محمد الوفا.. وزير تعليم مغربي طارد "الموظفين الأشباح" ومات بكورونا

سلمان الراشدي | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

في يوم أحد هادئ، اختطف "فيروس كورونا"، وزير التعليم المغربي السابق "محمد الوفا"، عن عمر يناهز 72 سنة، في أحد مستشفيات العاصمة الرباط، يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2020.

"الوفا"، أشهر شخصية وزارية في حكومتي عبد الإله بنكيران (2012-2016)، خاصة بعد "ثورة" قادها في دهاليز وزارة التعليم ضد "الموظفين الأشباح"، وأيضا مواقفه "الإنسانية" حين كان سفيرا في الهند وطهران، ومع وفاته "تفقد السياسة المغربية بهجتها".

وفاته خلفت صدمة لدى الطبقة السياسية المغربية، خاصة أنه بصم الحياة الدبلوماسية والسياسية بمواقفه الجريئة التي لم تكن تخلو من سخرية بلكنته المراكشية المثيرة، حيث وصفه بنكيران بـ"الشخص الوفي والرجل المرح".

رفض الانقلاب

ولد "الوفا"، في مدينة مراكش عام 1948، حصل على البكالوريوس في العلوم الاقتصادية بكلية الحقوق بالرباط، وعلى دبلوم الدراسات العليا في العلوم الاقتصادية من العاصمة الفرنسية باريس، وفي سنة 1976، شغل منصب أستاذ مساعد بكلية الحقوق بالرباط.

تقلد الراحل في حياته، عدة مناصب سياسية ودبلوماسية، حيث انتخب برلمانيا بين (1977 و1997)، وترأس بلدية مدينة مراكش ما بين (1983 و1992)، وكان عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال منذ 1982.

وبخصوص مساره داخل حزب الاستقلال، فقد بدأه "الوفا" منذ شبابه في مراكش، إذ تولى منصب الكاتب (الأمين) العام للشبيبة (شباب) بالحزب ما بين عامي (1976 و1984) وترأس الاتحاد العام لطلبة المغرب (منظمة طلابية أسسها حزب الاستقلال).

ودبلوماسيا، عين سفيرا للمغرب بالهند (2000 و2004)، قبل أن يُعيَن سفيرا في إيران عام 2006 وحتى 2009، ثم سفيرا للمملكة في البرازيل من (2009 حتى 2011).

بعدها عاد إلى المغرب ليستأنف نشاطه السياسي داخل حزب الاستقلال، وفي خضم نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 2011، عُيّن في 3 يناير/كانون الثاني 2012. وزيرا للتعليم في حكومة "بنكيران" ممثلا لحزب الاستقلال، في تحالف حكومي.

وبعد "انقلاب" حزب الاستقلال على التحالف الحكومي عام 2013، وانسحابه في موقف يتذكره المغاربة، رفض "الوفا" هذا "الانقلاب" واستمر بجوار "بنكيران" الذي اقترحه وزيرا في حكومته المعدلة، فعينه الملك "محمد السادس" وزيرا منتدبا مكلفا بالشؤون العامة والحكامة.

هذا الموقف الرافض للاستقالة من الحكومة، أثار غضب الأمين العام السابق لحزب الاستقلال "حميد شباط"، ما أدى لإقالته من الحزب، لكن "الوفا" أصر على أنه ما زال منتميا للحزب، وبقيت له علاقات شخصية قوية مع أعضائه ومناضليه.

ود بنكيران

خلال تأبينه للراحل "الوفا"، قال رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران: "لم يكن بيني وبينه اتصال مباشر في السابق، وبعد أن عينني الملك رئيسا للحكومة، واختلفنا في حقيبة التعليم واقترحوا علي الوفا فرحت لذلك وقدمت الاسم للملك وهو رجل مرح ولطيف".

وأضاف بنكيران بعينين دامعتين: "أريد أن أقول إن هذا الرجل اسمه يتطابق مع حقيقته، كان رجلا وفيا ومنذ أن أعفاني الملك (من تشكيل الحكومة عام 2016) يزورني أسبوعيا كل يوم ثلاثاء، نتبادل أطراف الحديث، ولا يغادر بيتي حتى يصلي المغرب والعشاء".

