إحالات للتقاعد.. لماذا يحجّم النظام السوداني جهاز المخابرات العامة؟

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"ضعف من بعد قوة"، هذا ما ينطبق على جهاز المخابرات العامة السوداني، الذي يدخل في طور إعادة هيكلة مستمرة، منذ الإطاحة بالرئيس المعزول "عمر البشير" في أبريل/نيسان 2019.

فمنذ ذلك الوقت، تحاول السلطة الجديدة التي تمثلت في المجلس العسكري، ثم المجلس السيادي والحكومة الانتقالية، حلحلة ذلك الجهاز الذي كان يعد واحدا من الأذرع الأمنية النافذة للسلطة السودانية البائدة. 

وفي 11 ديسمبر/كانون الأول 2020، جاء خبر الإطاحة بـ 28 من كبار الضباط داخل الجهاز، ليذكّر بمجموعة الصدمات والصدامات التي حلت بتلك المؤسسة، خاصة حل هيئة العمليات التي كانت بمثابة الذراع الأمني للمخابرات، وواحدة من أبرز وجوه قوتها.

فإلى أي مدى ستصل عمليات التغيير المستمرة في بنية جهاز المخابرات العامة السودانية؟ وكيف تؤثر تلك العمليات على نفوذها؟ ومن الذي يمكن أن يملأ الفراغ؟

الإحالات الأخيرة 

في واحدة من أكبر عمليات الإحالة للتقاعد داخل جهاز المخابرات العامة السوداني منذ الإطاحة بالرئيس المعزول "عمر البشير"، شهد السودان إحالة 28 من كبار ضباط المخابرات، من بينهم اثنان برتبة لواء ومدير ولاية شمال دارفور، ومدير الجهاز السابق بولاية جنوب كردفان.

وذكرت وسائل الإعلام الرسمية السودانية أن الكشف شمل إحالة ضابطين برتبة عقيد و6 مقدمين و4 رواد (رائد)، وعدد من الضباط برتبة النقيب. كما كشفت عن إحالة واسعة، وتحديدا في أوساط الدفعة 42 الأخيرة التي التحقت بالجهاز.

وأكدت الإعلامية السودانية "داليا الطاهر"، عبر حسابها بموقع تويتر أن الضباط المقالين كانوا من المحسوبين على المدير الأسبق، لجهاز المخابرات العامة "صلاح قوش".

ويذكر أنه بعد سقوط البشير، والقبض على معظم قيادات النظام الحاكم، ظل الفريق أول "مهندس صلاح عبد الله قوش" مختفيا، وسط أحاديث تم تداولها عن مغادرته البلاد.

وفي 20 فبراير/شباط 2020، أصدرت شرطة "الإنتربول الدولية" نشرة للقبض على قوش، فيما أصدرت نيابة الثراء الحرام والمشبوه في السودان، أمرا بالقبض عليه، واعتبرته متهما هاربا، وأمر النائب العام السوداني، مولانا تاج السر الحبر، بسرعة ضبطه.

بعدها تحدثت وسائل إعلام سودانية عن زيارة مفاجئة قام بها قوش إلى العاصمة الخرطوم، التقى فيها شخصيات تابعة لحزب البشير، وأيضا مقر وزارة الدفاع السودانية. 

ويمثل لغز "صلاح قوش" حالة قلق عارمة داخل المنظومة الحاكمة، وتحديدا الحكومة السودانية بقيادة "حمدوك"، في ظل عجزها عن القبض عليه وملاحقته، وفي الوقت ذاته يحاولون تقويض نفوذه عن طريق ضربات محكمة لجهاز المخابرات العامة، كما حدث في حل هيئة العمليات. 

كسر الشوكة 

عندما استهدف المجلس السيادي السوداني إحداث نظام هيكلة جديد داخل جهاز المخابرات العامة، وجه ضربة محكمة مع نزع الجناح العسكري للمخابرات، بحل قوات هيئة العمليات، وصبغها بلباس جديد يقوم على جمع المعلومات وتحليلها فقط، دون أن يكون لها أي بعد أمني أو حركي، كما كان في السابق.

