مساعي احتواء تركيا بآسيا الوسطى.. دور الإمارات في الإستراتيجية الغربية

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

الناتو التركي وقدرات أنقرة

  • مسارات التحالف التركي

  • القدرات العسكرية التركية

  • حدود الخوف الغربي

الاستخبارات الإماراتية في قره باغ

  • الدولة الوظيفية الإماراتية في الإستراتيجية الغربية

  • الدور الإماراتي في قره باغ

  • التدخل المالي / العسكري

  • التدخل الاستخباراتي الإماراتي

خاتمة


تمهيد

ما زالت الجغرافيا السياسية تحكم التوجهات السياسية والعسكرية بالعالم رغم ثورة الاتصالات في شقها المادي الانتقالي، وقوامها في ذلك موارد الطاقة والمواد الخام والأسواق.

وكما تنتعش الجيوسياسة، فإن نظرية "ماكيندر" حول قلب العالم والسيطرة عليه، تعيدنا للصراع القوي حول الدور التركي في آسيا الوسطى التي تمثل شرق قلب العالم بالمفهوم الماكيندري، كما تطرح للنقاش أحد مسارات مقاومة هذا الدور، وهو المسار الذي تشارك فيه الإمارات تحت قيادة فرنسية. 

فما إن بدا وكأن ثمة اتجاه تركي للتعاون الدفاعي مع أذربيجان في مواجهة التحرشات الأرمينية، حتى سارعت الإمارات لمد جسر جوي بين صناعتها العسكرية وبين أرمينيا.

انطلق الجسر من المركز الأردني لصناعة السلاح، بعد اتساع التمويل الإماراتي، في اتجاه يمكن اعتباره بديلا عن المركز الصربي الذي يبدو أنه مال إلى الجانب التركي بعد تلويح الأخير بإمكانية تصنيع مشترك للمسيرات التركية هناك.

العلاقة بين الإمارات وأرمينيا ليست بالحديثة، بل إن خطا ما يربط مصر بهذا الحلف، ما استدعى حضور الرئيس الأرميني أرمين سركيسيان، إلى جانب ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد في حفل افتتاح تفريعة قناة السويس.

انكشاف الأوراق أمام أذربيجان مهد لتوسيع نطاق حرب قره باغ لصالح دخول باكستان كذلك، بعد اضطرار تركيا للدخول بثقلها بعد تبين استهدافها عبر تفجير خط الغاز فيما دق الشتاء أبواب تركيا، ما قد يخلق أزمة في وجه أردوغان.

هزيمة أرمينيا أدت لبدء مسار جديد لاحتواء تركيا في هذه المنطقة، وذلك عبر تدخل إماراتي مالي وعسكري واستخباراتي ضمن خطة فرنسية يشارك فيها الروس مضطرين. فما ملامح أدوار الإمارات الثلاثة. هذه الدراسة تكشف التفاصيل.

وبذكر مصر في هذا السياق، العلاقات بين مصر وأرمينيا علاقات دبلوماسية عادية يتعلق تطورها بالمساندة الدبلوماسية وزيادة الاستثمارات المتبادلة، ولم ترق لمستوى المساندة العسكرية كما هو الحال بالنسبة للإمارات والأردن. 

وفي إطار العلاقات الوثيقة المصرية الإماراتية، كان تدخل مصر الدبلوماسي يحمل نفس الخطاب الدبلوماسي للإمارات، حيث حثت مصر الطرفين على ضبط النفس، وكان تطور الموقف المصري بعد الاستنجاد الأرميني بمصر محدودا، وتمثل في التأكيد على "أهمية تقويض التدخلات الخارجية في المنطقة".

محدودية تطوير الدور المصري وفرت له أرمينيا لاحقا غطاء دبلوماسيا تقليديا بالتأكيد على أن "صوت مصر مسموع". غير أن الموقف المصري من الصراع تحكمه عوامل أخرى منها علاقة الاعتماد القوية لإسرائيل مع أذربيجان والتي تأخذ معادلة (النفط مقابل التعاون العسكري)، إذ تستورد تل أبيب من باكو نحو 40 بالمئة من احتياجاتها النفطية بأسعار زهيدة، وهو الوضع الذي قد يتطور في المستقبل بعد التطبيع الإماراتي.

