غزة.. مدينة باسلة عصي احتلالها عبر الزمن

محمد ثابت | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

طوال عقود كان قطاع غزة مصدر إزعاج للاحتلال، فقد تمنى رئيس وزراء إسرائيل السابق إسحاق رابين (1 مارس 1922 - 4 نوفمبر 1995) شخصيا أن يصحو من نومه ذات صباح ليجد غزة قد غرقت في البحر.

ترتبط غزة في واقع وذاكرة المناضلين في العالم بالمقاومة المستمرة لمحاولة الاحتلال تحويل وتغيير وجهها الأصيل، فلا تكاد المدينة العريقة تغيب عن أذهان الشرفاء، فهي تتلألأ وتتوهج بتاريخ من الرفعة والرقي منذ حطت فيها قوافل الكنعانيين حتى اليوم.

لا يعرف البعض أن غزة، عاصرت غزاة مختلفين منذ فجر التاريخ، وأنها قاومتهم بجسارة ممتدة حتى اليوم، إذ تصر المدينة الباسلة على استمرار مسيرات العودة، حتى السياج الفاصل بين القطاع وإسرئيل، في الذكرى السنوية الأولى لها، السبت 30 مارس/آذار 2019، متعهدة بسلميتها، رغم القصف الإسرائيلي وحصار القطاع(1).

غزة مدينة قديمة قدم التاريخ، منذ 5 آلاف عام تمتد في عمقه جذورها، ازدهرت ونبضت بالحضارة مع مقاومة الغزاة حتى أمّها وقدم أبوابها الطلبة من مصر ودول اليونان.

لماذا سميت غزة؟

"غزة لم تكن في يوم من أيام التاريخ شيئا مهملاً أو نافلاً، بل كانت على الدوام، وأبداً، ذات موقع إستراتيجي وأهمية قصوى وحصناً من حصون المجد".

هكذا يلخص جمعة أحمد قاجه، مؤلف كتاب "غزة خمسة آلاف عام حضور وحضارة"، تاريخ غزة، مشيرا لأهميتها وموقعها بين مصر وبلاد الشام، وبين قارتي آسيا وأفريقيا، وكونها ركن فلسطين وزاويتها الغربية، ونقطة التماس بين بلاد الشام والبحر المتوسط، وهي المدينة الأكثر تقدما في الغرب نحو البحر، بخاصة مع وقوعها في زاوية بين شبه جزيرة سيناء وصحراء النقب والعمق الفلسطيني.

موقعها المتميز عانت غزة منذ حطت فيها قوافل الكنعانيين، الآشوريون، الفرس، الفراعنة، الهكسوس وهلم جرا، فوقفت المدينة صخرة عصية ضد جميع الذين حاولوا دخولها بالقوة ولأهداف غير إنسانية، وبقدر معاناة المدينة بقدر نجاحها في دحر أعدائها في النهاية. ولكن ماذا عن سبب تسمية غزة بهذا الاسم؟

يوضح الدكتور غسان وشاح، رئيس قسم التاريخ في الجامعة الإسلامية بغزة، أن المدينة تمتد تاريخيا إلى أكثر من 5 آلاف عام، وذلك لهجرة الكنعانيين من شبه الجزيرة العربية إلى فلسطين، ليُنشؤوا أكثر من 200 مدينة على أرض فلسطين، منها "يبوس" أو القدس، بيسان، الخضيرة(3).

غزة الكنوز

أما ياقوت الحموي في "معجم البلدان" فيقول في تفسير كلمة غزة أن العرب تقول: "قد غز فلان بفلان، واغتز به إذا اختصه من بين أصحابه، ومعنى ذلك أن الذين بنوا غزة قد اختصوا هذا الموقع لبنائها من بين المواقع الأخرى الواقعة على شاطئ البحر المتوسط.

أما سبب تسميتها غزة فلم يعرف على وجه التحديد، وتباينت آراء المؤرخين واختلفت تفسيراتهم – كعادتهم بالنسبة لكثير من المدن القديمة -، فهناك من يقول إنها مشتقة من المنعة والقوة، وهناك من يقول إن معناها (الثروة)، وآخرون يرون بأنها تعني (المميزة) أو (المختصة) عن غيرها".