وتابع في فيديو مصور: "الوفا كان معي في الحكومة ويتميز بالفهم السريع، يفهم الآخرين أكثر من أي شخص آخر، كان رجلا مراكشيا ومرحا وعارفا بمقالب الآخرين، وله مواقف ممتازة، وكان يجمعنا ود كبير، أرى فيه شخصا مخلصا لوطنه ولدينه ولملكه".

من جهته، قال الصحفي مصطفى الفن: "مهم جدا أن أحكي قصة رواها لنا السيد الوفا شخصيا بحضور أصدقاء لا زالوا أحياء يرزقون".

وأضاف: "في سنة 2004، وعقب زلزال مدينة الحسيمة (شرقا)، تصل الوفا، الذي كان وقتها سفيرا بالهند، في وقت متأخر من الليل، برقية عاجلة من الخارجية المغربية، مضمونها أن الرباط في حاجة إلى مساعدة في شكل خيام من دولة الهند لإيواء المتضررين من زلزال الحسيمة".

وأضاف الفن: "لكن الوفا رفض أن يربط الاتصال بمسؤولي الهند في هذه القضية، وصاغ رفضه الدبلوماسي بهذه الصيغة: أنا سفير لبلد اسمه المغرب وسفير لبلد له تاريخ عريق ولبلد قادر على حل هذا المشكل بإمكاناته الذاتية، وسأشعر بالحرج إذا ما ذهبت لأتسول الخيام من الهند لأني أخشى ألا يحترمنا مسؤولو هذا البلد فيما بعد".

"الموظفين الأشباح"

الوفا هو الوحيد في تاريخ الوزارة الذي احتُرمت في عهده مواعيد إصدار تنقل الأستاذة (من منطقة لأخرى حسب رغباتهم) ومواعيد الامتحانات المهنية، وكان من الوزراء القلائل الذين يحضرون بصفة شخصية لاجتماعات مديريات الوزارة في المدن، رافضا فكرة أن ينوب عنه أحد في هذه المسؤولية.

كان "الوفا" حاسما في التعامل بكل موضوعية مع المخطط الاستعجالي للتربية والتكوين (خطة لإنقاذ التعليم في المغرب أطلقت عام 2009)، فعكف على النبش في ملفاته إلى أن كشف المستور وأقر بما شابه من اختلالات وخروقات خطيرة، فتم تشكيل لجنة للتقصي في ميزانيته الضخمة ومشاريعه التي لم تنجز قبل أن يتم طمس حقائق هذه اللجنة بعد إقالة "الوفا".

الأستاذ بالمديرية الإقليمية للتعليم بمدينة خريبكة، المصطفى العبلاوي قال: "شاءت الأقدار أن يخطف الموت من بين ظهرانينا أحد رجالات هذا الوطن، الوفا، هذا الرجل الذي خَبِره عن قرب رجال ونساء التعليم فأحبوه وقتها لما لمسوا فيه من إرادة منقطعة النظير لإصلاح المنظومة التعليمية وانتشالها من براثن الفساد والريع".

واعتبر في مقال نشره بموقع "هبة بريس" أن "الوفاة الرمزية للسيد الوفا ترجع لسنة 2013. حينما تمت الإطاحة به من وزارة التعليم، وقد شكلت هذه الإقالة صدمة عميقة في صفوف الأسرة التعليمية التي كانت تعلم يقينا أنها قد فقدت وزيرا استثنائيا استطاع بفضل حنكته أن يحرك مياها راكدة لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها".

وأكد العبلاوي أن "الوفا تمكن من إحداث ثورة غير مسبوقة في قطاع التعليم ضد معاقل الفساد والمحسوبية وعمل على مجابهة ملفات حساسة بكل جرأة ومسؤولية".

وأوضح "لقد تمكن هذا الرجل خلال الفترة القصيرة التي أشرف فيها على وزارة التربية الوطنية والتي لم تراوح السنتين من اتخاذ جملة من القرارات التي ستبقى عالقة في أذهان موظفي التعليم وعموم المواطنين".

وتابع: "الوزير أخذ زمام المبادرة وأعلن عن لائحة الموظفين الأشباح (يتقاضون رواتب دون أداء أي مهمة) بدهاليز الوزارة ومؤسساتها في سابقة كانت الأولى من نوعها ".

سياسي محنك

الباحث الأكاديمي والمحلل السياسي، "بلال التليدي" يروي موقفا له خارج المغرب بالقول: "في زيارة لحضور مؤتمر القدس في طهران، كان الوفا سفيرا للمغرب في إيران، لم يتردد رحمه الله في استقبالنا".