غير أن أذربيجان تتبع علاقات متوازنة في سياستها الخارجية حيال الشرق الأوسط، كما تربطها علاقات طيبة بمصر إلى حد عدم وجود تأشيرات لدخول مواطنيها إلى مصر والعكس.


الناتو التركي وقدرات أنقرة

  • مسارات التحالف التركي: 

تخوض تركيا عدة جبهات لبناء تحالفاتها. حيث تعتبر تركيا أن دائرة تحالفها الأوروبي الغربي أهم مسار مستقبلي لها، وبذلت في هذا الإطار جهودا دبلوماسية وعسكرية جمة عبر مسار العلاقات التركية - الغربية، كما تبني أنقرة مسار تحالف عربي يبدأ من سوريا وليبيا المستقبليين، علاوة على المسار المغاربي التونسي الجزائري، الذي تحترمه المغرب وقد ترغب في تطوير التعاطي معه إيجابيا مستقبلا، بالإضافة للوضع الخاص لعلاقتها بالصومال، ثم المسار الخليجي الذي ينطلق من قطر، ويحترمه الطرفان الكويتي والعماني، والذي قد تنضم إليه السعودية في المستقبل.

أما المسار الثالث فيتعلق بالقومية التركية التي تعمل أنقرة في إطارها على بناء "ناتو تركي"، وهو ما يدفعها لتعزيز وجودها في القوقاز وآسيا الوسطى، وتطوير علاقاتها مع دول هذه المنطقة (أذربيجان - تركمانستان - قيرغيزيا - طاجيكستان - أوزبكستان - كازاخستان)؛ وهو التطوير الذي يتجاوز تأمين احتياجات تركيا من الطاقة برغم الأهمية الفائقة لموارد الطاقة بالنسبة لتركيا. 

الأواصر الجامعة تتجاوز المصالح المباشرة، حيث تعتبر اللغة التركية اللغة الأم لخمس دول من دول آسيا الوسطى، وهي: كازخستان، أذربيجان، وأوزباكستان، قرغيزستان، تركمانستان، ما عدا طاجكستان التي تتحدث الفارسية، كما تتشابه العادات والتقاليد في هذه الدول مع نظيرتها في تركيا، مع وجود رابط أقوى وهو الدين الإسلامي، الذي يوحد بين مشاعر شعوب هذه المنطقة والشعب التركي، ويتيح الفرصة لإعادة بناء أمة قادرة على توجيه مواردها لصالح حاجات شعوبها.

يضاف لهذا البعد القومي، تلك العلاقة التعاونية الدفاعية التي تجمع تركيا بباكستان اليوم، وتعد مدخلا لتطوير مشروع نووي مشترك محتمل. وفيما كانت تركيا تتمدد خلال العقدين الماضيين في هذه المنطقة عبر قوتها الناعمة من خلال آليات العلم والتعليم والإنتاج الدرامي، فإنها اليوم عملت على خوض حربين في هذه المنطقة لتعزيز نفوذها وصورتها على حد سواء، وهو ما تمثل في الاستقبال الحافل الذي قوبل به أردوغان في كل من باكستان وأذربيجان، خاصة بعد النصر الذي حققته هذه الأخيرة في حربها مع أرمينيا بمساعدة تقنية تركية،  علاوة على التدخل المحدود بالقوات. 

وتلعب تركيا اليوم نفس الدور لكن بإستراتيجية مختلفة مع "أوكرانيا" لتحرير المنطقة التي تحاول الانفصال في شمال شرق البلاد (دونيتسك) و(لوهانسك)، وهو ما قد ينتهي بإقامة قاعدة تركية في أوكرانيا.

وفي 1992، تزعمت أنقرة قمة رؤساء الدول الناطقة بالتركية من أجل زيادة التضامن بين البلدان الناطقة بالتركية، وخلق فرص تعاون جديدة بينها.