أي أن جميع التفسيرات التي يوردها الحموي لكلمة غزة، بحسب المؤرخين، تعود للقوة والتميز والثروة، أما الأرجح كما يؤكده مصطفى مراد الدباغ، في سلسلة "بلادنا فلسطين"، عام 1966، أن معنى كلمة غزة هي الكنوز.

ومع تعدد تسمية المدينة عبر التاريخ، أطلق العرب عليها اسم "غزة هاشم" نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، جد الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي توفاه الله فيها وهو في طريق عودته بتجارته إلى الحجاز.

ظهرت غزة ككيان منفصل عن فلسطين بعد الاحتلال منذ 1948، ثم تمام سيطرته على الأراضي الفلسطينية في 1967م عزل المدينة عن بقية أراضي ومدن النقب، مما أبرزها ككيان خاص منفصل عن بقية فلسطين، ومحاصر من الجهات الأربعة.

وبخضوع المدينة للإدارة المصرية منذ 1948 حتى 1967م التصقت كلمة قطاع بالمدينة، كعادة اسمية مصرية تطلق على المناطق السكنية، واستغل الاحتلال الإسرائيلي التسمية لتحقيق غايات سياسية خاصة به، تفصل غزة عن بقية القضية الفلسطينية الواحدة.

مقر الفرعون

إلا أن بعض المؤرخين يذهبون إلى أن العرب الكنعانيين هم بناة غزة ومنشئيها في الألفية الثالثة قبل الميلاد، فيما يذهب البعض الآخر إلى أن بُناتها هم العرب المُعينيين "Minaeons"، أو الذين سكنوا الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وفيما يقول بعض كُتاب التاريخ أن المعينيون وضعوا حجر أساسها، يذهب آخرون إلى أنهم ساعدوا في نموها وازدهارها.

ويذهب بعض كُتاب التاريخ إلى أن المعينيين سكنوا غزة مثلهم مثل: السبئيين، العويين، الكفتاريين، العناقيين، المديانيين، الآدميين، والعموريين، إلا أن الكنعانيين العرب هم الذين حافظوا على وجودها.

وكانت لغزة مكانة خاصة لدى الفراعنة من قدماء المصريين، إذ فتحوها واهتموا بها، وانطلقوا منها لفتح الشام، واتخذها تحتمس قاعدة لهجومه، لتبقى قاعدة للجيش المصري في أيام الحرب، وفي أيام السلم المقر الرئيسي لممثل الحاكم "فرعون" في بلاد الشام.

الإسكندر المقدوني

لكن إحدى المحطات المهمة في تاريخ غزة هي الفتح الفلسطيني لها، ضمن المدن الخمس المشهورة: غزة، عسقلان، أسدود، عاقر، جت "غات"، ويقول الباحث والمحلل السياسي الفلسطيني الدكتور ناصر الصوير إن هذا الفتح كان منذ أقدم الأزمنة، وأن الفلسطينيين حاربوا بشدة منازعيهم في السيطرة على المدينة.

منى الإسكندر المقدوني نفسه وحلم بالسيطرة على غزة، فواجهته وتصدت له، وكاد يلقى مصرعه عند أبوابها، مما دفعه إلى أن يحاصرها حصارا شديدا، ونجح بعد جهد في فتحها عام 332 قبل الميلاد، فانتقم من أهلها بارتكاب الفظائع والقتل.

لكن بعد موت الإسكندر نشبت حروب شديدة بين حلفائه وبطليموس حاكم مصر وانتهى الأمر باستقرار الأخير في غزة وفلسطين، إلا أن هذا لم يمنع أن غزة استمرت في حروب مستمرة بين البطالسة (البطالمة) وغيرهم حتى صارت السيادة فيها للدولة السلوقية في سوريا.

