في 17 فبراير/شباط، تحل الذكرى العاشرة لثورة في ليبيا، وسط ترقب مختلف دول العام أولى خطوات الشعب نحو الاستقرار وبناء دولته المدنية الديمقراطية الموحدة، بعد عقد كامل من الصراعات والاقتتال الأهلي المدفوع من قوى خارجية.
لكن تطور كبير ظهر على الساحة الليبية، ففي 5 فبراير/شباط 2021، انتخب أعضاء ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف، برعاية الأمم المتحدة، رؤساء السلطة المؤقتة لإدارة شؤون البلاد حتى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وتضم القائمة المنتخبة محمد المنفي رئيسا للمجلس الرئاسي، بجانب موسى الكوني وعبد الله حسين اللافي، عضوين في المجلس، وعبد الحميد دبيبة رئيسا لمجلس الوزراء.
ومنذ سنوات، يعاني البلد الغني بالنفط صراعا مسلحا، حيث تنازع مليشيا اللواء الانقلابي خليفة حفتر، الحكومة الليبية، المعترف بها دوليا، على الشرعية والسلطة، ما أسقط قتلى وجرحى مدنيين، بجانب دمار مادي هائل.
بيد أن نتائج الاجتماعات الأخيرة هي إحدى أهم ثمار ثورة فبراير/شباط 2011، وفق ما قال الدبلوماسي الليبي وأول سفير للثورة بدولة الكويت، محمد سالم عميش في حواره مع "الاستقلال".
تحل الذكرى العاشرة للثورة، وما زالت ليبيا تتلمس طريقها نحو الحرية وبناء دولة القانون والمؤسسات، رغم المكائد والمؤمرات من دول محور الشر (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر) التي تريد وأد حلم الشعوب في الحرية والانعتاق.
ولا شك أن مستقبل ليبيا بإذن الله يمضي نحو الاستقرار، وهو وإن كان استقرارا جزئيا فإن عزيمة الشعب الليبي ماضية بقوة ومتطلعة للوصول إلى الاستقرار الحقيقي، مهما كانت الصعاب والتحديات.
في الحقيقة بدأت إرهاصات الثورة في 15 فبراير/شباط، عندما قامت حملة مدججة بالسلاح من قوات الأمن بمدينة بنغازي باعتقال محامي أسر شهداء مذبحة سجن "أبو سليم" (ارتكبها نظام القذافي في 29 يونيو 1996)، تحسبا وتحوطا لأية مظاهرات قد تخرج يوم 17 من الشهر ذاته، ووأد الحراك في مهده.
إلا أن قدر الله كان نافذا، لتتحقق مخاوف نظام القذافي المستبد، الذي أشعل لهيب الغضب الشعبي بسبب أفعاله الاستباقية التي ظن أنها سترهب المواطنين الليبيين، وأنها ستحميه من هبة الشعب.
وكلمة نسجلها للتاريخ أن يوم 17 فبراير/شباط، ارتبط في ذهن الشعب الليبي بذكرى خروج مظاهرات شعبية ضخمة؛ لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مدينة بنغازي، في 2006، ضد الرسوم المسيئة للنبي.
كانت وجهة المتظاهرين حينها نحو مقر القنصلية الإيطالية، ردا على ما قام به أحد نواب البرلمان الإيطالي في حينها؛ بارتداء قميص يحمل صور مسيئة للنبي محمد.
حاول المتظاهرون اقتحام القنصلية وحرقها آنذاك، ما دفع قوات الأمن الليبية بالتصدي لهم بالرصاص الحي، وأسقط على إثرها 6 قتلى، وعدد كبير من الجرحى وتكتم النظام على الواقعة.
وبقيت تلك الواقعة منذ ذلك الوقت جمرا تحت الرماد ينتظر شرارة الاشتعال، التي جاءت بالفعل في 17 فبراير/شباط، وكان ذلك في أعقاب اندلاع ثورتي الشعبين التونسي والمصري ضمن أحداث الربيع العربي.
ثار الشعب الليبي على القمع والظلم أيضا انتقاما من القذافي الذي طالما أهان السنة وتجرأ على رسول الله بصور مختلفة وطعن في سنته الشريفة.