اكتسبت تلك العملية هيكلاً مؤسسياً من خلال "معاهدة ناخيتشيفان" في 3 أكتوبر /تشرين الأول 2009، والتي نصت على إنشاء مجلس تعاون الدول الناطقة بالتركية، وتم تأسيس أمانة المجلس في إسطنبول. 

لم تمانع روسيا الحضور التركي في بلدان آسيا الوسطى، أملا في استغلال الموقع الجغرافي التركي لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية الخاصة، كما كان الطموح التركي مرتبطا بتعزيز التنمية بالمنطقة وخفض حدة التوترات فيها، وذلك في ضوء نظرة دول المنطقة الإيجابية لكل من روسيا وتركيا بسبب مواقفهما المحايدة إلى حد ما للتطورات السياسية الداخلية لهذه البلدان، فيما يتعلق بقضايا الانتخابات وحقوق الإنسان والديمقراطية.

لم تستعجل تركيا تكثيف التعاون الدفاعي مع دول آسيا الوسطى، ولكن تتجه الإرادات تدريجيا للتلاقي الاقتصادي والعسكري. وفيما لم تنضم طاجيكستان ذات الأغلبية الفارسية، وتركمنستان بعد إلى "مجلس تعاون الدول الناطقة بالتركية" الذي يضم 5 دول: (تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان)، قررت أوزبكستان في أغسطس /آب 2020 زيادة التعاون الإستراتيجي بالتركيز على المجال الاقتصادي الصناعي مع تركيا في أكتوبر /تشرين أول 2020  ، وتبع ذلك توقيع اتفاق تعاون دفاعي وعسكري في أكتوبر/ تشرين أول 2020 .

وسبق لتركيا أن وقعت في 2019 اتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع كازاخستان، ثم طورت الدولتان العلاقات باتجاه توقيع اتفاقية تعاون فضائي في أكتوبر /تشرين أول 2020 ، وكان توقيع الاتفاقية يمثل أول زيارة لوزير الدفاع التركي إلى كازاخستان.

وتكثف تركيا التعاون مع بقية جمهوريات آسيا الوسطى، خاصة في المجال الاقتصادي، فيما يتكثف التعاون الدفاعي مع تركيا وكل من باكستان وأذربيجان، فيما يعد الدب الروسي والمخاوف من تدخلاته المعوق الأهم لتكثيف هذا التعاون.

  • القدرات العسكرية التركية: 

من أبرز ما يثير القلق الأوروبي تلك القدرات الهائلة التي تتمتع بها تركيا في مجال التقنية العسكرية. وتمتلك تركيا مجمعا صناعيا عسكريا يمثله تكتل الأمانة العامة التركية لمجموعة الطيران والدفاع "ساها إسطنبول" (SAHA Istanbul)، وهو تكتل اقتصادي صناعي يهدف إلى تعزيز الصناعات الدفاعية المحلية، ويضم في عضويته 342 شركة متخصصة في مجال الإنتاج العسكري والتقني

ارتفع إجمالي الاستثمارات التركية في صناعة الدفاع من 5.5 مليارات ليرة (1.3 مليار دولار) إلى أكثر من 60 مليارا في 2018 (نحو 12 مليار دولار)، ما أتاح لتركيا تقليص اعتمادها على المشتريات الأجنبية ورفع نسبة الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بالسلاح والتي تبلغ 80 بالمئة من حجم احتياجاتها من السلاح

وفي نفس الصعيد، صادرات تركيا من الأسلحة زادت بنسبة 170 بالمئة خلال السنوات الـ10 الماضية. ودخلت شركات تركية رائدة، قوائم أكبر 100 شركة لصناعة الدفاع عالمياً، كشركة "روكيتسان" و"تي.أيه.آي" و"أسيلسان"، التي تعتبر الأكبر والرائدة في تركيا، وأضحت عائدات الصادرات العسكرية التركية تشكل رافداً مهماً لاقتصادها، بعد أن راجت في أسواق التصدير منتجات وكالة صناعات الدفاع والشركات الخاصة، خاصة شركتي "أوتوكار" و"أسيلسان". 

