"بوعزيزي السودان".. كيف أشعل مقتل "نوري" الغضب ضد الدعم السريع؟

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم يدر بخلد المواطن السوداني بهاء الدين نوري (45 عاما)، وهو يسير في إحدى ضواحي منطقة الكلاكلة جنوبي الخرطوم، أنه على بعد خطوات من الموت، عندما توقفت سيارة بلا لوحات معدنية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2020، واختطفته واقتادته إلى جهة مجهولة.

دخل "نوري" في بؤرة مظلمة داخل مقار الدعم السريع السرية والمنتشرة في عموم السودان، وفي 21 ديسمبر/كانون الأول 2020، أبلغت السلطات أسرة بهاء بأنه توفي، وعليهم استلام جثته من المشرحة.

عندما ذهبت الأسرة لأخذ جثمان فقيدها، راعها التعذيب والانتهاكات التي ظهرت على الجسد المسجى، فرفضت استلامه وتقدمت ببلاغ إلى النيابة العامة.

"محمد نوري"، شقيق الفقيد صرح لوسائل إعلام محلية أن "بهاء الدين لم يكن له أي نشاط سياسي، وعذب بلا أي جريرة"، ووجهت الاتهامات مباشرة إلى قوات الدعم السريع التي يقودها نائب رئيس المجلس السيادي الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، والذي يلقبه البعض بـ"هتلر السودان" .

شرارة الغضب

لم يكن "بهاء الدين نوري" أول قتلى "الدعم السريع" على مدار سنوات طويلة من دارفور إلى الخرطوم، لكنه كان بمثابة الشرارة التي أشعلت نار الغضب في البلاد، حيث خرجت التظاهرات مطالبة بضرورة وضع حد لتجاوزات القوات التابعة للجيش، والمنبثقة من ميليشيات "الجنجويد" سيئة السمعة.

وفي 29 ديسمبر/كانون الأول 2020، تم تشييع "بهاء الدين نوري"، في موكب مهيب شارك فيه الآلاف الذين جابوا أحياء الخرطوم، من مستشفى "أم درمان"، إلى أحد مقار الدعم السريع، بمدينة "بحري" في منطقة المظلات "شمالا"، حيث مقر الاحتجاز الذي قُتل بداخله.

حُمل جثمان "نوري" في أطول موكب تشييع في تاريخ السودان الحديث، حيث قطع المشيعون مسافة بلغت 35 كيلو مترا، طافوا بها أنحاء العاصمة، ونددوا بقوات الدعم السريع.

وقف المشيعون حاملين النعش أمام مقر الاحتجاز، وأطلقوا هتافات غاضبة من بينها "الشعب يريد قصاص الشهيد"، و"من قتل بهاء؟"، ثم انطلقوا إلى مقابر "حُسن الخاتمة" بمنطقة الكلاكلة.

ورغم دفن جثمان "نوري"، لكن قضيته لم تمت مع تصاعد الأحداث، وتدخل هيئات رسمية وحكومية، وأحزاب، وقوى ثورية تطالب بالكشف عن القتلة، ومحاسبة المرتكبين عن هذه الجرائم والانتهاكات.

النيابة العامة وجهت تهم القتل العمد والاشتراك في تنفيذ اتفاق جنائي، لأفراد (لم تذكر عددهم) من قوات "الدعم السريع"، بعد أن أظهر إعادة تشريح الجثة، تعرض "نوري" للتعذيب وإصابات متعددة أدت إلى وفاته.

وفي 28 ديسمبر/كانون الأول 2020، اتخذ النائب العام الإجراءات اللازمة، للقبض على جميع أفراد القوة، التي اختطفت واحتجزت المجني عليه، وتسليمهم للنيابة العامة فورا.

"تجمع المهنيين السودانيين" الذي قاد الاحتجاجات من بداية الثورة، طالب المواطنين بـ"عدم التجاوب مع طلبات القبض أو الاقتياد من أي جهة بخلاف قوات الشرطة بزيها المعروف، مع الإعلام عن التهمة والحق في التحقق من الهويات، ورفض أي محاولة للقبض على المواطنين من أي جهة أخرى ومقاومتها فورا".

كما ندعو كل المواطنين، ومن واقع حوادث شبيهة في الآونة الأخيرة، لعدم التجاوب مع طلبات القبض أو الاقتياد من أي جهة بخلاف قوات الشرطة السودانية بزيها المعروف، مع الإعلام عن التهمة والحق في التحقق من الهويات. 

وفي تصعيد متصل، رفع "تجمع المهنيين" عددا من المطالب الشعبية للحكومة، وأمهلها أسبوعين للعمل عليها، مهددا بالدعوة إلى مسيرات احتجاجية مجددا.

وأعلن عضو سكرتارية التجمع، عمار الباقر، أن "من بين هذه المطالب الكشف عن مقار المعتقلات السرية وما يدور فيها، والتحقيق في حالات الاعتقال القسري والقتل خارج القانون".

وفي بيانه، ندد حزب الأمة القومي، أبرز أحزاب "إعلان الحرية والتغيير" (الائتلاف الحاكم)، بالجريمة قائلا: "ندين عملية الخطف والاعتقال غير القانوني لأي مواطن سوداني، ونؤكد أن سلطة الاعتقال والتحري هي سلطة مكفولة بالقانون والدستور للأجهزه الأمنية والنيابة".

وكذلك دعا حزب المؤتمر، عبر بيان، إلى "الإسراع باستكمال التحقيق وتقديم الجناة للعدالة"، أما الحزب الشيوعي فأصدر بيانا، وصف ما حدث بـ"جريمة اغتيال بشعة مكتملة الأركان، وتهدد أمن جميع المواطنين".

