مبادرة إطلاق حرية تأسيس القنوات.. لماذا فجرت خلافا حادا في تونس؟

زياد المزغني | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

كعادته، شهد مجلس نواب الشعب (البرلمان) التونسي يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2020، جلسة صاخبة تخللها تلاسن بين نواب ومقاطعة نواب آخرين، كان عنوانها هذه المرة، مناقشة إدخال تعديلات على المرسوم رقم 116 لسنة 2011، المخصص لتنظيم قطاع الإعلام في البلاد.

المبادرة تقدمت بها كتلة ائتلاف الكرامة بالبرلمان، بتاريخ 4 مايو/ أيار 2020، بهدف تنقيح بعض فصول المرسوم المنظم لحرية الاتصال السمعي والبصري.

المبادرة أثارت موجة من الجدل بين أصحابها والكتل المساندة لها وهي كتلة حركة النهضة وكتلة حزب قلب تونس الذي يتزعمه المرشح الرئاسي السابق نبيل القروي ومالك قناة نسمة، وبين الجهات الرافضة لها متمثلة في نقابة الصحفيين وهيئة الاتصال السمعي والبصري مدعومان بعدد كبير من منظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة.

الهياكل المهنية الممثلة لقطاع الصحفيين وعلى رأسها النقابة الوطنية للصحفيين قادت حملة واسعة لرفض هذه التعديلات تحت شعار "ما يتعداش" أي لن يمر في إشارة لمبادرة ائتلاف الكرامة.

هذا الجدل يتوقع أن يتواصل لأسابيع بعد تأجيل جلسة البرلمان للمصادقة على التوقيع وقد لا يتوقف حتى على المصادقة، ما ينبئ بتدافع محتمل بين الصحفيين وعدد من وسائل الإعلام وبين الائتلاف البرلماني الحالي في مشهد قد يعيد لذاكرة التونسيين ما حصل في عامي 2012 في فترة حكم الترويكا (تحالف برلماني ضم حركة النهضة وحزب المؤتمر برئاسة المنصف المرزوقي وحزب التكتل).

فحوى التعديل

في 8 يوليو/تموز 2020، صادقت لجنة الحريات والحقوق بالبرلمان على مقترح تقدمت به كتلة ائتلاف الكرامة التي يترأسها النائب سيف الدين مخلوف بتعديل وإضافة عدد من الفصول على المرسوم عدد 116 لسنة 2011.

هذا المرسوم تم سنه في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، خلال الفترة الانتقالية الأولى بعد سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، حيث تم اقتراحه من قبل هيئة الإصلاح السياسي وحماية الثورة التي ترأسها أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور ووقع على المرسوم الرئيس المؤقت حينها فؤاد المبزع.

سمح المرسوم بتعيين هيئة الاتصال السمعي البصري التي تعرف اختصارا بـ " الهايكا"، والتي جاءت بديلا عن وزارة الإعلام التي كانت محل انتقاد واسع في ظل النظام البائد.

المبادرة الجديدة مكونة من 3 فصول، تتعلق بتركيبة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري الحالية وتجديدها، حيث ينص التعديل على الفصل السابع من المرسوم بانتخاب أعضاء الهيئة وعددهم 9 أعضاء من قبل مجلس نواب الشعب بغالبية أعضائه، بدل تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان وممثلين عن النقابات المهنية.

كما نص مقترح التعديل على الفصل الـ 15 على إلغاء سلطة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في منح تراخيص القنوات التلفزيونية، وأيضا نص مقترح التعديل على الفصل الـ 18 على إقرار مبدأ الموافقة على تأسيس الوسيلة الإعلامية بمجرد الإخطار فقط.

رقابة بعدية

ويرى أصحاب التعديل أن مقترحهم سيفتح أبواب التشغيل ويفسح المجال لمزيد من التعددية في المشهد الإعلامي بتونس، كما سيسمح بفتح المجال أمام المستثمرين الأجانب في مجال الإعلام ما سيؤدي إلى خلق مواطن شغل للصحفيين والتقنيين ومختلف الفاعلين في المجال الإعلامي.

وأكد عضو البرلمان عن ائتلاف الكرامة محمد العفاس في حديثه لـ"الاستقلال" أن التعديل بالنسبة لائتلاف الكرامة "مسألة مبدئية، حيث يوجد مشهد إعلامي في تونس رديء جدا وغير متكافئ، وكذلك غير مقنن، إذ يوجد العديد من القنوات التي توجه للتونسيين وتبث من الخارج ولها مكاتب إنتاج في تونس".

برأي العفاس "المقترح الجديد لا يمكن أن يخلق الفوضى لأن الرقابة ستكون رقابة بعدية من قبل هيئة الاتصال السمعي البصري، والحديث عن أن مقترح التعديل سيفتح المجال أمام قنوات إباحية أو تكفيرية أو داعشية هو مجرد ترهات لا تستند إلى أي أساس، لأن أيا من هذه المخالفات سيحاسب أصحابها وفق القانون".

وأضاف العفاس: "رافضو المقترح أرادوا تشويه صورة البرلمان الذي يرغب في تمرير قانون نعتبره ثوريا، وسيغير السلطة الرابعة نحو الأفضل، حيث سيصبح هناك تنوع في المشهد الإعلامي وتنافس بين وسائل الإعلام، ولن نشاهد حينها قرارا بمقاطعة فصيل سياسي بعينه (في إشارة لدعوة نقابة الصحفيين بمقاطعة ائتلاف الكرامة)".