وباتت المدن التركية اليوم تتنافس فيما بينها من حيث صادراتها العسكرية لخارج البلاد. ومن أبرز المنظومات العسكرية التركية اليوم منظومة التشويش الراداري "كورال" ومسيرات "بيرقدار" و"العنقاء" و"أسيسجورد" فائقة الصغر. 

وفيما يتعلق بالقدرات الإلكترونية، طورت تركيا أقمارها الصناعية الخاصة مثل "راسا" الاتصالي و"جيوك ترك1" العسكري المنتجة محليا، بجانب منظومة التشويش الإلكتروني "كورال" ورادارات "هيوز" و"EIKS" المخطط دمجها مع منظومة (SIPER) الصاروخية بعيدة المدى المصنعة محليا المضادة لمقاتلات الجيل الخامس الشبحية. 

هذا علاوة على تطوير المحرك النفاث الذي سيمكن تركيا من تحقيق طموحها بتدشين طائرة الجيل الخامس "TF-X"، بالإضافة لتطوير محرك المروحية "جوك بي" من طراز T700""، لتستخدمه في تعزيز قدرات مروحياتها المحلية مثل "قره شاهين"، و"أتاك"، والمروحية المدنية "T625".

ويمثل صاروخ "بورا" الباليستي المحلي نموذج القدرة في المحركات التركية، علاوة على صواريخ كروز التركية "أطمجه" المنافس لصورايخ "هاربون" الأميركية، والصاروخ "سوم سي 2" بعيد المدى عالي الدقة المخصصة لقصف الأهداف فوق سطح الماء، علاوة على الصاروخ المضاد للدبابات "OMTAS"، وصاروخ "بوزدوان" جو-جو، وصاروخ جو-أرض (سارب - 83) الخارق للسواتر الخرسانية.

هذا علاوة على الصاروخ "TRGL-230" أرض - أرض الموجه بالليزر. يضاف إلى ذلك منظومات الدفاع الجوي "حصار"، والنظام المضاد للطائرات المسيرة المسمى "ألقا" والذي يعمل بنظام الطاقة الموجهة من دون استخدام قذيفة.

وبحريا، تمكنت تركيا من إنتاج سفينة الإنزال البرمائية المسماة "سنجقدار" محليا، علاوة على نجاح اختبارات الإبحار لحاملة الطائرات التركية "L 400 TCG Anadolu". 

وفيما يتعلق بالقوات البرية، وبعيدا عن إنتاج تركيا من المدرعات الناقلة للجنود، وعربات الإسعاف المضادة للقنابل، تنتج تركيا المدرعات "إجدار يالجين" و"فوران" متعددة الأغراض، والمدرعة الكهربائية "العقرب2"، ومنظومة المدفع الهاون "ألكار"، والمركبة العسكرية المضادة للدبابات "النمر"، والمركبة المصفحة "أمازون" ذاتية القيادة. هذا فضلا عن الدبابة "M60TM" المعروفة باسم "ألتاي" وذخيرتها المطورة "طانوك".

  • حدود الخوف الغربي:

ثمة تخوفات غربية عميقة من تمدد النفوذ التركي العسكري، وتنويع مصادر سلاحها وبخاصة منظومة "إس 400"، وتزايد قدرتها على بناء منظومة تسلح ذاتية، واعتمادها بصورة قوية على القوة العسكرية لدعم مصالحها.

فخلال السنوات القليلة الماضية، قامت تركيا بشن 3 عمليات توغُّل عسكرية في سوريا، وأرسلت إمدادات عسكرية إلى ليبيا، ونشرت قواتها البحرية في شرق المتوسط لتأكيد مزاعمها بشأن حقوقها في المنطقة، ووسعت عملياتها العسكرية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني شمال العراق، وأرسلت تعزيزات عسكرية إلى آخر معاقل المعارضة السورية في "إدلب"، كما قَدمت مساعدات عسكرية ضخمة لدعم أذربيجان في حربها ضد أرمينيا من أجل استعادة إقليم قره باغ.

