تخبط الإستراتيجيات الأمريكية وخسارة الحلفاء في المنطقة

رائد الحامد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

سجل تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1989 بداية انهيار نظام العالم "ثنائي القطب" كإنجاز حققته الولايات المتحدة بعد عقود من "الحرب الباردة" التي ابتدأت منذ خمسينيات القرن الماضي باعتماد ما يعرف باسم "القوة الناعمة" وتوظيفها لإسقاط الأعداء والخصوم.

وأدى سقوط الاتحاد السوفيتي إلى خلل في توازن القوى في العالم وفراغ محسوب في جغرافيات متعددة كانت محسوبة على "المعسكر الاشتراكي" بقيادة الاتحاد السوفيتي لمواجهة "المعسكر الرأسمالي" الذي تقوده الولايات المتحدة التي انفردت بقدراتها على ملء الفراغ والتأسيس لعالم "أحادي القطب" بهيمنة أمريكية على مقدرات العالم.

إلا أن اتجاها آخرا يتبنى وجهة نظر مغايرة ترى أن العالم لم يكن "أحادي القطب" إلا لسنوات أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي سنوات كان تعيش مخاضا لولادة "تعددية قطبية" تنازع الهيمنة الأمريكية على العالم بأساليب أخرى تتصدرها قوى دولية "صاعدة نحو الهيمنة" مثل الصين التي باتت تأكل من جرف "الهيمنة الأمريكية" في مناطق عدة من العالم ظلت بمثابة مناطق "نفوذ تقليدي" للولايات المتحدة طيلة عقود، ومنها منطقة الشرق الأوسط التي سجلت دخولا صينيا متعدد الأبعاد بخطوات "بطيئة" لكنها خطوات "واثقة" في مناطق "الصراعات والتنافس"، والقرن الأفريقي وفي سوريا.

طيلة عقود حقبة "الحرب الباردة" كانت الإستراتيجيات الأمريكية تتفق على إعادة تشكيل "منظومات الحكم" في بعض الدول بما يخدم مواجهة النفوذ السوفيتي في تلك الدول ومنع تمدده إلى دول أخرى، والحيلولة دون انتشار الأيديولوجيات السوفيتية المناهضة للرأسمالية، وهي استراتيجية ناجحة إلى حد بعيد، لكن الولايات المتحدة تخلت عنها في السنوات القليلة الماضية لصالح بناء تحالفات مع قوى محلية في بعض الدول، مثل العراق وسوريا.

بعيدا عن الغرق في بحور "التنظير"، ومن خلال متابعة المتغيرات التي طرأت على الإستراتيجيات الأمريكية في الشرق الأوسط، نجد انتقالا واضحا من البناء على التحالفات مع "دول المنطقة" إلى تحالفات مع جهات فاعلة في المجتمعات المحلية، مثل التحالفات التي عقدتها إدارة الرئيس الأمريكي مع "جهات عشائرية سنية" في العراق عمدت على تسليحها لتخوض حربا بالوكالة عنها، أي عن الولايات المتحدة، وعن الدولة العراقية ضد تنظيم القاعدة في العراق بين عامي 2006 و2009.

وبعد أحداث الموصل 2014 تبنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما نهجا قريبا من نهج سلفه جورج بوش ببناء تحالفات مع جهات "محلية" فاعلة، قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ومجموعات عشائرية "سنية"، وتحالف "غير مباشر" مع قوات الحشد الشعبي في العراق، كقوات رديفة للقوات النظامية الجيش العراقي وقوات الأمن، لقتال تنظيم الدولة.

ركزت الإستراتيجيات الأمريكية على الحرب ضد تنظيم الدولة بالشراكة "غير المنظورة" مع فصائل الحشد الشعبي الحليفة لإيران، وهي عماد القوات البرية في استعادة المدن من سيطرة التنظيم بدعم من طيران التحالف الدولي ما اكسبها خبرات قتالية ونفوذا واسعا في المحافظات السنية التي لا يزال ملفها الأمني خاضعا لسيطرة تلك الفصائل المعنية بإنفاذ المشروع الإيراني بالتواصل البري بين إيران والقوات الحليفة لها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر ممرات برية تخترق محافظتي الأنبار ونينوى "السنيتي".

لقد أدت تحالفات الولايات المتحدة مع "القوى المحلية" بعيدا عن القوات النظامية التابعة للدولة السورية إلى تنامي النفوذ الروسي، وعودة روسيا لصدارة مشهد القوة الأكثر تأثيرا في المشهدين السياسي والعسكري في سوريا بالتوازي مع دور رئيسي وفاعل تلعبه إيران من خلال سيطرة قوى "حليفة" لها، واتساع نفوذها في المجال الحيوي "التقليدي" للولايات المتحدة في المحافظات العراقية "السنية"، وفي أجزاء واسعة من سوريا، بما فيها القريبة من الحدود مع الدول الحليفة، الأردن وإسرائيل.