وهو الواقع الذي لم يتم تداركه بسهولة، ففي 14 يناير/كانون الثاني 2020، شهدت الخرطوم وقائع اشتباكات عنيفة، وإطلاق نار كثيف، وقوات أمنية تغلق طرقات رئيسة، وسقوط قتلى وجرحى، في قاعدتين تابعتين لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، إحداهما في منطقة كافوري بالعاصمة، والأخرى في ضاحية الرياض شرقي العاصمة.

وسرعان ما تبين، أن تلك الأحداث، وراءها عناصر من قوات هيئة العمليات، الجناح المسلح لجهاز المخابرات، رافضة لخطة إعادة هيكلة الجهاز، الذي يقدّر عدد أفراد هيئة العمليات فيه بـ 13 ألف عنصر، منهم قرابة 7 آلاف في ولاية الخرطوم فقط.

وبعد يوم واحد، أي في 15 يناير/كانون الثاني 2020، ظهر شبح "صلاح قوش" في الأحداث، عندما اتهمه نائب رئيس المجلس السيادي في السودان وقائد قوات التدخل السريع، "محمد حمدان دقلو" (حميدتي)، بالوقوف وراء الأحداث التي وصفها بأنها تمرد. 

وشدد "حميدتي" على أن قوش "متورط في تمرد هيئة العمليات، ولديه ضباط في الخدمة وخارج الخدمة للانقلاب على الوضع".

وقالت الحكومة السودانية: إن "القوات المسلحة أخمدت تمردا لوحدات من هيئة العمليات في جهاز الأمن والمخابرات الوطني".

بعد تلك الحادثة المفصلية داخل بنية جهاز المخابرات العامة السوداني، برز السؤال عن طبيعة الدور القادم لذلك الجهاز، وهل يمكن لأي جهة أن تحل محله، خاصة مع التاريخ الطويل من السيطرة والتوغل في معظم مفاصل الدولة السودانية. 

عهود القوة 

تظهر مدى قوة وسيطرة جهاز المخابرات العامة منذ تأسيسه في عام 2004، عندما عهد "عمر البشير"، إلى رجله المقرب اللواء "قوش"، بتأسيس جهاز المخابرات العامة، من خلال توحيد جهازي الأمن الوطني، والمخابرات.

أعطاه "البشير" وقتها صلاحيات واسعة تتجاوز جمع المعلومات، وإعطاء التقارير للأجهزة والمؤسسات، إلى أن يكون كيانا محكما واسع الصلاحية، بمثابة الحارس الأساسي للنظام، وقاعدة درعه الأمني الواقي. 

وذلك من خلال امتلاكه لجهاز شرطة سري، تتوغل عناصره في مفاصل الدولة، بالإضافة إلى وكلاء وعملاء يقومون بعمليات داخل وخارج الحدود، وتحاط مهامه بسياج محكم من السرية.

ومع ولادة الجهاز بهيئته الجديدة، أصبح "قوش" رئيسه لمدة 5 سنوات، ونجح في إضعاف خصوم النظام، خاصة حزب غريمه حسن الترابي، وكشفه للعديد من المخططات المحيطة بقصر الحكم.

الدور الأبرز لجهاز المخابرات العامة، ذكرته صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في تقرير لها عام 2005، عندما أوردت أن المخابرات السودانية بقيادة قوش، وفرت لجهاز المخابرات الأميركية "سي.أي.أيه" معلومات غاية في الأهمية، خاصة تلك المتعلقة بزوار "الخرطوم" في التسعينيات.

كما تعهد بمحاربة ط"تنظيم القاعدة" وتوفير معلومات عن أنشطته المتشابكة بين العراق والسودان، وهو ما أكده المستشار السابق في البيت الأبيض "جون برنبيرغ"، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق، بيل كلينتون: "نحن نعرف أن قوش هو المرافق اللصيق لأسامة بن لادن خلال وجوده في الخرطوم منذ 1990".