ولدى تركيا اليوم وجود عسكري مباشر في قطر والصومال وأفغانستان، وقوات لحفظ السلام في البلقان، ويعتبر وجودها العسكري العالمي في الوقت الحالي الأكبر منذ أيام الإمبراطورية العثمانية، وهو ما يقلق الكتلة الغربية، خاصة مع وجود تشكك في ولاء تركيا لحلف شمال الأطلسي "ناتو".

ورغم الخوف الغربي، والدور التركي الذي كان محوريا في إطار الحرب الباردة، والذي أدى فى النهاية لانتصار الولايات المتحدة والعالم الغربي على الاتحاد السوفيتى، فإن الانفصال عن تركيا يمثل مصدر تهديد للصعيدين الإقليمي والعالمي فيما يتعلق بتهديد منطقة "قلب العالم".

فمن جهة، فإن تركيا، ذلك العملاق الجغرافي والاقتصادي في المنطقة يؤدي دورا مهما في الفصل بين أوروبا والشرق الأوسط، وبين الشرق الأوسط وروسيا. 

في هذا الإطار، فإن خسارة تركيا كحليف للغرب تعني وضع الشرق الأوسط على عتبة باب أوروبا، وإلغاء الحاجز المحتمل أمام تمدد النفوذ الروسي غير المحسوب في الإقليم، بما يسمح لهذا الأخير بالتوغل فى قلب الشرق الأوسط، وفي هذا الإطار قد يكون انسحاب روسيا من قاعدة الجفرة (قاعدة جوية تقع في مدينة الجفرة بقلب الصحراء الليبية الجنوبية) باتجاه السودان والمواجهة التركية - الروسية في كل من أذربيجان وأوكرانيا وسوريا أبرز الأمثلة على هذا الدور.

وبالإضافة إلى ذلك، تعد تركيا دولة في أفضل وضع يؤهلها لتحقيق التوازن مع إيران التي تتعاظم طموحاتها ونفوذها بالتزامن مع شراكتها مع روسيا، من هنا فإن المصلحة متبادلة بين البلدين، فمن دون الولايات المتحدة، ستصبح تركيا تحت رحمة طهران وموسكو.

هذه الاعتبارات تدفع الاتحاد الأوروبي لتحجيم العقوبات على تركيا، ومواجهة المطالب الفرنسية المعادية لتركيا، وتوصل الناتو لإيجاد آلية للحوار حول النزاع بين تركيا واليونان في شرق المتوسط، هذا علاوة على جهود إدارة الرئيس (السابق) دونالد ترامب لتحجيم التداعيات السلبية لشراء تركيا منظومة "إس 400"، ومحاولة وزير دفاعها (السابق) "مارك أسبر" النأي ببلاده عن الجدل في الناتو حول دور تركيا في ليبيا، ما دل على وجود رضى أمريكي عن الدور التركي هناك.

هذا فضلا عن تطور موقف الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن من تركيا، ومحاولاته تحجيم التعاون التقني التركي - الصيني، واستبداله بإطار تعاون تقني أميركي - تركي. وهو ما يجعل حدود مخاوف "الكتلة الغربية" منصبة على محاولة احتواء التمدد التركي، ومواجهة مركز السلطة السياسية في تركيا؛ والسعي لاستبداله مستقبليا بصورة لا تخل بعلاقة تركيا بهذه الكتلة الغربية.


الاستخبارات الإماراتية في قره باغ

  • الدولة الوظيفية الإماراتية في الإستراتيجية الغربية:

مفهوم الدولة الوظيفية صكه المفكر والإصلاحي المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري ليصف به النموذج "الإسرائيلي"

فالكيان الصهيوني هو أحد نفس التطبيقات التاريخية لدور اليهود في المجتمع الغربي، حيث كانوا يوكلون إلى اليهود مهام الربا الفاحش والالتزام الوظيفي، علاوة على أن جيتوات اليهود في أوروبا وحتى في الشرق الروسي كانت تعج بالوظائف التي لا يمكن قبولها مجتمعيا مثل الدعارة وتصريف المسروقات وغيرها.

