علي عزت بيغوفيتش.. رئيس بوسني حرر فكره العقول وحقق لوطنه الاستقلال

آدم يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تتعدد المناسبات التي يتذكر فيها العرب والمسلمون الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفتيش، الشخصية المثيرة للاهتمام بتنوعها السياسي وفكرها الغزير.

كان بيغوفيتش مفكرا وفيلسوفا قبل أن يصبح سياسيا لامعا ومحاربا بارعا، استطاع بما لديه من فكر فلسفي وديني أن يحدث ثورة فكرية وحراكا عقليا، وتمكن بما لديه من مهارة ومناورة سياسية أن يأخذ ببلده نحو  التحرر والاستقلال.

لم يكن بيغوفيتش منظّرا يضع الطروحات بما ينبغي أن يكون عليه الحال، بل كان إلى جانب كونه أيقونة ثقافية وسياسية وفكرية، يقاتل في الصفوف الأولى من أجل تحرير بلده من الاستعمار الشيوعي الذي كان جاثما على صدور البوشناق المسلمين.

في واقع الأمر، لم يأخذ الرئيس البوسني حقه من التناول كشخصية ثورية وسياسية، لا من قبل الغرب ولا العرب المسلمين، ذلك أن الغرب كان يعتبره عدوا، لانتصاره لقضايا الإسلام والمسلمين، حتى أن كتبه كانت ممنوعة في فرنسا، لأنها كانت أهم الدول الغارقة في المادية والتمييز العنصري، وهما المسألتان اللتان تناولها بيغوفيتش في كتاباته.

أما العرب والمسلمون فقد غاب عنهم هذا الاسم في جملة من غاب عنهم من الأعلام والشخصيات التي أحدثت فارقا في حياة الكثيرين.

وبقي الرجل الأشهر في تاريخ الصراع السياسي والديني والفلسفي في التاريخ الحديث مغمورا لدى معظم كثير من العرب والمسلمين.

كان حق هذه الشخصية أن تتناولها الأعمال الأدبية والفكرية والدرامية في مسلسلات وأفلام تبرز محطات حياته وأهم إنتاجه الفكري ونشاطه السياسي منذ مولده في 8 أغسطس/آب 1925 وحتى وفاته في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2003، لكن ذلك لم يحصل.

قلم وبندقية

جمع بيغوفيتش بين كونه كاتبا ومقاتلا، لهذا فقد كتب عنه المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري في مقدمة كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب": "عزت بيجوفيتش الرئيس السابق للبوسنة، وقائدها السياسي وزعيمها الفكري والروحي، صاحب اجتهادات مهمة في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيبها، وهذه التركيبة، المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، هي نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية في نظامه الفلسفي".

يضيف المسيري: "أنه ليس مجتهدا وحسب، وإنما هو مجاهد أيضا، مفكر ورئيس دولة، يحلل الحضارة الغربية، ويبين النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن في علومها وفى نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه".

ولكنه في ذات الوقت يستفيد من اجتهادات المفكرين الغربيين المدافعين عن الإنسان، ولعل إيمانه بالإنسان الذي ينبع من إيمانه بالله وإدراكه لثنائية الطبيعة البشرية، هو الذي شد من أزره إلى أن كتب الله له ولشعبه النجاة، وهو الذي مكنه من أن يلعب هذا الدور المزدوج؛ دور المجاهد والمجتهد، ودور الفارس والراهب، وفق المسيري.

وأضاف: "يكاد بيغوفيتش أن يكون المجاهد المجتهد الوحيد في العالم الآن، وبلا شك، كلنا نجاهد ونجتهد، ولكن أن تكون رئيس دولة وتقف في وجه الحضارة الغربية بأسرها، فهذا لا نراه كل يوم، فهو يحمل صيغة فريدة في ذاته".

إنتاجه الفكري 

كان بيغوفيتش من أهم من تصدى لقيم الحضارة الغربية، التي تم التسويق لها عبر أفكار وأطر فلسفية مادية، ونسف، بمنهجية سباقة، الروافع والقوائم الحسية والمادية التي اعتمدت عليها تلك النظريات.