وأضاف: "كنا 4 أشخاص، اثنان من وفد برلماني هما نور الدين مضيان عن حزب الاستقلال، والأمين بوخبزة عن حزب العدالة والتنمية.. وحضرت بصفتي مبعوثا من قبل جريدة التجديد، وحضر عمر أمكاسو عن جماعة العدل والإحسان".

وأوضح أن المثير في موقف "الوفا" أنه دعانا لبيته للغذاء لتناول وجبة الكسكس.. ثم دعانا  لوجبة عشاء في مطعم مشهور بطهران.. وقام بنفسه بجولة بنا يعرفنا بطهران ومعالم إيران ويشرح لنا بالتفاصيل العلاقات المغربية الإيرانية والنقاط المشكلة فيها.

وتابع: "حكا لنا طرائف غير موجودة في الكتب عن الخميني وعلاقته بالمغرب.. وخصص لنا سائقا ينقلنا حيث أردنا داخل إيران فعرض علينا زيارة قم وأصفهان وغيرها.. ولم يتيسر لنا سوى زيارة قم لضيق الوقت.."

المثير في موقفه، يقول التليدي: علم أن أمكاسو من "العدل والإحسان (تعتبرها السلطات جماعة محظورة)"، قال لي شخصيا يشرح موقفه وعدم شعوره بأي حرج في استقباله: هذه (يقصد سفارة الرباط بطهران) دار المغرب وبيت لكل المغاربة".

وأضاف على لسان الوفا: "لو أقصي هؤلاء من دار المغرب فسنزيد شعورهم بالعزلة وكأنهم ليسوا مغاربة، وإذا قمنا باحتضانهم مع الخلاف معهم فمع الوقت سيغير ذلك من موقفهم".

وأكد التليدي أن "الوفا استقبل أمكاسو وأكرمه كما أكرمنا، وكان ذلك مما يتفرد به عن غيره.. رحل رجل من الذين يفهمون السياسة بعمق ويفهمون مقاصد الدولة ويعرفون من أين يمر الماء".

نظيف اليد

الصحفي رشيد نيني قال: "كان الوفا مادة صحفية دسمة بسبب تصريحاته الطريفة والمباشرة، لا يكف عن منح الصحفيين خبرا أو تعليقا يتداولونه لأيام. كان زبونا جيدا للصحافة كما يقال. ولذلك فقد كتبت مطولا حول الفترة التي أدار فيها وزارة التعليم.. أحيانا بقسوة. لكنه لم يتصل بي هاتفيا".

وأردف: "لأول مرة فقط عندما كان وزيرا للشؤون العامة في النسخة الثانية من حكومة بنكيران التي غادرها حزب الاستقلال وبقي فيها الوفا للأسباب التي شرحها لي فيما بعد، والتي لن أكشف عنها، مثل كل ما أسر إلي به من أسرار وحكايات عاشها طوال مساره السياسي والدبلوماسي والتي كان دائما ما يختمها قائلا: عنداك تمشي تكتب هاد الشي (لا تكتب هذه التفاصيل)".

وأشار "نيني" في منشور على "فيسبوك" إلى أن "الوفا كانت له شهية مريعة للأخبار، يحب الاطلاع على كل المستجدات ويصغ السمع بعناية شديدة عندما يتوقع منك أن تطلعه على خبر جديد أو تحليل لوضع سياسي أو مجرد تعليق على حادث".

وأكد أن "الجميع متفق حول شيء بخصوص الوفا، هو أنه عاش نظيفا ولم يسجل عليه يوما أنه مد يده للمال العام، لذلك فقد كان يسمح لنفسه باتخاذ مواقف صارمة وأن يقول الكلام الذي لا يستطيع أن يقوله سوى من بطنه خالية من العجين وفمه خال من الماء، وهذه فصيلة في قبيلة السياسيين أندر من أسنان الدجاج".

وختم "نيني" كلامه بالقول: "سيحتفظ المغاربة عن محمد الوفا بصورة الرجل النظيف، المرح، الجذاب، الصارم عندما يتعلق الأمر بالمبدأ، وسيحتفظ له أصدقاؤه بذكرى الشخص الوفي. فالأهم في هذه الحياة هو خصلة الوفاء، ومن تميز بها فليعلم أن الله يحبه".