“الاستقلال” تحقق في مصير فلسطينيين هاجروا من غزة واختفوا بمصر

أحمد طلبة | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"قلب الأم الذي لا يخيب ظنه. بل هو يقين لم يشك يوما أو يشعر بموت مجد، وكذلك الأحلام التي أراها يقول فيها سآتي يا أمي، وقريب".

تزاحم الكلمات ذاكرة أمه وقلبها، بعد أن نبشتها صورة لعشرات القلوب المفقودة، وقد أعادت إليها الأمل الذي لم يمت أصلا بأن ابنها ما زال حيا.

السيدة الفلسطينية "رحاب إسماعيل" التي لم تصدق يوما رواية غرق ابنها "مجد"، وضعت عاطفتها جانبا وأصبحت متصالحة مع المنطق بعد استنتاجات توصلت إليها على مدار 6 سنوات من التحري الشخصي.

أم المفقود وعائلته وغيره ممن انقطعت أخبارهم باتوا منذ مئات الأيام على حلم، واستيقظوا على صورة تتلاطم فيها الشكوك كما الأمواج التي ضربت مستقبل المفقودين الذين هربوا من سجن غزة المحاصرة بحرا عبر مصر.

الرحلة المجهولة أو "اللغز" بوصف أدق، بدأت فصولها في 6 سبتمبر/أيلول عام 2014، عندما سلكت قوارب تحمل على متنها فلسطينيين وجنسيات أخرى طريق البحر متجهة من مصر إلى إيطاليا.

وتتضارب الروايات حول أعداد المفقودين من الفلسطينيين، ومصير السفينة التي كانت من المفترض أن تحملهم من شواطئ الإسكندرية إلى روما.

ومنذ ذلك التاريخ، ضاعت الحقيقة مع المفقودين وكثرت الروايات، فكان آخرها صورا أعادت فتح القضية التي لم تغلق أساسا بسبب تفاصيلها الغامضة والمعقدة.

صورة الأمل

أصبح أهالي المفقودين كالغريق الذي يتعلق بقشة بعد أن شاهدوا صورا قالوا: إنها "مسربة حديثا من السجون المصرية"، وأرفقوها بروايات قالوا فيها: إن أبناءهم "ما زالوا على قيد الحياة".

استطاع بعض الأهالي التعرف على أبنائهم الذين لم تبدُ ملامحهم واضحة في صورة لم يذكروا مصدرها، وهو ما دفع "الاستقلال" إلى التحري عنها، من خلال التواصل مع أشخاص كانوا معتقلين في السجون المصرية.

كما تم التحقق باستخدام برامج التحقق عبر الإنترنت (المصادر المفتوحة)، وكانت النتيجة بأن أكثر الصور تداولا تم نشرها في تقرير باللغة الإنجليزية 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أي بعد غرقها بنحو عام.

التقرير حمل عنوان "Flight to freedom ends in prison (الهروب إلى الحرية ينتهي في السجن)"، أعدته الصحفية "إيناس غنّام" لموقع "we are not numbers (نحن لسنا أرقاما)".

واستطاعت "الاستقلال" التواصل مع الصحفية "غنّام" والتي أكدت بدورها أنها لم ترفق الصورة مع التقرير، بل إن من فعل ذلك هم القائمون على الموقع، فحاولنا التواصل معهم دون أن نتلقى ردا.

وبعد التحري أكثر تم التوصل إلى مصدر الصورة الأصلية، من خلال تغريدة لشخص يدعى "توم رولينز" ويعمل باحثا ومحللا في مركز دراسات الشرق الأوسط ومقره لندن.

وفي التغريدة التي نشرها "رولينز" في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، أرفق 3 صور قال إنها لمكان احتجاز لاجئين (من بينهم فلسطينيون) في مركز يطلق عليه "الأنفوشي".

 

قادتنا الصور إلى معلومة مهمة تم التوصل إليها من مصدر موثوق طلب عدم كشف هويته، مؤكدا أنه تم تسريبها عبر تطبيق المراسلات الفورية "واتساب" من داخل مركز احتجاز "الأنفوشي".

وأوضح المصدر لـ"الاستقلال" أن المركز تديره وزارة الشباب والرياضة المصرية ويقع في محافظة الإسكندرية، وأن الصور التقطت بعد أيام من موعد انطلاق السفينة الذي كان مقررا يوم 6 سبتمبر/أيلول 2014.

وبعد البحث في خرائط "جوجل" عن اسم المركز تبين أنه يقع في الإسكندرية شمالي مصر، التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، وتبعد عن السواحل الإيطالية حوالي 1400 كيلومتر بحرا.