لا شك أن الثورة الليبية نجحت في إسقاط القذافي عبر توحد الثوار على هذا الهدف، فلم يفرقهم آنذاك أو يهمهم تسمية الشخص الذي كان على رأس المجلس الانتقالي للثورة.
في حين وقعت بعض ثورات الربيع العربي الأخرى في فخ الخلافات وتفرقت بهم السبل، وتنازعوا على تسمية من يرأس الحراك الثوري فتشتت شملهم وضاعت جهودهم.
لو لم تنجح الثورة لكُنّا لا نزال قابعين تحت حكم المستبد القذافي أو أحد أبنائه، حيث لا أمل ولا تطلع نحو الحرية، وكان الشعب الليبي سيظل في نير الاضطهاد والظلم، وستستمر قيادته بالحديد والنار وفق أهواء وتُرهات القذافي وأبنائه وعصابته.
اجتماعات جنيف جاءت عندما لم يستطع الليبيون حل مشاكلهم لوحدهم؛ وبسبب التدخلات الخارجية وارتهان خيارات الكثيرين منهم لصالح جهات أجنبية، فجاءت المحادثات الحالية تتويجا لحل الخلافات، والمُضي قُدما نحو إعادة الاستقرار إذا صح الكلام عن الثمار.
ويكفي هذه المحادثات أنها جمعت كوكبة من أبناء الشعب الليبي من مختلف الأقاليم، من أجل السعي للنهوض بالدولة الليبية، وإغلاق ملف هذا الاحتراب، ورفض عسكرة الدولة بصورة نهائية، ودعم المشروع المدني والتداول السلمي على السلطة بين جميع الليبيين.
الشعب الليبي بكل فئاته وأطيافه ملّ من الحرب والاقتتال، والأصل أن الحكومة القادمة هي حكومة وحدة وطنية تضم الجميع، وتم اختيارها بوجود ممثلين عن أغلب الاتجاهات والقوى.
كما أن أهالي المنطقة الشرقية الواقعة تحت سيطرة حفتر خسروا الكثير من أبنائهم في حروب خاسرة؛ لذلك على الجميع التعاون معا للخروج من هذا النفق المظلم، والسعي بجدية نحو الأمل ببناء دولة تسع الجميع وتمثلهم.
القائمة الفائزة في لقاءات جنيف بتشكيل الحكومة الانتقالية والمجلس الرئاسي الجديد ليست مدعومة من تركيا وقطر كما يروج البعض.
بل إن القائمة الفائزة تضم مجموعة ليس لها عداوات مسبقة مع الجميع، لذلك شاهدنا الترحيب من الجميع بها، ونأمل أن يستمر وأن يتحول إلى دعم إيجابي لبرنامج هذه الحكومة والمجلس الرئاسي من أجل تحقيق الصالح الوطني للشعب الليبي في الأقاليم الثلاثة.
كما هو معلوم فإن فرنسا كانت وما زالت داعمة للجنرال حفتر ومشروعه الانقلابي، فضلا عن أن "عقيلة صالح" ما هو إلا واجهة أخرى لـ"حفتر" نوعا ما؛ ولكن لن تستطيع باريس الاستمرار في دعم مشروع فاشل سيجعلها تخسر مصالحها في ليبيا بالمستقبل.
هذا ليس جديدا على الرئيس الفرنسي، الذي يعد مراهقا سياسيا، وقد تعودنا منه على إطلاق دعوات مستفزة حيال أي شيء تركي مما تجعله يظهر بمظهر المراهق الأحمق.
القوات التركية جاءت تلبية لنداء حكومة شرعية معترف بها دوليا تحت غطاء اتفاقية أمنية واقتصادية.
وكان الأولى بماكرون دعوة روسيا والإمارات وغيرهما لسحب المرتزقة الذين أتوا بهم ويمولون وجودهم وتسليحهم بمئات الملايين من الدولارات، دعما للمشروع الانقلابي الفاشل لحفتر المتعطش للسلطة.
ليبيا لم تكن مستعمرة فرنسية مطلقا، وإنما كانت فرنسا تحتل الجزء الجنوبي من البلاد لفترة محدودة من الزمن في أعقاب الحرب العالمية (الثانية)، الأمر الذي أسال لعاب ماكرون وحرك أطماع باريس نحو العودة كقوة استعمارية مجددا، وإن كانت عينها هذه المرة على أجزاء أخرى من ليبيا فيما يبدو.