بالإضافة إلى لغته المحلية، كان يجيد عدة لغات، من بينها الألمانية والفرنسية والإنجليزية، وإلى حد ما العربية، ويعتبر الأخيرة وسيلته للاتصال بالقرآن الكريم والاطلاع على التيارات الإسلامية وتجاربها الفكرية.

ألف بيغوفيتش عدة كتب، أهمها "الإسلام بين الشرق والغرب"، و"البيان الإسلامي"، و"هروبي إلى الحرية"، و"عوائق النهضة الإسلامية"، وكتاب "سيرة ذاتية وأسئلة لا مفر منها"،  وكتاب "الأقليات الإسلامية في الدول الشيوعية".

يعد كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" من أهم إنتاجه الفكري، وقد أحدث حراكا عقليا، واعتبره البعض علامة فارقة في تاريخ الدراسات الفلسفية الإسلامية. 

يقول بيغوفيتش عن كتابه: "هذا الكتاب ليس في اللاهوت ولا مؤلفه من رجال اللاهـوت إنه على الأرجح محاولة لترجمة الإسلام إلى اللغة التي يتحدث بها الجيل الجديد ويفهمها؛ إنه كتاب يتناول عقائد الإسلام ومؤسساته وتعاليمه بقصد اكتشاف موقع الإسلام في إطار الفكر العالمي".


تناول الكتاب قضايا شديدة التعقيد، واتجاهات طالما كانت محل جدل ونقاش وصراع فكري منذ أفلاطون وحتى التاريخ الحديث، وقد قسم كتابه إلى قسمين: الأول "مقدمات: نظرات حول الدين"، ويضم 6 فصول؛ "الخلق والتطور، الثقافة والحضارة، ظاهرة الفن، الأخلاق، الثقافة والتاريخ، والدراما والطوبيا"، أو اليوتوبيا كما نسميها، كما يناقش موقف كل من الدين والإلحاد من قضية أصل الإنسان والقضايا الأخرى المتعلقة بها.

تجاوزت فصول القسم الأول القراءة التراثية للإسلام، فرد على النظريات المادية من داخل الفن والثقافة الغربية ذاتها، وفي أحد فصول هذا الكتاب رد بيغوفيتش على النظرية الداروينية عبر طرح غير تقليدي، فقد رد عليها من خلال تركيزه على الفن والأدب والظواهر الثقافية، التي رأى أنها ليست نتاج التطور، بل شأنها شأن الأخلاق والدين الذي لا يمكن تفسيرها تفسيرا ماديا.

أما القسم الثانى والذي حمل عنوان "الإسلام: الوحدة ثنائية القطب"، وتضمن عدة فصول، يتحدث فيه بيغوفيتش عن الأنبياء: موسى وعيسى ومحمد، الدين المجرد، قبول المسيح ورفضه، الطبيعة الإسلامية للقانون، ونوعين من المعتقدات الخرافية، والطريق الثالث خارج الإسلام.

مقاومة مبكرة

كانت البوسنة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 إحدى الجمهوريات الاتحادية في يوغسلافيا السابقة حتى استقلالها عام 1992، وفي تلك الفترة كان الشيوعيون يسيطرون على الحكم، لهذا فقد كان دستور دولة يوغسلافيا الاتحادية الفيدرالية الذي أعلن في يناير/كانون الثاني 1946 نسخة مشابهة للدستور السوفيتي.

وبالرغم من أن الدستور اليوغسلافي كفل حريات المعتقد، فإن السلطات الشيوعية هناك قيدت حريات المسلمين، فأغلقت المحاكم الشرعية وأغلقت الكتاتيب التي كانت تعلم القرآن والعلوم الشرعية، وتم حل جميع الجمعيات الإسلامية والثقافية والتربوية، ولم يتم الإبقاء إلا على الجمعية الإسلامية الرسمية ومدرستين إسلاميتين كانت خاضعتين لرقابة مشددة، كما جرى إغلاق المطبعة الإسلامية في سراييفو.

في تلك الأثناء كانت هناك مقاومة سرية ضد تلك الإجراءات، وكان بيغوفيتش في طليعة الشباب المقاوم لإجراءات رئيس جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية المثير للجدل "جوزيف بروز تيتو".