وظهرت مدى قوة وأسبقية جهاز المخابرات العامة السوداني، عن بقية الأجهزة الأمنية، عندما نجح في التصدي للمحاولة الانقلابية الأشهر لحركة العدل والمساواة المتمردة في دارفور، في 10 مايو/أيار 2008، بعد أن استطاعت الوصول إلى مدينة "أم درمان" المركزية داخل العاصمة السودانية.

وقد فشل الجيش السوداني في رصد قوافل السيارات العسكرية للحركة التي انطلقت من الحدود السودانية التشادية، وتجاوزت صحاري غرب البلاد حتى "أم درمان" وسيطرت على بعض المواقع.

بيد أن قوات الأمن تمكنت من مواجهتها وهزيمتها، فيما يعرف بعملية "الذراع الطويل"، وقد استخدم جهاز المخابرات والأمن أساليب غاية في العنف طالت المدنيين لقمع الحركات المسلحة في دارفور بعد ذلك، ونفذ حملات اعتقال موسعة واغتيالات وتصفيات جسدية، وأصدر "قوش" قرارا مباشرا باستبعاد وإخراج كل المنظمات الحقوقية العاملة في إقليم دارفور.

ملء الفراغات 

الناشط السياسي السوداني "كمال بخيت"، يرى أن "الأزمة الحقيقية في البلاد ليست في المسميات، وطبيعة عمل المؤسسات، بل فيما هو أبعد من ذلك، في السلطة ذاتها، أو المتلبسين بها من الحكام وأتباعهم".

وقال في حديث لـ"الاستقلال": "نحن نعلم جميعا أن هناك معركة بين الكيزان (مصطلح يطلق على أتباع النظام القديم في السودان) وبين الحكومة الجديدة والمجلس العسكري، وبالتالي فإعادة تنظيم وهيكلة جهاز المخابرات الذي كان بلا مواربة أحد أدوات البشير، هو جزء من تلك المعركة".

ومن هنا يعتقد أن هناك من يسعى للسيطرة على جهاز المخابرات، وإعادة هيكلته، لا تغيير أسلوبه وطبيعته القمعية. 

وأضاف الناشط: "اعتقلت عام 1992، مع آخرين معارضين، وأخذت إلى بيت أشباح (ظاهرة لأماكن غير معلومة يتم احتجاز معارضين فيها خلال عهد البشير)، وتم تعذيبي واستجوابي ليقولوا لي: إما أن تعلن انحيازك لنظام الإنقاذ أو تصمت أو سنحاكمك محاكمة ميدانية يعني إعداما أو مؤبدا في تلك الفترة، وأنا أخبرتهم حينها أن تجربتهم مصيرها الفشل والإجهاض" 

وتساءل: "هل هذا معناه أن المخابرات هي المسؤولة؟، لم يكن هناك مخابرات بالمعنى الحالي، ولم يكن أسس الجهاز بشكله الجديد الذي أقامه صلاح قوش، ومع ذلك وجد القمع والظلم، والآن هل بإعادة الهيكلة والإطاحة بالرموز السابقة، سوف تزول المشكلات، هذا غير حقيقي".

وأضاف: "هناك من يملأ الفراغ، ويؤسس نظاما كاملا موازيا، وانظر إلى قوات الدعم السريع، تمتلك جهاز مخابرات على أعلى مستوى، مجهز بأجهزة حديثة، وقوات مسلحة، وسجون سرية، فعندئذ أنت لا تقوّم مؤسسة من مؤسسات السلطة، بل تستبدلها بأخرى أشد خطرا منها".

وعند قيام حكومة ديمقراطية حقيقية في السودان، لن تستطع التعامل مع تلك الحالة، خاصة مع إضعاف وكسر الأجهزة الأمنية بهذه الطريقة غير المنظمة، وفق رأيه.