ليس هناك أية ضمانات لأية انتخابات في ليبيا، فالساحة مفتوحة للجميع للتنافس، وإن كانت الخشية تكمن باستخدام المال الفاسد في إيصال شخصيات فاسدة إلى سدة الحكم.
ولكننا كقوى داعمة لثورات الربيع العربي نعول على وعي الناس، وعلى مؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب من أجل العمل بجد ونشاط لمنع حدوث مثل هذا الأمر.
لا يخفى على المتابع للشأن الليبي أن معضلة انتشار المرتزقة، وإخراجهم من البلاد، نوقشت في جلسة من جلسات مجلس الأمن الدولي مؤخرا، وكان الطلب بإخلاء ليبيا منهم جميعا.
ونحن في ليبيا نطالب جميع الدول التي لها عناصر بسحبها؛ فاستمرار وجود هؤلاء المرتزقة لا يصب في صالح الدولة الليبية المدنية الديمقراطية المنشودة.
روسيا رحبت أيضا بانتخاب المجلس الرئاسي ورئيس الوزراء الجديد في جنيف، ونأمل أن يكون ذلك حافزا لها لسحب مرتزقة "فاغنر"، وإن كان ذلك لن يتم إلا بعد ضمان مصالحها في ليبيا، والتي تتمثل في ديون سابقة على النظام السابق.
وكذلك تريد موسكو أن يكون لها حصة في تسليح الجيش الليبي، خاصة وأن ترسانته تاريخيا روسية الصنع.
بالطبع هذا ما نأمله، ولربما ينعكس ذلك إيجابيا على الوضع في ليبيا، ويؤدي إلى انسحاب مليشيا "الجنجويد"، وإن كان وجودهم مرتبط باستمرار الدعم والتمويل الإماراتي.
فإذا ما انقطع هذا الدعم المالي فسوف نشهد انسحابهم لا محالة، حيث أن وجود مرتزقة الجنجويد مرفوض شعبيا تماما كما مليشيا "فاغنر" الروسية.
لا شك في أن الوجود التركي في ليبيا هو تاريخي وليس وليد اللحظة كالوجود الإماراتي مثلا. إذ أن ليبيا عبر التاريخ كانت وما زالت حليف قوي للأتراك منذ عهد الدولة العثمانية.
ففي العصور الوسطى استنجدت ليبيا بالدولة العثمانية ضد فرسان القديس يوحنا في عام 1551، وكان هذا الفتح العثماني الأول، ثم استمر الحكم العثماني لفترات متقطعة حتى الحرب العالمية الثانية وخسارة دول المحور.
فضلا عن أن الوجود التركي الحالي هو وجود اقتصادي قبل أن يكون عسكري، كما أن القائمة الفائزة في انتخابات جنيف الأخيرة ترى في الوجود التركي أمرا إيجابيا يعزز الأمن والسلم في البلاد؛ بل ويدعم كذلك إعادة الإعمار وحل الإشكالات الخدمية كانقطاع الكهرباء وجمع القمامة وغيرها من الخدمات الحياتية التي يحتاج إليها المواطن الليبي.
بينما في الوقت نفسه، الوجود العسكري التركي حاليا مقتصر على خبراء لدعم تنظيم الجيش الليبي، وإعادة بنائه ضمن اتفاقيات أمنية رسمية محددة وواضحة بين تركيا والحكومة المعترف بها دوليا.
في تقديري أن روسيا لها أهداف تختلف عن تركيا، وإن كان ربما يوجد بعض التقاطعات بينهما، وكما أسلفت فإن موسكو لها عدة اعتبارات في جودها على الأراضي الليبية، وقد يكون أحدها أيضا مزاحمة حلف الناتو (شمال الأطلسي) في المياه الدافئة، لاسيما وأن السواحل الليبية على مقربة من جنوب أوروبا.
تهنئة الرئيس أردوغان للقائمة الفائزة تُعد أمرا طبيعيا من حليف إستراتيجي؛ لا سيما وأن رئيس المجلس الرئاسي الجديد محمد المنفي ورئيس الوزراء دبيبة لا يحملان أية مشاعر عدائية تجاه الدولة التركية بل العكس هو الصحيح.