قبو "حميدتي"

مطالبات الأحزاب للسلطة بالكشف عن المعتقلات السرية لـ"قوات الدعم السريع"، ليست وليدة حادثة مقتل "نوري"، لكنها نتاج حالة مستمرة من الانتهاكات والغموض داخل تلك المقرات والسجون السرية والوحدات الخاصة.

في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، نشرت وكالة "مونتي كاروو" السودانية، تقريرا عن تنفيذ الاستخبارات التابعة لقوات الدعم السريع حملات اعتقال وإخفاء قسري ضد ناشطين وتجار ومواطنين دون مسوغ قانوني. 

وقالت الوكالة: إن "محمد عبد الرحمن لا يزال معتقلا داخل قبو بإحدى المقار التابعة لقوات الدعم السريع بحي المنشية بالخرطوم"، وأضافت: أن "المعتقل له صلة قرابة بياسر عرمان الأمين العام للحركة الشعبية، ودرس الطيران في أكاديمية "هاي ليفل" إحدى استثمارات (صافات) المملوكة للقوات المسلحة السودانية".

وذكرت أنه "بحسب مصادر داخل الدعم السريع، فإن اعتقال محمد عبد الرحمن جاء على خلفية الاشتباه في علاقته بمدير المخابرات السابق صلاح قوش وأنه كان يخطط لضرب مقرات الدعم السريع".

وحسب المعلومات الواردة عن أشهر المعتقلين داخل مقر "حميدتي" بالمنشية، فقد اعتقل لفترات زمنية متفاوتة كلا من أسامة محمد الحسن، المقرب من "حميدتي"، والقيادي السابق بالجبهة الشعبية المتحدة.

كذلك القيادي بالمؤتمر الشعبي عمار السجاد، وتاجر المواشي عيسى جودة بعبوش (من مواطني مدينة الجنينة)، وكذلك تاجر ذو أصول هندية يدعى كونيل، يعمل في مجال استيراد قطع الغيار والمعدات الزراعية من الهند، كانوا من بين المحتجزين بمقرات الدعم السريع.

وفي 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، نشرت "مونتي كاروو" عبر حسابها بموقع "فيسبوك" منشورا موجها للمواطنين، تضمن أنه "إذا كان لديك شخص مفقود ولم تعثر عليه في أقسام الشرطة أو لدى استعلامات جهاز الأمن فما عليك سوى الذهاب إلى قبو "حميدتي" بالمنشية جنوب مبنى شركة (إم تي إن) للاتصالات فربما يكون موجودا هناك".

ويقع حي المنشية حيث مقر "حميدتي" وسجونه السرية سيئة السمعة، في العاصمة الخرطوم التي تعتبر واحدة من المدن الرئيسية الأكثر حرارة في العالم، حيث تتجاوز درجات الحرارة فيها 48 درجة مئوية خلال الصيف.

وضع ضبابي

في مقال بصحيفة "الراكوبة"، وصف الكاتب الصحفي السوداني فيصل باقر، قتل "بهاء الدين نوري" بأنها "ليست الجريمة الأولى، ولن تكون الأخيرة لهذه القوات المنفلتة، وذلك لأسباب كثيرة من بينها، على سبيل المثال، وليس الحصر، نشأتها وتكوينها وتمويلها، والصرف على منسوبيها، وتشوينها، وأساليب تدريبها، وعقيدتها القتالية، التي تتنافى مع التقاليد المعروفة والمرعية فى الجيوش والقوات النظامية المحترفة".

وأضاف: أن "إقامتها مراكز سرية، للاعتقال والاحتجاز والتحقيق، لهو أمر منافي لصحيح قوانين الدولة المدنية، كما لم تتحدث عن رغبتها أو عزمها على إغلاق هذه الأماكن".

وشدد أنه "يتوجب على الدولة أن تقوم بإغلاق هذه المراكز الموازية، قبل فوات الأوان، وقبل أن يكون لكل جماعة مسلحة، الحق في إنشاء أجهزتها السرية، أسوة بقوات الدعم السريع".

الناشط السياسي السوداني الناصر عبد الله، قال لـ"الاستقلال": "يجب أن نعترف بوضوح أن السودان أمام دولة موازية وقوية ومجهزة، الدعم السريع ليست مجرد قوات متنفذة، بل هي قوة عسكرية مستقلة، ووضعها أشبه بوضع حزب الله في لبنان لا يختلف عنه شيئا".

مضيفا: "بل إن الدعم السريع تزيد في تورطها في حروب أهلية دامية في دارفور، وجرائم حقوق إنسان مروعة، يستحق قادتها الوقوف أمام محكمة العدل الدولية بسببها، ومقتل بهاء الدين نوري، مجرد حادثة في سلسلة طويلة من الجرائم وعمليات القتل الجماعي، واقتحام القرى وتخريبها لتلك الميليشيات". 

وتابع الناصر عبد الله: "حميدتي يمتلك وحدات خاصة وأجهزة مخابرات، ومقار احتجاز سرية، تماما كما كان يفعل الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر، وانتهى الحال آنذاك بتدمير ألمانيا وسحق شعبها، فهل يقف شعب السودان متفرجا حتى نصل إلى تلك المراحل من خلال ثورة مدمرة أو حرب أهلية؟".

وذكر: أنه "لو أرادت الدولة السودانية إنقاذ نفسها مستقبلا يجب حل تلك القوات تماما، وإعادة هيكلتها إما بالانخراط داخل قوات الجيش ودمجها بها، أو خضوعها لرقابة كاملة من أجهزة الدولة وتحديد مهامها، أما الوضع الضبابي القائم فلا يمكن أن يمر دون حدوث أزمات، وسيستمر القتل والموت".