ومن خلال التدقيق في الصور المنشورة، لاحظت "الاستقلال" صناديق مياه معدنية لشركة تحمل اسم "DASANI" موزعة بين الأشخاص المحتجزين، وهي شركة أميركية لها فرع في مصر.

صناديق المياه هذه ظهرت في مقطع فيديو انتشر في 17 سبتمبر/أيلول 2014 تحت عنوان "بالفيديو: محافظ الإسكندرية يستقبل 227 شخصا قاموا بهجرة غير شرعية وتوفير مركز شباب ليكون مكانا لحجزهم".

وبعد التدقيق في مضمون الفيديو تمت مطابقة بعض التفاصيل مع الصور المتداولة على صفحات الأهالي الفلسطينيين، كما هو موضح أدناه.

وفي مقطع الفيديو ظهرت أيضا بوضوح صناديق المياه التابعة لشركة "DASANI"، وأشخاص يتحدثون باللهجة المصرية أثناء توزيع وجبات الطعام على المحتجزين.

لغز مفقود

وبالعودة إلى السيدة "رحاب إسماعيل" والدة المفقود "مجد"، فقد كتبت منشورا توضيحيا على صفحتها الشخصية في "فيسبوك" حول حادثة "ما يسمى بغرق السفينة"، تزامنا مع عودة القضية إلى الواجهة.

وذكرت والدة المفقود معلومات في منشورها تؤكد أن ابنها "ما زال على قيد الحياة"، استنادا إلى معطيات حصلت عليها بنفسها، مشيرة في الوقت ذاته إلى أشخاص قالت إنها تحدثت إليهم بهذا الخصوص.

وتمكنت "الاستقلال" من الوصول إلى أحد الأشخاص المذكورين في المنشور، وأدلى بشهادته لكنه أكد ضرورة عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية "لأن القضية شائكة".

وأضاف شاهد العيان أنه التقى فعلا بشخص آخر (لم يذكر اسمه) ممن كان يفترض سفره على متن السفينة المذكورة، يوم 27 سبتمبر/أيلول 2014، في سجن "العزولي" بمحافظة الإسماعيلية.

ولملء الاستفهام هنا حول ورود اسم هذا السجن، فقد أكد أحد مصادرنا أنه بعد ضبط المهاجرين غير القانونيين وزعتهم السلطات المصرية على سجون مراكز اعتقال أخرى، وذكر من بينها اسم "العزولي".

ونقل شاهد العيان عن السجين الذي التقاه قوله: إنه يعرف شخصا يدعى "مجد إسماعيل" كان معه من ضمن الأشخاص الذين كانوا ينوون الهجرة إلى إيطاليا عبر السفينة.

 يقين الأم

حالات كثيرة من غزة تعرفت على أبنائها، وقد تمكنا من الوصول إلى عائلتين أكدتا "بشكل قاطع" أن ابنيهما "ما زالا على قيد الحياة ولم يموتا غرقا كما تقول الرواية". 

السيدة "سمر الريس" والدة المفقود "مهند" أيقنت بعد إعادة الصورة المتداولة أن ابنها موجود فيها، مستندة بذلك إلى "ملامح وجهه وملابسه وطريقة نومه".

وأرسلت لنا صورة لـ"مهند" كان قد التقطها قبل الحادثة بأيام قليلة، تتطابق إلى حد كبير مع هيئته في الصورة المنسوبة لمركز "الأنفوشي"، قائلة: إنها تواصلت معه وأكد لها قبل التاريخ المذكور "أنه لم يسافر بعد".

وقالت "الريس" لـ"الاستقلال": إنها سافرت إلى مصر بعد عام من الحادثة، وشاركت في احتجاج أمام مجلس النواب المصري، وتحدثت مع "رجل أمن برتبة لواء" أكد لها أنهم "موجودون لدينا وهم على قيد الحياة".

وسردت نص حوار قصير دار بينها وبين اللواء.

والدة المفقود: لماذا تعتقلونهم؟ 

اللواء: ليس من شأنك، إنهم يأكلون ويشربون وينامون

والدة المفقود: طيب إلى متى؟ متى سيخرجون؟ ما هي قضيتهم؟

اللواء: لا تسألي شيئا. ستعرفين كل شيء عندما يخرج.

والدة المفقود: أريد أن أتكلم معه لأطمئن عليه.

اللواء المصري: اعتبري أنكما متخاصمان.

وتؤكد السيدة الفلسطينية أن كل الدلائل تشير إلى أنهم موجودون في مصر، لكنها لم تره أبدا منذ أن رحل عن غزة عام 2012، حيث استقر عامين هناك قبل موعد الرحلة المذكورة.