وانخرط بيغوفيتش ضمن منظمة "الشباب المسلمين" البوسنية التي تأسست في سراييفو، وكان حينها في مطلع العشرينيات من عمره، فحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات منذ عام 1946، ضمن مئات الشباب الذين قضوا في السجون تلك الفترة.

استمر نشاط بيغوفيتش الفكري المناوئ للسلطة الشيوعية في التصاعد، فحوكم في أبريل/نيسان 1983 مع 12 آخرين من ناشطي البوسنة؛ بسبب نشرهم مجموعة متنوعة من المبادئ الإسلامية، تم اعتبارها من قبل محكمة سراييفو جرائم مستحقة للعقاب، كونها تمثل نشاطا معاديا للقومية الوطنية.

كما أدين بسبب تأليفه كتاب "البيان الإسلامي" بتهمة تبنيه "الأصولية"، وحكم عليه بالسجن 14 عاما، فتم سجنه.

وعندما ضعفت قبضة الحزب الشيوعي على السلطة في البوسنة عام 1988، متأثرة بضعف السلطة الشيوعية في موسكو، تم الإفراج عنه من قبل المحكمة في سراييفو، وكان قد أمضى خمس سنوات في السجن. 


 
قرار الحرية

خرج بيغوفيتش من السجن في 1988، لكنه كان قد أخذ قرارا بالنضال من أجل الحرية والاستقلال، بعد أن وصل إلى قناعة بأن السلطات الشيوعية لن تسمح بتخفيف أي قيود على الحريات السياسية والدينية.

وقد أسهم تراجع المعسكر الشيوعي في موسكو باتخاذ بيغوفيتش ذلك القرار المصيري، فخاض نضالا مع الشيوعيين واليوغسلافيين والصرب، لكنه كان هذه المرة صراعا سياسيا، لا فكريا، حتى أعلنت البوسنة، استقلالها في 1 مارس/آذار 1992.

تم اختيار بيغوفيتش كأول رئيس بعد الاستقلال، إلا أنه وجد نفسه في المعركة لا في القصر الرئاسي، فقد قررت القوات الصربية المدعومة من يوغسلافيا شن حرب على البوشناق (العرقية المسلمة في البوسنة)، بسبب إعلانها ما اعتبرته انفصالا.

فقاوم بيغوفيتش أشرس حرب وخاض صراعا كان الأكثر كلفة على البشرية منذ الحرب العالمية الثانية وقد استمرت من 1 مارس/آذار 1992 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني 1995.

وبالرغم من إعلان الأمم المتحدة اعترافها باستقلال البوسنة في 22 مايو/أيار 1992، واعتراف عدد من الدول الرأسمالية بالبوسنة كدولة مستقلة، إلا أنها لم تقم بحمايتها، وتركتها فريسة للقوات الصربية، فارتكب الصرب فيها أشرس المذابح.

من بينها مذبحة سربرنيتشا الشهيرة والأكثر مأساوية في العالم، حيث حفرت المقابر الجماعية السرية واغتصبت النساء، وهجر فيها المسلمون البوشناق، وارتكبت جرائم حرب وانتهاكات ضد الإنسانية حتى وصل قتلى الحرب في تلك السنوات الثلاث لأكثر من 100 ألف شخص.

كان الرئيس البوسني على رأس تلك المعارك، يخوض نضالا ويبلي حسنا، وبعد انتهاء الحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، بموجب اتفاقية دايتون للسلام، غادر بيغوفيتش منصبه الرئاسي في 5 أكتوبر/تشرين الأول 1996، أي بعد حوالي سنة من انتهاء الحرب.

وتوفي الرئيس الفيلسوف -استثناء القرن العشرين- وقائد الأمة البوسنية عام 2003 بمرض في القلب، ودفن بمقبرة متواضعة لشهداء الحرب، وضحايا الإبادة الجماعية من شعب البوسنة، وقال قبيل وفاته: إن "معركة توحيد البوسنة وترسيخ الديمقراطية تتقدم خطوة خطوة".