ففي سوريا وبعد التدخل العسكري الروسي عام 2015، بنت الولايات المتحدة علاقة تحالف "وثيق" مع قوى محلية في الحرب التي تقودها ضمن التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة.

دخلت الولايات المتحدة في شراكة مع قوات سوريا الديمقراطية التي تتشكل من مقاتلين عرب وأكراد يخضعون لقيادة وحدات حماية الشعب الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي ينظر إليه بأنه الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا مستمرة منذ عام 1984 ضد الجيش التركي، وتصنفه الولايات المتحدة على قائمة المنظمات الإرهابية.

وتتلقى قوات سوريا الديمقراطية دعما تسليحيا ولوجستيا من الولايات المتحدة أتاح لها السيطرة على مسافات طويلة من الشريط الحدودي مع تركيا في الشمال السوري.

ترى تركيا أن سيطرة وحدات حماية الشعب التي تقود قوات سوريا الديمقراطية المرتبطة تنظيميا بحزب العمال الكردستاني تهديد جدي لأمنها القومي، ساهمت الولايات المتحدة في خلقه عبر الدعم الذي تقدمه لتك الوحدات.

الشراكة الأمريكية مع وحدات حماية الشعب أدت إلى تباين في الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة والتركية في سوريا وعموم المنطقة؛ خلافا لطبيعة العلاقات التاريخية بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي واللذين يرتبطان بعلاقات تحالف وشراكة ممتدة لعقود سابقة.

الإصرار الأمريكي على حماية قوات سوريا الديمقراطية وعدم السماح لتركيا بالمساس بهم بعد انتهاء العمليات القتالية ضد تنظيم الدولة وعزم الولايات المتحدة على سحب معظم جنودها من سوريا، يعد تخبطا في الإستراتيجيات الأمريكية المعلنة بمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة والتصدي له.

سيكون على الولايات المتحدة لتحقيق الحماية لقوات سوريا الديمقراطية التنسيق والاتفاق المباشر أو غير المباشر مع كل من قوات النظام وروسيا، وهو بالتالي سيكون تنسيقا يخدم المصالح والسياسات الإيرانية وبالضد من مصالح تركيا الحليف للولايات المتحدة والشريك لها في حلف شمال الأطلسي.

وأشاع التدخل الأمريكي بعد أحداث الموصل 2014 والأزمة القطرية في يونيو/حزيران 2017، حالة استقطاب إقليمي ودولي في منطقة الشرق الأوسط وتقسيمها إلى محورين سياسيين، يضم الأول الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الحليفة لها في المحور العربي الذي تقوده السعودية، في مواجهة المحور الآخر الذي تقوده إيران ويضم القوات الحليفة لها مثل الحشد الشعبي العراقي وجماعة الحوثي في اليمن وحزب الله اللبناني والمجموعات الشيعية المسلحة في سوريا، بالإضافة إلى دولة قطر وتركيا بالتنسيق مع روسيا

وفي الوقت الذي تبنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إستراتيجية التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة، فان السياسات الأمريكية أهملت العمل على ثنائية الحرب على تنظيم الدولة والتصدي للنفوذ الإيراني في ذات الوقت، بينما ركزت فقط على الحرب على التنظيم في سوريا والعراق.

أدى ذلك إلى تنامي دور إيراني فاعل وقيادي ضمن تحالف المحور الروسي الإيراني في سوريا في سياق "تخادم" متبادل استثمرت فيه روسيا القوات البرية التي تتشكل من مجموعات شيعية مسلحة حليفة لإيران في القتال، إلى جانب قوات النظام الذي تدخلت روسيا عسكريا لإنقاذه من السقوط في مقابل تمدد واتساع النفوذ الإيراني في جغرافيات العاصمة وصولا إلى الحدود اللبنانية والإسرائيلية والعراقية، وهي جغرافيات خارج اهتمامات المصالح الروسية التي تتركز في جغرافية المناطق الساحلية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

بعد الفراغ من قتال تنظيم الدولة، بات المحور الإيراني الروسي في سوريا يشكل تحديا إقليميا للإستراتيجيات الأمريكية في احتواء الدور الإيراني في المنطقة، وزوال ما تعتقده الولايات المتحدة بالدور الإيراني "الخبيث" الداعم للإرهاب في المنطقة، والتهديدات المحتملة على الدول الحليفة والشريكة في المنطقة، إسرائيل والأردن والسعودية. 

الكلمات المفتاحية