العلاقات المغربية التركية.. ما دور لوبيات فرنسا في عرقلة تقارب البلدين؟

عبد الباسط ربيع | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

يعتبر اعتماد المغرب على إستراتيجية "تنويع الشركاء" أهم علامة تميز سياسة الدولة، بعد 20 سنة من وصول الملك "محمد السادس" للعرش، بما يعني البحث عن شركاء جدد، والتخفيف من الارتباط والخضوع لمصالح القوى التقليدية في علاقاته الثنائية.

وتمثل العلاقات "المغربية التركية" واحدة من الوجهات الجديدة لهذا التنويع في الشراكات.

لكن التقارب الكبير للرباط وأنقرة في المواقف السياسية، والتعاون الاقتصادي، ما زال يثير حساسيات لدى بعض الأطراف التي تصنف في المغرب باعتبارها امتدادا للوبي الفرنسي-الفرنكفوني، التي لا تخفي سعيها إلى عرقلة هذا التقارب.

فكلما صدرت إشارات إيجابية بين الرباط وأنقرة يعقبها رد فعل من طرف اللوبي الفرنسي في المغرب، بدا من خلال موقف نقابة رجال الأعمال حين اعترضت على زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 2013. لما كان رئيسا لحكومة بلاده، وتكرر الأمر في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

ففي سبتمبر/أيلول 2019، وعلى هامش الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، تلقى أردوغان دعوة من العاهل المغربي "محمد السادس" لزيارة المغرب، بحسب تصريح لوزير الخارجية التركي "مولود تشاووش أوغلو"، لموقع القناة الثانية المغربية.

وقال تشاووش أوغلو "ناقشنا تنظيم زيارة عالية المستوى بين البلدين، إذ تلقى الرئيس أردوغان دعوة من العاهل المغربي لزيارة الرباط، ولكن قبل هذه الزيارة المرتقبة، سوف أزور المغرب من أجل التنسيق والتحضير لتلك الزيارة".

بعد هذا التصريح، وفي شهر فبراير/شباط 2020، وبنبرة فيها كثير من الحدة، اختار وزير الصناعة والتجارة والاقتصاد الرقمي والأخضر، "حفيظ العلمي"، منصة البرلمان ليهدد بـ"تمزيق اتفاقية التبادل الحر" بين المغرب وتركيا، وبإغلاق عدد من الشركات التركية في بلاده.

ويعتبر "حفيظ العلمي"، الوزير منذ 2013، رجل أعمال، ورئيسا سابقا للاتحاد العام لمقاولات المغرب (نقابة رجال الأعمال)، ينتمي لحزب "التجمع الوطني للأحرار"، ويملك أسهما في بعض المؤسسات التجارية الفرنسية التي تعمل في البلاد.

الوزير قال بشكل صريح ومباشر "سيتم إغلاق سلسلة (بيم) التركية إذا لم تلتزم بهذه الشروط"، وكان لافتا تخصيص الوزير الحديث عن هذه الماركة من المحلات التجارية، التي تقدم سلعا بأثمنة في متناول الفئات الهشة اجتماعيا.  

غير أن تحقيقا صحفيا كشف أن الوزير "مولاي حفيظ العلمي"، الذي هدد بإغلاق شركة "بيم" التركية، يملك أسهما في شركة "كارفور" الفرنسية، وأن أسهمه في نفس الشركة تفوق 10 بالمائة من مجموع رأسمالها.

وتعتبر شركة "كارفور" واحدة من أهم العلامات التجارية في المغرب، وتحتل المرتبة الثانية في رقم معاملات الأسواق الممتازة، والبيع بالتجزئة في البلاد.

ورقة العجز

بعد هذه التصريحات العنيفة، دخلت الرباط وأنقرة مفاوضات انتهت بتعديل اتفاقية التبادل الحر بينهما، ففي فبراير/شباط 2020، أعلن الجانبان تعديل الاتفاقية.

 وينص الاتفاق على فرض رسوم جمركية لمدة 5 سنوات على عدد من المنتجات الصناعية التركية، لتبلغ 90 بالمئة من قيمة الرسوم الجمركية المطبقة.

وجاء في الاتفاق أيضا، أن لا يطبق الجانب المغربي أي رسوم أخرى ذات أثر مماثل للرسوم الجمركية، على الواردات ذات المنشأ التركي، باستثناء ما تتيحه المادتان (18 و19) من اتفاقية التبادل الحر بينهما.

