ترهونة.. القصة الكاملة لمدينة تعيش بين ماض مروع ومستقبل مجهول

12

طباعة

مشاركة

أكدت صحيفة دولية تعنى بالشأن الحقوقي، أن الماضي المؤلم وجرائم القتل والاختطاف والتعذيب التي شهدتها مدينة ترهونة جنوب شرق العاصمة طرابلس، يمثل "عائقا وتحديا حقيقيا" أمام عودة الأهالي وإرساء السلام في ليبيا.

وأوضح تقرير صحيفة "The New Humanitrian" أن "وضاح الكيش البالغ من العمر 31 عاما معتاد على التعامل مع الجثث، من المقاتلين والمدنيين الذين تم التخلي عنهم على الخطوط الأمامية للقتال في ليبيا".

وأضاف أن "الكيش، وهو أحد أعضاء فريق الطب الشرعي الحكومي المكون من 30 عضوا، الذين كانوا يمشطون حقول ترهونة والسجون التي تم إفراغها يتذكر تلك اللحظات بالقول: شعرت بالخوف منذ أول جسد لمسته.. الجسد كان متحللا لدرجة أنك إذا لم تحمله بحذر ، فسوف ينكسر".

وقالت الصحيفة: "لم تكن هشاشة البقايا البشرية التي تُركت أو دُفنت لفترة أطول مما اعتاد عليه، هي التي أذهلت الكيش، بل الفراغ المخيف الذي كان يلف المدينة".

مدينة الأشباح

خلال عامي 2019 و2020، أصبحت ترهونة قاعدة إستراتيجية للقوات الشرقية الموالية للانقلابي خليفة حفتر، أثناء محاولتها السيطرة على العاصمة طرابلس من حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا.

وعندما وصل "الكيش" في يونيو/حزيران 2020، كانت الاشتباكات قد تلاشت، وفر حوالي 16 ألف شخص من ترهونة -على بعد 60 كيلومترا جنوب العاصمة- والمناطق المحيطة بها.

وفي هذا السياق، قال الكيش: "لقد كانت مدينة أشباح.. كان الناس يخافون العودة".

ولسنوات، حٌكمت ترهونة من قبل مليشيا معروفة باسم "الكانيات" التي يعتقد أنها وراء سلسلة من الجرائم الفظيعة، بما في ذلك التعذيب والقتل والاختفاء القسري، ومن بين المليشيات العديدة المتورطة في الحرب الأهلية الليبية، تتميز "الكانيات" بأنها عملت لصالح طرفي الصراع.

وبقيادة محمد الكاني وإخوته، دعمت هذه المليشيات حكومة الوفاق الوطني بشكل غامض قبل التحول في 2018 والتراجع شرقا للعمل مع حفتر في يونيو/حزيران الماضي، وفق الصحيفة.

ومنذ ذلك الحين، يحاول الكيش وفريقه التعرف على القتلى والتعامل مع ما حدث في غرف التعذيب السرية بترهونة، فيما يحاول آخرون البحث عن الأقارب، بعد أن فُقد ما لا يقل عن 350 شخصا من ترهونة منذ عام 2014.

ويتساءل الكثير من أهالي ترهونة الذين لجأ معظمهم إلى شرق ليبيا، عما إذا كان سيتمكنون من العودة.

وبالنسبة لإلهام السعودي، المؤسس المشارك ومدير منظمة "محامون من أجل العدالة في ليبيا"، فإن "ترهونة ترمز لسنوات من الصراع المؤلم في البلاد، بعد أن تدخلت القوى الأجنبية وفعلت ما يحلو لها، فيما ظلت المليشيات الخارجة عن القانون دون عقاب على جرائمها، ليبق المدنيون الحلقة الأضعف بما أنهم المجبرون في النهاية على دفع الثمن".

وقالت السعودي: "ترهونة تجسد حقيقة مروعة حول الصراع في ليبيا وثقافة الإفلات من العقاب.. واقع ترتكب فيه الجماعات المسلحة انتهاكات ثم تغادر المشهد، ثم يُجبر الضحايا أيضا على الفرار، ويتم الضغط عليهم لقبول الحقيقة المؤلمة".

وفيما التزمت الفصائل المتحاربة في ليبيا، نوعا ما، بوقف إطلاق النار الموقع أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2020، وبعملية أشرفت عليها الأمم المتحدة لانتخاب حكومة مؤقتة في وقت سابق من هذا الشهر، الا أن الكثيرين يشككون في جدوى هذه الحكومة، التي من المفترض أن تمهد الطريق لانتخابات ديسمبر/كانون الأول المقبل.

وتظل الأسئلة الرئيسة، مثل من سيدير "​​القوات المسلحة الليبية الموحدة"، وكذلك الدعوات إلى العدالة والمصالحة.

جرائم بلا محاسبة

في ترهونة، تستمر المظالم التي تسبب فيها الصراع  في ليبيا منذ الإطاحة بالراحل معمر القذافي قبل 10 سنوات، في التراكم، "ما يجعلها مهيئة لتتحول إلى أعمال عنف مرة أخرى"، وفق الصحيفة الحقوقية.

وقال الكيش، الذي اطلع على النتائج المروعة لما حدث في ترهونة، "يطالب الناس بتحقيق قضائي، يريدون أن يعرفوا من المسؤول عن هذه الجرائم.. إنهم يطلبون العدالة".