أما في عهد اليونانيين فظلت غزة مستقلة يحميها سور، وكانت تسمى آنذاك "غزة المقدسة"، والمضيئة، والعظيمة، لكن الرومان نجحوا في احتلالها تحت قيادة إسكندر جانيوس، رغم صمود المدينة ومقاومتها الشديدة، مما جعل جانيوس في عام 103 قبل الميلاد يثأر من المدينة ويخربها، وكانت المدينة في عصر الرومان تدار مباشرة من إمبراطورهم بواسطة مندوب سامٍ، وأقام الأخيرون فيها مصنعا لصك العملة، وسميت لديهم بالمدينة الشريفة أو العتيّة.

وفي عهد اليونانيين ظلت غزة مدينة مستقلة يحيط بها سور، وأصبحت تسمى (غزة المقدسة)، و(غزة المضيئة)، و(غزة العظيمة).

ولما انتشرت المسيحية كان المتدينون بها يعانون من الظلم والاضطهاد الشديدين، فتُوفى من مسيحي غزة الأسقف "سيلفانوس" عام 285م، مع 39 آخرين، وذلك في عهد الإمبراطور "ديوكلتيان"، حكم من 284 حتى 305م. واستطاعت غزة رغم ذلك في نهاية القرن الخامس الميلادي التقدم في كثير من الصناعات، بخاصة الفخار.

الفتح الإسلامي

قاد الصحابي الجليل عمرو بن العاص جيوش المسلمين، وحقق الله على يديه فتح غزة في عام 635م، عقب موقعة أجنادين ضد الرومان، وكان الفتح الإسلامي بداية لعهد من الحرية شهدته المدينة، حيث تحول أهلها إلى الإسلام طواعية، وحلت اللغة العربية محل اللغات التي كانت سائدة في المدينة(6).

وبعد تمكن الصليبيين من الاستيلاء على بيت المقدس، بعد حملتهم الصليبية الأولى عام 492 هـ ـ 1099م تمادوا حتى استطاعوا إسقاط غزة في أيديهم في رجب 502هـ ـ 1101م، حيث قتلوا عددا من أهلها من أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية، ودمروا المدينة، وفي عهدهم فقدت المدينة أهميتها التجارية وحلت محلها  عسقلان، لكن بقيت لغزة أهمية حربية لبقاء قلعة "الداروم أو دير البلح في جنوبها".

كان من أبطال غزة في تلك الفترة الأمير "شجاع الدين عثمان بن علكان الكردي"، الذي استشهد في 1187م، بإحدى المناوشات بين المسلمين والصليبيين، ويتردد أن تسمية حي الشجاعية في غزة تعود إليه.

عادت غزة لموقعها من الوطن الإسلامي عام 1187م، بعد معركة حطين الأشهر بقيادة البطل صلاح الدين الأيوبي، لكن المغول استولوا عليها عام 1260م، فوجّه المظفر قطز في نهاية العام جيشا كبيرا بقيادة ركن الدين بيبرس، ونجح الأخير في التصدي للمغول، وتحررت المدينة عقب انتصار عين جالوت في سبتمبر/أيلول من نفس العام بقيادة قطز.

واستمرت غزة في أداء دورها الإستراتيجي التجاري الثقافي في العهد المملوكي، ودارت على أرضها معركة غزة الثانية التي هزم الصليبيون فيها إلى غير رجعة في 642 هـ ـ 1244م.

ومع هزيمة المماليك في مرج دابق عام 1516م، خضعت غزة للخلافة العثمانية لتظل تحت حكمهم ومنعتهم وقوتهم من 1517م إلى 1917م.

العهد العثماني

وفي أثناء فترة سيطرة العثمانيين على غزة هاجمها نابليون بونابرت واستولى عليها في 24 من فبراير/شباط 1799م، لكنه اضطر للانسحاب منها كما انسحب من جميع المدن الشامية بسبب التعب وإصابة جنوده بالأمراض، لاحقا اضطر محمد علي لسحب ابنه إبراهيم من غزة أيضا بعد دخوله لها دون حرب، وكان الانسحاب في 19 من فبراير/شباط 1841م.

مع الحرب العالمية الأولى حاول البريطانيون احتلال غزة، ورغم فشلهم في معركتين استطاع الجنرال اللورد الليبني الاستيلاء على المدينة في 7 من أكتوبر/تشرين الأول 1917م، ليقول كلمته الشهيرة: " لقد كانت غزة منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا بوابة الفاتحين".