ويعلق "سلمان بونعمان" أستاذ العلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس على هذه التباينات "لا تصل أشكال إعادة صياغة الاتفاقيات التجارية والاقتصادية (مراجعة اتفاقية التجارة الحرة) بين المغرب وتركيا إلى دائرة التوتر".

وقال بونعمان لـ"الاستقلال" إن "السلوك المغربي يتسم بمحاولة خلق توازن في السوق دون الإضرار بالاقتصاد المغربي وتوازناته، ورغم كل ذلك هناك إرادة من الطرفين لتوسيع التعاون الاقتصادي والصناعي وتعميقه مستقبلا".

وقبل التوصل إلى الاتفاق اشتكى نفس الوزير من الآثار السلبية لاتفاقية التبادل الحر مع تركيا، دافعا بعدد من الأرقام التي تظهر عجزا لصالح أنقرة بملايين الدولارات. 

وعقد المغرب وتركيا سنة 2004، اتفاقية التبادل الحر بين البلدين، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 2006.

واستند الوزير إلى تقرير لوزارة المالية صدر في أكتوبر/تشرين الأول 2020، كشف عن ارتفاع حجم التبادل التجاري مع تركيا بنسبة 30.6 بالمئة خلال 12 عاما، وارتفعت رقم معاملاته إلى 27 مليار درهم (2.8 مليار دولار) خلال 2018، مقابل 6.6 مليار درهم (688 مليون دولار) في 2006.

ففي ظرف 10 سنوات تضاعفت هذه المبادلات 4 مرات لتنتقل من 700 مليون دولار قبل بداية العمل بالاتفاقية إلى 2,6 مليار دولار سنة 2016، في حين بلغت المبادلات التجارية 27 مليار درهم سنة 2018. مقابل 6.6 مليارات درهم فقط سنة 2016.

كما رصد تقرير وزارة المالية ارتفاع الاستثمارات التركية بالمغرب إلى 269 مليون درهم (28 مليون دولار) في 2018، مقابل 139 مليون درهم (14مليون دولار) في 2017، و603 ملايين درهم (62 مليون دولار) في 2016. 

هذا التطور الكبير في رقم المعاملات، لم ينعكس بشكل إيجابي على الجانب المغربي.

إذ يبين تدقيق الأرقام أن المقاولات التركية استطاعت الاستفادة من السوق المغربية أكثر بكثير مما فعلته المقاولات المغربية في السوق التركية، حيث ارتفع العجز التجاري للمغرب مع تركيا من 4.4 مليار درهم (44 مليون دولار) سنة 2006 إلى 16 مليار درهم (1.6 مليار دولار) سنة 2018.

لماذا تركيا؟ 

بلغ عجز الميزان التجاري في المغرب أكثر من 13 مليار دولار قبل نهاية سنة 2020، مستفيدا من تراجع النشاط الاقتصادي بفعل "جائحة كورونا".

 وتقول الأرقام الرسمية المغربية، إن عجز الميزان التجاري للمغرب لا يتوقف عند تركيا، بل يمتد إلى 56 بلدا عبر العالم.

وكان الوزير "العلمي" قد دعا إلى ضرورة تعديل الاتفاقيات الاقتصادية مع هذه، التي يأتي على رأسها عدد من الدول العربية، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

المثير في خطوة الحكومة المغربية، هو تركيزها بشكل أساسي على العجز في الميزان التجاري مع تركيا، رغم أن المغرب يربطه العديد من اتفاقيات التبادل الحر الأخرى مع قوى اقتصادية كبرى تسبب له عجزا أكبر، وكنموذج على ذلك الاتفاقية التي تربطه مع الولايات المتحدة الأميركية.

وبلغ حجم العجز التجاري مع الولايات المتحدة 25.3 مليارات درهم (2.5 مليار دولار) سنة 2018 مقابل 7.2 مليار درهم (70 مليون دولار) سنة 2006، والأمر نفسه بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي يسجل معه المغرب عجزا تجاريا مستمرا.

وشكك عدد من الخبراء في خلفيات التركيز على تركيا، معتبرين أن الأسلم والطبيعي أن يبدأ المغرب بالاتفاقية التي تتسبب في أكبر نسبة من العجز التجاري، وهذا يتطلب تحديد السياسة التي ستعتمدها الدولة لتقييم الاتفاقية التي تضررت منها.

فهناك دول أخرى تسبق تركيا على مستوى التأثير السلبي على الميزان التجاري المغربي. ونبهوا إلى ضرورة التأكد من أن هذه الخطوة ليست مدفوعة بضغوطات سياسية أو أن خلفها تأثيرات من أطراف اقتصادية.

