب البعد الريفي للإبادة الجماعية دورا أيضا، فمن الأسهل إخفاء الأشخاص عندما تكون في مدينة كبيرة.

يوضح جان هاتزفيلد بأنه "في الواقع، هناك أكثر بكثير من 34" شخصا طيبا.  ولكن على عكس "ياد فاشيم"، فإن الدولة الرواندية تأخذ فقط في الحسبان فترة الإبادة الجماعية.   

كما أن الدولة تدرس ما يهمها وتشارك المعنيين في سياسة المصالحة الوطنية، بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يمكن في رواندا التعرف على شخص ما بعد وفاته.

الحب والصداقة 

في المكان الذي يصمت فيه كل شيء، يستحضر الصحفي مصير عشرات من الناس الأبرار: وهم إيزيدور، وفرانسوا، وترشيانس، وفاليري، وإديث ويوستاش، ومارسين ومارسيل، وسيلاس وبروفيدنس، وجوزيف. 

هؤلاء لا يزالون على قيد الحياة، ومنهم من يجمع شهادات أولئك الذين يتحدثون نيابة عنهم.

بهذه اللغة الرائعة التي يعرف جيدا كيف يستعيدها، "حيث تصبح كل التجريدات عبارة عن شخصيات"  يفتح جان هاتزفيلد أبواب الذاكرة، ويعطي معنى لقصص الحب والصداقة، ويسرد الرواية التي تشارف على الاندثار. 

إنها رواية مأساوية إلى أبعد الحدود وجميلة بشكل رهيب، وفيها تتركز الإنسانية في أفضل حالاتها وأسوأها. 

علاوة ذلك، فإنه وراء الصور الحية التي تظهر من هذه الشهادات المتقاطعة، يستكشف المؤلف الصمت وصداه المؤلم.

يشرح البروفيسور إنوسنت رويليزا ما حدث لبعض التوتسي بقوله إنه "قبل كل شيء، نحن نرفض أن نأخذ مكان الموتى، الذين وحدهم يمكنهم تقديم شهادتهم عن الهوتو". 

وأضاف في ذات السياق أنك "ستلاحظ صعوبة وصف هؤلاء الناس الخيرين، وحدهم الموتى يعرفون ذلك في حال إذا قاموا من الموت، فقد يوجهون أصابع الاتهام إلى هؤلاء الطيبين، لأنهم رأوا أكثر مما رأينا. ألا نشعر نحن بالريبة تجاه الجميع؟".

"حفر يوستاش"

في الجزء الثاني من الكتاب بعنوان "حفر يوستاش"، يجمع هاتزفيلد شهادات مختلفة حول تلك "الحفر" التي يقول إنها تهدد نياماتا. 

الحفريات العديدة خاصة، حيث تم رمي جثث التوتسي والتي أصبحت فيما بعد موضوع مفاوضات مكثفة، خاصة أثناء محاكمات غاكاكا، رفض القتلة أحيانا تحديد مكانها.

هذه الحفر، سواء احتوت جثث القتلى أم لا، ما فتئت تكون تذكيرا يوميا برعب 1994. كما أنها تفسر صمت بعض الأخيار، شأن يوستاش وزوجته إديث. 

ويوضح هاتزفيلد ذلك بقوله إن "إيديث، التي أعرفها منذ 1998، لم ترغب أبدا في التحدث معي بسبب تلك الحفرة خلف منزلها". 

وأضاف أن تلك العائلة "وافقت على العيش لمدة سبعة أسابيع على بعد مترين من حفرة ألقيت فيها الجثث، عندما تضع ذلك في الحسبان، ليس عليها حرج إذا أرادت ألا تتحدث".

الآن تستطيع إديث أخيرا أن تتحدث عن ذلك بقولها: "كنا ستة أو سبعة في كل غرفة، كان الأطفال يتلعثمون فيما بينهم، لم يمتلكوا حماس الطفولة".

كنا نحن، أربع نساء من التوتسي ورجل من الهوتو، على غرار أطفال غراتيا وأطفالنا، وجار صغير فر هاربا من أجل البقاء حيا. لقد سمع الأطفال أصوات صراخ قادمة من الحفرة، نعم ، لقد سمعوا صراخ القتلة عندما قاموا برميهم، وفق قولها.