وبالنسبة للسعودي، "قبل أن تبدأ أماكن مثل ترهونة، وليبيا ككل، في المضي قدما، يجب محاسبة المذنبين على جرائمهم، وهو أمر لم يحدث على الإطلاق حتى الآن".

وقالت: "هناك ضغط مستمر لمطالبة الضحايا بالمسامحة والقبول والتعافي وأن يكونوا شجعانا وأن يتخذوا الخطوات اللازمة للمصالحة في البلاد.. ولكن ليس هناك نفس القدر من الضغط على الجناة لمحاسبتهم".

وحتى منتصف فبراير/شباط الجاري، تم العثور على 139 جثة في 27 موقعا بترهونة، وفقا لما ذكره رئيس الهيئة الليبية للبحث والتعرف على المفقودين، كمال أبو بكر.

لكن الأرقام لا تروي القصة الكاملة لما حدث في البلدة وما حولها، حيث تُتهم جماعة "الكاني" بمعاملة قاسية لمن عارضوا حكمهم أو خالفوهم بطريقة أخرى، "لقد دفنوا الناس أحياء، وتم القضاء على عائلات بأكملها"، كما يتذكر طارق إبراهيم محمد ضو العامري، وهو أب لأربعة أطفال يبلغ من العمر 48 عاما.

وقال العامري: إنه "احتجز لأكثر من 7 أشهر في زنزانة صغيرة في سجن الداعم -أحد المواقع العديدة التي احتجزت فيها المليشيا الناس وعذبتهم-".

واليوم، تنتشر الملابس والجوارب والصور المهجورة على أرض السجن أمام لوحة جدارية مشوهة لمحسن الكاني، وهو أحد الإخوة الآخرين، والذي يشار إليه بسخرية بـ"وزير الدفاع".

وفي سياق متصل، أشار تقرير الصحيفة الحقوقية، إلى أن "هيئة البحث عن المفقودين والتعرف عليهم تأسست عام 2011، لتحديد الرفات البشرية من الصراع الذي أسقط القذافي وللتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان خلال حكمه الذي دام 42 عاما".

فظائع "الكاني"

ويؤكد رئيس الهيئة أبو بكر على أن عملهم محايد، حيث أرسلوا فريق الطب الشرعي التابع للكيش إلى ترهونة أوائل يونيو/حزيران لمعاينة المقابر الجماعية المكتشفة مؤخرا.

وعمل فريق الطب الشرعي بلا توقف منذ ذلك الحين، حيث تم العثور على جثث مكدسة داخل مشرحة مستشفى محلي، وأخرى تُركت في السجون، فيما دُفنت أخرى في حقل بني محمر "الذي لم يتم حفره بالكامل بعد".

ويعتقد سجناء سابقون مثل العامري أنهم سُجنوا بسبب الولاءات التي تعود إلى عام 2011 على الأقل.

وحمل العامري السلاح ضد القذافي كجزء من مجموعة وجدت نفسها في النهاية متحالفة مع حكومة الوفاق الوطني، وعندما انضم "الأخوان الكاني" إلى حفتر، أصبح العامري  وشقيقيه هدفا لهذه المليشيا.

ومن وقت لآخر، كانت هذه المليشيا تأخذ الرجال من زنازينهم وتطلق عليهم الرصاص، ويتذكر العامري الفترة التي قضاها في السجن حيث يقول "لقد كنا نسمع أصوات إطلاق النار".

كما تم احتجاز المهاجرين (يبلغ عددهم حوالي 600 ألف في ليبيا) أيضا في سجن الداعم، وأجبرتهم المليشيا على تنفيذ مهام يعتقدون أنه لا يمكن إجبار الليبيين على القيام بها، وفقا للعامري ومصادر أخرى.

وفي هذا السياق، قال فرج أصغر، وهو من سكان ترهونة وعضو في جمعية أسر المفقودين التي تم إنشاؤها مؤخرا، أن أحد أعضاء مليشيا "الكانيات" قد اعترف بأن بعض المهاجرين المحتجزين في السجن استُخدموا لدفن الجثث.

وقال أصغر: "سمحوا لهم بالخروج لمدة نصف ساعة، وهو وقت كاف للقيام بالعمل القذر  ثم أعادوهم.. لقد استغلوا المهاجرين لدفن الجثث، أو تحميل الذخيرة، والكثير من المهام القذرة الأخرى".

وأكد العديد من سكان ترهونة، بالإضافة إلى العامري، أن أفراد عائلاتهم استُهدفوا بسبب "مواقف وأفكار سياسية تعود إلى سنوات ماضية، أو لأنهم تحدثوا ضد المليشيات، أو لأن لديهم أموالا أو ممتلكات".

من جانبه، شدد المواطن عبد العظيم جبلة على أن 10 من أقاربه الذكور إما قتلوا أو فُقدوا، موضحا أنهم "استُهدفوا لأنهم عارضوا المليشيات، أو لأن أسرهم دعمت ثورة 2011، لقد كانوا يقتلون الناس ثم يصادرون أموالهم وممتلكاتهم".

وختمت الحقوقية السعودي، تصريحاتها بالقول: إن "المضي قدما وتجاهل الماضي، كما يبدو أن الحكومة المؤقتة تفعل الآن، أمر خطير وليس جيدا بما يكفي لبلد يعاني من الصراع بين الحين والآخر منذ عقد من الزمان".