عضو البرلمان عن ائتلاف الكرامة يرى أن "هذه الهياكل المهنية لا تمثل بالفعل الصحفيين، حيث اتصل بنا عدد منهم وأكدوا أنهم فقط تعرضوا لضغط من قبل النقابة من أجل تنفيذ قرار مقاطعة ائتلاف الكرامة، فهذا القرار بدوافع أيديولوجية وليس دفاعا عن الصحفيين الذين يعيشون جملة من المشاكل في المؤسسات الإعلامية الحالية".

وختم العفاس حديثه بالقول: "في المقابل لم نجد حججا جدية مقنعة ذات علاقة بالتعديلات، حيث لم نستمع من الرافضين إلا قولهم بأن التعديلات ستضرب حرية الإعلام، وهي اتهامات لا تخدم إلا تحالفات ولوبيات".

الرافضون

بعد المصادقة مباشرة على التعديلات داخل اللجنة البرلمانية في شهر أيار/مايو 2020، جاءت أولى المواقف الرافضة لتعديل المرسوم 116 من قبل الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري.

الهيئة اعتبرت أن اقتصار هذه المبادرة على تنقيح بعض فصول المرسوم هو تأكيد لنوازع المماطلة من أحكام دستور 2014، الذي نص على ضرورة سن القوانين الأساسية تعويضا للمراسيم واستكمال بناء المؤسسات الضامنة لعلوية القانون، وعلى رأسها المحكمة الدستورية والهيئات الدستورية المستقلة.

وأضافت في بيان: أن "تزامن هذه المبادرة مع التصريحات الرسمية للسلطات العمومية بوجوب تنفيذ القوانين على القنوات التلفزيونية والإذاعية الرافضة لاحترام قراراتها، يؤكد أن المبادرة تسعى لبلوغ أهداف تتنافى والمصلحة العامة، وتتعارض بشكل صريح مع واجبات النائب والتزاماته الدستورية، خاصة وأنها تصب في خدمة مصالح غير مشروعة وغير شرعية لفائدة جهات سياسية". 

ومع تحديد مكتب مجلس نواب الشعب لموعد الجلسة العامة للتصويت على هذه التعديلات، تقدمت 46 منظمة من منظمات المجتمع المدني التونسي في مقدمتهم نقابة الصحفيين والاتحاد العام للشغل وهيئة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان برسالة مفتوحة لأعضاء مجلس نواب الشعب.

الرسالة دعت النواب "إلى تحمل مسؤولياتهم أمام الشعب الذي انتخبهم بعدم التصويت على هذه المبادرة المتعارضة مع الدستور والمخالفة للمعاهدات الدولية المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية والتسريع بالمصادقة على قانون أساسي لحرية الاتصال السمعي وفقا لمقتضيات الدستور".

فيتو الرئيس

ورغم إعلان حركة النهضة صاحبة الكتلة البرلمانية الأكبر تأييدها لهذه التعديلات في انسجام مع التحالف البرلماني الذي تنتمي إليه، خرج نائب النهضة سمير ديلو على أمواج إذاعة موزاييك معلنا رفضه لهذه التعديلات يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 2020.

ديلو قال في تصريحات للإذاعة المحلية: إن لديه مؤاخذات بشأن هذه المبادرة على مستوى الدستورية والقانونية والنجاعة، وفي إطار جواب على سؤال رئيسي: "أي إعلام نريد؟ وأي تدخل تشريعي نريد؟" .

وأضاف عضو البرلمان أن ما يهمه بدرجة أولى هو ما يخدم مصلحة الانتقال الديمقراطي في تونس، متسائلا: "هل يخدمها إعلام حر مع ضوابط، أم إعلام يفتح الباب للفساد السياسي والفساد المالي؟".

كما لفت ديلو، في ذات الصدد، إلى أن هذه المبادرة، في دعوتها إلى إلغاء شرط حصول المؤسسات الإذاعية والتلفزيونية والفضائية على ترخيص مسبق، هو أمر يثير الريبة والخوف، على حد تعبيره.

ورغم رفع الجلسة البرلمانية دون التصويت على مقترح التعديل، إلا أن مراقبين يرون أن هذا المقترح فجّر خلافا واسعا بين ائتلاف الكرامة وحلفائه من جهة وبين القطاع الإعلامي، وهو ما قد ينذر بإعادة نفس المشاهد التي عاشتها تونس خلال سنوات حكم النهضة وحلفائها بعد أول انتخابات بعد الثورة.

كما لا تزال لدى رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورقة الفيتو على القانون، حيث يسمح له الدستور برفض التوقيع عليه وإعادته للبرلمان من أجل التصويت عليه ثانية.

سعيّد نبه يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2020، خلال لقائه بوزير الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان علي الحفصي قائلا: "من خطورة خرق أي مبادرة تشريعية لأحكام الدستور أو خضوع بعض المبادرات لحسابات ومصالح الأحزاب أو اللوبيات السياسية والإعلامية في مخالفة واضحة لنص الدستور".

البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية أكد حرص سعيّد "على ضمان حرية الإعلام وحرية التعبير والتفكير، مؤكدا دعمه للصحفيين الشرفاء وإيمانه بضرورة التعويل على آليات التعديل والتعديل الذاتي، بما يضمن تطوير المشهد السمعي البصري ويساهم في دعم التعددية والتنوع وفق الوسائل القانونية، ودون المس من الأمن القومي للبلاد".