هذا المفهوم أصبح مع قرب زوال الاستعمار يتجلى في صورة دولة، هي الكيان الصهيوني، وما لبثت الدول المستعمرة أن حولت قطاعا من الدول حديثة الاستقلال إلى دول وظيفية، هدفها الرئيس يتمثل في حماية مصالحها بعد انسحابها، وضمان تدفق عائدات الاستعمار بدون وجود عسكري.

كان للإمارات عمق عربي قديما، وكانت تجربة خليفة بن زايد في التضامن العربي تحسب للإمارات، لكن واقع الضعف العربي أدى لاحتلال جزرها، وبدا مع الارتهان لواقع الضعف والتبعية أن هذه الجزر ضاعت للأبد.

في هذا الإطار اتجهت الإمارات للعب دور وظيفي أكبر لاستعادة أرضها عبر الاندراج ضمن إستراتيجية القوى الاستعمارية السابقة لإدارة مستقبل المنطقة

ومقارنة بتركيا التي تبني تحالفاتها اليوم مع الأمم العربية والتركية والقوقازية، ذهبت الإمارات لتبني تحالفاتها مع القوى الاستعمارية القديمة، لتحقيق أهداف هذه القوى في المنطقة، ويمكنها - في نفس الإطار - أن تحقق مصالحها القطرية الضيقة، ولو على حساب جيرانها العرب.

وفي هذا الإطار، نظرت الإمارات للربيع العربي باعتباره تهديدا وجوديا، ليس للأنظمة المحافظة التقليدية فحسب، لكن أيضا لترتيبات الدول والنخب الوظيفية التي خلفت الاستعمار في تحقيق أهدافه.

من جهة أخرى، سعت الإمارات لتوظيف السيولة التي أعقبت تدهور أوضاع النخب الوظيفية في تحقيق مآربها لضمان وجود تدفقات مالية للدولة في "مرحلة ما بعد النفط"، وهو سبب الكوارث الإنسانية التي تسببها الإمارات في كل الدول التي شهدت الربيع العربي. 

استسلمت مصر سريعا عبر انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، وهو ما يسر للإمارات العصف بكل من ليبيا واليمن، فضلا عن التلاعب بالمغرب والجزائر، ما أدى لدفع المغرب نحو التطبيع المستهدف" والاتجاه نحو تصفية إرث ما بعد الحراك الجزائري عبر النخبة العسكرية ما بعد رئيس الأركان الراحل "أحمد قايد صالح" والرئيس الحالي "عبد المجيد تبون".

التوجه الوظيفي للإمارات هو التفسير الأساسي لعصفها بالتيار الإسلامي في مصر والعالم العربي، فيما كان هذا التيار يمثل المحفز الأساسي لجهود مقاومة "الوظيفية الاستعمارية" في الدولة العربية. أما فيما يتعلق بتركيا، فإن احتواء تجربة أردوغان هي المستهدف الإقليمي الأساسي.

الموقف الغربي من تركيا لا يمكن الاختلاف عليه غربيا، أما محل الاتفاق الغربي اليوم فيتمثل في خطورة التجربة الأردوغانية. وبرغم توجه تركيا الراهن نحو "الاحتواء المتزن" للسياسة الخارجية الروسية، ومع أن هذا الهدف الغربي هو احتواء روسيا، لكن لا يمكن القول بأن التحدي التركي المنفرد لروسيا يوفر الطمأنينة للكتلة الغربية. 

فالقوة التركية التي بلغت مرحلة تحدي روسيا من وفرة النفط القادم من آسيا الوسطى أو من دون حصاد التنقيب في المتوسط تقلق الغرب من إمكانية احتواء الحلم القومي التركي. وهو ما يدفع الغرب، وبخاصة المكون المسيحي، للتركيز على خيار احتواء أردوغان. وهو أحد روافد توظيف الإمارات للمشاركة في عملية الاحتواء. ويصادف أن مشاركة الإمارات في خطة احتواء أردوغان قد تكون إحدى سبل تخلصه من ضغوط الإدارة الأمريكية الجديدة.