وتشابهت شهادة "أم مهند الريس" مع حديث للسيدة "أم وائل وشاح" التي فقدت نجلها أيضا في الحادثة ولم تسمع أي خبر عنه منذ ذلك الوقت.

السيدة "وشاح" أكدت في حديثها لـ"الاستقلال" أنها متيقنة من أن ابنها "معتقل في سجن مصري تعرف اسمه، وأنه لم يمت ولم يسافر أصلا على متن السفينة كما تروج الروايات المتداولة".

واستندت السيدة الفلسطينية التي تحمل الجنسية المصرية في قولها إلى معلومات وصفتها بـ"الكثيرة والخطيرة" بأنه "معتقل في مصر وليس محكوما على ذمة أي قضية".

وقالت: "لا توجد سفينة خرجت (من الإسكندرية) أو غرقت من الأصل. الأولاد تم تسليمهم من قبل المهربين للأمن المصري، وتم القبض عليهم وتوزيعهم على مراكز مختلفة".

اتصال مقطوع

السيدة "وشاح" أعطتنا "دليلا قاطعا" أن ابنها على قيد الحياة، إذ تطبيق المراسلات الفورية في فيسبوك ظل مفتوحا حتى عامين بعد فقدانه، مؤكدة أن "الرسائل كانت تصله وكان يراها". 

وبعد محاولات متصاعدة من عائلة وشاح تمكنت خلالها من الحديث مع مسؤولين مصريين زاروا غزة بشأن هذا "الدليل"، فانقطع الاتصال بالهاتف منذ عام 2016، كما تقول.

وأشارت إلى دليل آخر على لسان مسؤولة مصرية برتبة عقيد خلال مظاهرة شاركت فيها أمام مجلس النواب المصري، بصحبة أهالي مفقودين من جنسيات أخرى.

وقالت: "تحدثت معي عنصر من الشرطة النسائية، وقالت للمعتصمين لماذا تفعلون المشاكل؟ أبناؤكم لدينا ونجري معهم تحقيقات وسيتم إطلاق سراحهم فور الانتهاء".

وأكدت أيضا أنها تواصلت مع مسؤولين في مصر داخل الأجهزة الأمنية أكدوا أنه "موجود وبخير"، كما تحدث أحد أقربائها مع مستشار مصري تربطه به صلة.

"المستشار بعث برقية إلى جميع المحافظات المصرية باسم وائل طلال وشاح، وجاء الرد من محافظة الإسكندرية أنه محتجز في قضية هجرة غير شرعية وتم ضبطه وتحويله للأمن الوطني". 

حاولت "أم وائل" في 2016 الوصول إلى معلومات تطمئنها أكثر حول مصير ابنها بمساعدة رجل في الأمن المصري تحفظت على ذكر اسمه، ووعدها بترتيب زيارة له قبل أن يتعرض لتهديد ويتراجع عن موقفه كما تقول.

وأشارت أيضا إلى أنه تم التواصل مع جهات رسمية في إيطاليا ومصر بشأن "الرحلة المزعومة"، وجميع من تواصلت معهم أكدوا لها أن "حركة الملاحة البحرية لم تسجل رحلات ولا حوادث غرق في التاريخ المذكور".

وتقول إنها توصلت لمعلومات عن سفينتين كانتا تعتزمان التحرك من مصر، "الأولى تم سحبها من قبل الأمن المصري قبل خروجها من المياه الإقليمية، والثانية لم تتحرك أصلا".

وهناك عائلات أخرى قالت إنها عثرت في صورة "الأنفوشي" على أشخاص يشبهون أبناءهم، لكنه لم يتسن لـ"الاستقلال" التأكد من ذلك.

وبناء على المعطيات التي توصلت إليها وعرضتها "الاستقلال"، فقد خلص التحقيق إلى عدة نتائج:

- الصورة المتداولة تسربت بالفعل من مركز نادي "الأنفوشي" بالإسكندرية، حيث تم احتجاز مفقودين من جنسيات عدة، بينهم فلسطينيون.

- تم القبض على المفقودين قبل الموعد المقرر لانطلاق الرحلة بلحظات، بمساعدة من المهربين، وهم موجودون في مراكز احتجاز مختلفة.

- بالاستناد إلى معلومات الأهالي مع ربط الروايات مع الصور والحقائق، فإنه يمكن التأكيد على أن هناك فلسطينيين مفقودين ما زالوا في السجون المصرية حتى اليوم.

- لا معلومات مؤكدة عن عدد الفلسطينيين المفقودين ككل، وتعذر التأكد من مصيرهم وما إذا كان عدد منهم قد غرق بالفعل في رحلات تهريب لسفن أخرى.