منذ التاريخ السابق استمرت المدينة الباسلة تحت الاحتلال البريطاني أو ما عرف بالانتداب حتى 15 من مايو/آيار 1948م.

بانتهاء الانتداب البريطاني آلت المدينة لحكم الإدارة المصرية حتى يونيو/حزيران 1967م، لتحتلها الدولة الإسرائيلية حتى أقيمت السلطة الفلسطينية عبر اتفاق أوسلو في عام 1993م.

عقدة شارون

"أمنيا وعسكريا لم يكن بوسع رئيس وزراء إسرائيل أرييل شارون الراحل (26 فبراير 1928 - 11 يناير 2014)، أن يدخل قطاع غزة ويحتله احتلالاً كاملاً لأيام أو أسابيع كما حصل مع المدن الأخرى في الضفة من دون أن ينطوي ذلك على خسائر كبيرة".

هذا ما أكده الكاتب والمحلل الفلسطيني ياسر الزعاترة في مقاله بموقع الجزيرة نت تحت عنوان "شارون والخروج من غزة.. الأسباب والرد الفلسطيني" مفسرا سبب انسحاب شارون من القطاع في 2005، وتفكيك 17 مستوطنة هي كل المستوطنات المزروعة هناك.

الزعاترة أضاف لأسباب الانسحاب بـ"الخوف من تكرار سيناريو مخيم جنين على نحو أوسع، نظراً لكثرة المقاتلين في قطاع غزة من جهة، ونظراً لطبيعة الاكتظاظ السكاني الرهيب والذي قد يحيل الاجتياح إلى مجزرة كبيرة سيكون لها ثمنها السياسي الباهظ".

مضيفا: "لعل ذلك هو ما يفسر كيف أن اتفاق أوسلو قد سمي في البداية غزة/ أريحا أولاً، الأمر الذي يفسر عبء القطاع من حيث المبدأ، فيما كان العبء قد زاد عقب بدء حماس ومعها الجهاد حرب عصابات ضد قوات الاحتلال مطلع العام 1990".

وتابع: "أما الاحتلال الكامل وبلا حساب فسيكون إيذاناً بانتهاء السلطة التي بقيت سليمة هناك، وعندما تنتهي السلطة سيدفع الاحتلال أثمانا باهظة سياسيا واقتصاديا وأمنيا، خلافا لوضع الاحتلال الديلوكس الذي عاشه شارون خلال أكثر من عامين وتحديداً منذ أبريل/ نيسان 2002".

محطات سريعة

ـ تمتد غزة جنوب غرب فلسطين في هيئة شريط ضيق في المنطقة الجنوبية، وتشكل قرابة 1.33% من مساحة فلسطين.
ـ يبلغ طول غزة 41 كلم، وتمتد على مساحة 360 كلم2، وتحدها إسرائيل شمالا وشرقا، والبحر المتوسط غربا، ومصر من الجنوب الغربي.
ـ تضم غزة 44 تجمعا سكانيا أهمها غزة ورفح وخان يونس وبني سهيلا وخزاعة وعبسان الكبيرة وعبسان الجديدة ودير البلح وبيت لاهيا وبيت حانون وجباليا.
ـ تعتبر غزة من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، ويبلغ عدد سكانها 1.76 ملايين، وفق تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لسنة 2014 مبنية على نتائج التعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت 2007م، وتبلغ كثافتها 26 ألف ساكن في كم، وتصل لقرابة الضعف في المخيمات.
ـ شن الاحتلال 3 حروب على غزة خلال فترة الحصار، في الأعوام 2008 و2012 و2014م حيث دمرت طرفا من البنية التحتية الصعب تعويضها؛ نظرا لاستمرار التضييق الإسرائيلي حتى الآن.
ـ فرضت إسرائيل عام 2006 حصاراً بريّاً وجويّاً وبحريّاً على غزة، فازدادت معاناة مواطني غزة البالغ عددهم 1.8 مليون فلسطيني، إلا أن أهلها مصرون على المقاومة والبحث عن طرق بديلة لاستمرار الحياة.