غير أن ثمة دوافع إماراتية أخرى لمواجهة النفوذ التركي في منطقة آسيا الوسطى، حيث تعمل تركيا على مواجهة الطموح الإماراتي في تعظيم حضورها الاقتصادي من بوابة الضغط على باكستان وأفغانستان لمواجهة سعي الإمارات لتوسيع نطاق صفقات خدمات إدارة الموانئ والمطارات التي تخطط لإنجازها في عدة دول وسط آسيا، وهو ما يضيف هذه الصفقة إلى 45 صفقة أخرى تعطلت في 13 دولة، كانت الجزائر أشهرها، وهو ما يأتي ردا على لجوء الإمارات للحرب الاقتصادية وحرب العملات لإخضاع تركيا.

  • الدور الإماراتي في قره باغ:

بدأ الدور الإماراتي في قره باغ قبل الانتصار الأذري، وكان أحد عوامل إشعال الحرب مجددا بين أرمينيا وأذربيجان، وهي الحرب التي بدأت بتحرش أرميني بأذربيجان، ليس على حدود إقليم قره باغ، بل في الطرف الشمالي من الحدود، في محافظة "توفوز" مباشرة بالقرب من خط أنابيب (باكو - تبليسي - جيهان)، والذي تم تفجيره مطلع أكتوبر /تشرين أول 2020، واتهمت إثره أذربيجان أرمينيا بالتفجير، ما أدى لتدحرج كرة الثلج وصولا للمشهد الراهن

ومع انتهاء المواجهة بين الطرفين من دون تحقيق أهدافها، وهي  - بصورة أساسية- حرمان تركيا من الغاز فيما يدق الشتاء الأبواب، كان للتحالف الأرميني الفرنسي - الإماراتي رؤية مفادها أن جولة أكتوبر /تشرين أول ليست الأخيرة، وأنه لابد من جولة أخرى "ذات مواصفات خاصة".

  • التدخل المالي / العسكري: 

ومن جهة، ففيما بدأت روسيا في توفير جسر جوي لتزويد أرمينيا بالسلاح، اتجه الرئيس الأرميني "أرمين سركيسيان" للتوجه غربا لطلب التدخل وعدم ترك الروس وحدهم يديرون دفة الإعداد للمرحلة القادمة، حيث قام "سركسيان" بزيارة "أبو ظبي" لتوفير التمويل، والأردن للتوافق على تفاصيل العتاد المطلوب، وهو ما تم بعد اتصالات فرنسية أرمينية قررت إثرها باريس رفع درجة التدخل لمساندة أرمينيا، حيث رفضت ترك رئيس الوزراء الأرميني "نيكول باشينيان" نهبة للنفوذ الروسي وخريطة الولاءات المرتبطة به بين العسكر الأرمينيين، هذا - بطبيعة الحال - إلى جانب رغبته في إنهاك تركيا عبر مد أمد القتال على الجبهة الأرمينية من جهة، والتسويق لصورة سلبية حول تركيا جراء هذه الحرب، وهو ما لن يتأتى إلا عبر توجيه ضربة مستقبلية موجعة لأذربيجان، وهي الإستراتيجية الإماراتية الشهيرة التي استخدمتها لتشويه صورة الربيع العربي.

وفي هذا الإطار، بدأت فرنسا هي الأخرى في توفير المعدات من مركز الإنتاج الأردني الجديد، سواء في ذلك السلاح الخفيف أو المدرعات، فيما تتجه الإمارات لبيع 4 طائرات "إف 16" من عتادها العسكري إلى أرمينيا، وهي الطائرات الأربعة المستقرة في اليونان، وهي الصفقة التي رسمت ملامحها إدارة "ترامب"، خاصة بعد تفعيل الصفقة الخاصة بطائرات "إف 35".