كما هو معلوم، فإن مواقف دول الخليج حيال الأزمة الليبية، كانت شديدة التباين. ففي بداية انطلاق ثورة الـ17 من فبراير، كانت جميع دول مجلس التعاون الخليجي مؤيدة لها.
وعلى الفور، أصدر مجلس التعاون لدول الخليج، بيانا لتأييد الثورة، اعتمدت عليه الجامعة العربية في موقفها الداعم آنذاك لتطلعات الشعب الليبي في نيل حريته والتعبير عن إرادته؛ غير أنه سرعان ما تبدد هذا التأييد وأصبح هناك استقطاب واضح بعد مرور حوالي سنتين على الثورة.
وانقسمت دول الخليج إلى ثلاثة مجموعات تجاه الثورة، الأولى اتخذت موقفا معاديا لها ومؤيدا لعودة حكم العسكر في ليبيا، وضمت كلا من السعودية والإمارات والبحرين.
بينما المجموعة الثانية، التي كانت مؤيدة بقوة لتطلعات الشعب الليبي في إنجاح ثورته ضد الاستبداد والطغيان وحكم العسكر، وتفردت به دولة قطر وحدها من بين دول الخليج الست.
في حين المجموعة الثالثة أظهرت الحياد والبعد عن التدخل الظاهر في الشأن الليبي، وضمت دولتي الكويت وسلطنة عمان.
نحن نستغرب من السعي الدؤوب لدولة مثل الإمارات في إجهاض حلم الشعب الليبي في تأسيس دولته الوطنية الديمقراطية، التي تستوعب جميع الأطياف بمختلف توجهاتهم؛ بل وتُصرُ على محاربة من تصفهم بـ"الإسلام السياسي" رغم أنهم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع الليبي.
والجميع في ليبيا يتساءل: من الذي نصّب هذه الدويلة، المسماه بالإمارات، وصية على الشعب الليبي؟!. بل كُنا نأمل أن يكون دورها إيجابي في إعادة الإعمار والانطلاق نحو نهضة اقتصادية كبيرة في ليبيا.
مع الأسف الشديد، لا يأمن الشعب الليبي على بلاده، ولا على نفسه من غدر أولاد زايد، وأقولها بكل صراحة ومرارة، لأن ما شهدناه في ليبيا وغيرها من بلدان الربيع العربي شاهد على ضلوع الإمارت، أحد ركائز محور الشر (الذي يضم إضافة للإمارات السعودية والبحرين ومصر) في استمرار نهج إجهاض أي تحرك ديمقراطي حر لهذه الشعوب.
الجزائر وتونس يهمهما دائما استقرار ليبيا؛ لا سيما وأنهما جارتان ولهما حدود مشتركة معها، وسيسهم هذا الاستقرار في انتعاش الاقتصاد التونسي على وجه الخصوص.
وكان يوجد أكثر من 600 ألف عامل تونسي في ليبيا، وكثير من المصانع التونسية تصدر منتجاتها للسوق الليبية، لذلك فكلا البلدين داعم لاستقرار ليبيا ولكل ما يتوافق عليه الشعب الليبي.
لا يخفى على المتابع حدوث تغيير في الموقف المصري في الآونة الأخيرة حيال الحكومة الشرعية في ليبيا.
فبعد أن كانت العلاقة باردة أصبحت تشهد نوعا من الدفء؛ لا سيما بعد فشل الانقلابي حفتر في تحقيق هدفه بالاستيلاء على العاصمة طرابلس وهزيمته على أسوارها رغم الدعم الكبير الذي كان يتلقاه من السعودية والإمارات.
واليوم، وبعد نتائج جنيف، هنأت القاهرة الرئيس الفائز ورئيس وزرائه، وهو ما يجعلنا في ليبيا نأمل في أن تتخلى مصر عن أجندة دعم عودة العسكر للحكم في ليبيا، وتدعم الاستقرار لما في ذلك من فائدة للشعبين الليبي والمصري، حيث كان يتجاوز عدد المصريين العاملين في ليبيا قبل اندلاع الثورة أكثر من مليونين.