هذا الرأي دافع عنه سلمان بونعمان، قائلا "خلقت قطاعات النسيج والملابس التركية نظرا لقدرتها على المنافسة، انزعاجا كبيرا لدى بعض النخب الاقتصادية الفرنكوفونية، التي ترتبط مصالحها المحلية وامتيازاتها باللوبي الاقتصادي الفرنسي وصناعاته، لذلك بذلت جهودا لمحاولة التضييق على المنتوج التركي بآليات ناعمة وذكية". 

وأضاف "سلمان بونعمان" في تصريح لـ"الاستقلال": "بالتأكيد لن تسمح فرنسا بأن ينافسها أحد في مستعمراتها القديمة بالغرب الإفريقي أساسا، والتي تنظر إليه بوصفه مجالا محفوظا لها وخزانا استراتيجيا لإنقاذ الاقتصاد الفرنسي وتجاوز أعطابه".

تقارب سياسي

ورغم هذا الشد والجذب الاقتصادي، فإن العلاقات بين البلدين على الصعيد السياسي تمتاز بقدر كبير من التقارب، على صعيد عدد من الملفات السياسية الإقليمية والدولية.

ولعل هذا ما حدا بوكالة الأنباء الرسمية المغربية إلى نشر مقالة مطولة قالت فيها "هذا التوجه نحو تحقيق مزيد من التعاون الاقتصادي يلقى دعما كبيرا في العلاقات الثنائية السياسة التي تقوم على دعم البلدين للوحدة الترابية لكل منها، ورفض النزعات الانفصالية التي تستهدف سيادة كل منها على كامل ترابه".

وزادت "وفي هذا السياق، جددت تركيا، في ديسمبر/كانون الأول 2020، على لسان وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو، تأكيدها على (دعمها الكامل) للوحدة الترابية للمملكة وتشبثها باستقرار المغرب الذي يضطلع بدور مهم في العالم الإسلامي والقارة الإفريقية وفي منطقة المتوسط".

كما أن الطرفين تميزا بموقفهما الرافض لحصار قطر، تماما كما رفضا الانقلاب العسكري الذي قام به المارشال "خلفية حفتر" في ليبيا وحرصا بدرجات متفاوتة على اعتبار حكومة "الوفاق" هي الحكومة الشرعية في ليبيا، مع دعم جهود التسوية لحل القضية الليبية.

وتمثل ذروة التفاهم بين البلدين حين تطابقت رؤاهما على رفض "صفقة القرن"، والاعتراض على قرار الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" القاضي بنقل مقر السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة.

ويسجل بونعمان على أن "هناك شبه تقارب في التوجه العام بين البلدين، لكن هناك تمايز كبير في أسلوب إدارة العلاقات وتدبير الأزمات في المنطقة".

وأردف أيضا أن "هناك تمايز في طبيعة السياسة الخارجية للمغرب ورؤيته الخاصة للشراكات والتحالفات وفق المصلحة الوطنية وباستحضار ثقل إرث الرباط التاريخي والديني والحضاري المتميز، والذي لم يكن -تاريخيا- جزءا من الحكم العثماني ولا تابعا له، لكن ظلت أشكال التعاون والتضامن قائمة وممتدة بين البلدين".

وشدد على أن "المغرب يحاول فك الارتهان مع فرنسا دون أن يفقد علاقته بها، ولكن في الوقت نفسه يسعى إلى تنويع شراكاته الاقتصادية وتوسيع انفتاحه التجاري والتكنولوجي والصناعي على دول شرق آسيا وتركيا".

ولفت إلى أن المغرب "يعيد صياغة تحالفاته مع أميركا في ظل وعي مغربي إستراتيجي بحجم الرهانات الدولية على الغرب الإفريقي، والتي تؤطرها الصراعات الحالية بين الصين وأميركا على مناطق النفوذ وموارد الطاقة وغيرها".

وأوضح، أن المغرب في ذلك يسعى إلى "إعادة التموقع" الاقتصادي والإستراتيجي مستفيدا مما تتيحه له جغرافيته السياسية ومجاله البحري ووزنه السياسي-الديني، في ظل أشكال الصراع الجديدة على الموانئ والمحاور والبحار، وإستراتيجيات الولايات المتحدة لتطويق التمدد الصيني ومنع تغلغله في القارة الإفريقية.