وتعد الأردن، في هذا الإطار، أحد اللاعبين الذين بدأوا التوسع في لعبة توريد السلاح لمناطق النزاع التي تشارك فيها الإمارات، ويبدو أن التوسع في التصنيع والتوريد مثل أحد الحلول الإماراتية التي طرحتها على الأردن لمواجهة الأزمة المالية الخانقة التي كانت تعانيها منذ أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008 ، وتقاعس الجهات المانحة الدولية والعربية عن المساعدة بدرجة تكفي لمعالجة الأزمة من جذورها، وبخاصة مع تمسك الأردن بنهج التطبيع البارد الذي لا يرضي الإدارة الأميركية التي اتضح ميولها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والاعتراف كذلك بضم الجولان، والتهيئة لضم الضفة. 

وأتى التوسع في التمويل الإماراتي في محاولة لاحتواء التقارب الذي كان وشيكا بينها وبين تركيا في 2018، خاصة وأن الأخيرة كانت تبحث عن شريك في إنتاج السلاح، وهو ما عوضته تركيا لاحقا بنقل جزء من استثمارات تصنيع السلاح إلى كل من قطر وأوكرانيا وباكستان وبلغاريا وألبانيا. 

كان من شأن العرض الإماراتي أن يوفر تدفقات استثمارية في الأجل القصير، ودخلا مستقرا بالعملة الأجنبية في الأجلين المنظور والبعيد. وساعد في رواج هذا الاقتراح أن البنية التحتية الأردنية كانت متوفرة، وإن على مستوى أكثر محدودية منذ 1999. وفي الأعوام الأخيرة، كانت التقارير الدولية تقرن ذكر كل من الإمارات والأردن في خروقات حظر توريد السلاح لمناطق الصراع.

وتقوم البنية المؤسسية لتصنيع السلاح في الأردن على مركز الملك عبد الله الثاني للتصميم والتطوير (كادبي) بعد صدور الإرادة الملكية في عام 1999 ونشأت تبعا لهذا المركز عدة شركات لأنظمة التسليح، وتطورت هذه البنية عبر تمويل أجنبي متعدد المراحل، حيث كانت الخطوة الأردنية التالية في 2009، بالدخول لمجال صناعة الآليات العسكرية بعد قيام "كادبي" و"مجموعة بارامونت" الجنوب إفريقية بتوقيع اتفاق لتصنيع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة. 

وفي 2013، افتتحت هيئة تصنيع السلاح الفيدرالية في روسيا مصنعا في جنوب الأردن لإنتاج قاذفات القنابل (هاشم 1) و(هاشم 2)، والتي ارتبط بتطويرها شروع الأردن في تطوير الأنظمة البرية المختلفة، وبخاصة المدرعات. وتشارك الإمارات بحصة في مركز "كادبي"، زادتها في الأعوام الأخيرة لتلبية توقعات تزايد الطلب الليبي على السلاح الأردني.

وبالعودة لترتيبات الوضع في "قره باغ"، وفيما يتعلق بالإدارة السياسية لمرحلة ما بعد الحرب المقبلة، فإن الترتيبات الفرنسية - الأرمينية - الروسية تقوم على اقتصار طلب الوساطة على تدخلات دبلوماسية فرنسية وأمريكية، ورفض أي حضور دبلوماسي تركي، وهو ما يضمن لروسيا مشروعية الوجود على الإقليم الأذري، ويضمن لأرمينيا صورة المنتصر، ويضمن لفرنسا صيتا ومبيعات سلاح ونصرا معنويا للرئيس الفرنسي الذي أنهكته الاحتجاجات الأخيرة في بلاده، كما يضمن للجميع - في قراءتهم للمستقبل - هزيمة تركية يمكنها أن تصبح مادة ثرية للإعلام المدعوم إماراتيا. 

وقد تجدد القتال بالفعل في 14 ديسمبر/كانون الأول 2020، وتحاول وسائل الإعلام الفرنسية والمقربة منها تصوير تجدد إطلاق النار وكأنه صنعة تركية - أذرية.

  • التدخل الاستخباراتي الإماراتي: 

بعد أسبوع من اشتعال النزاع مجددا بين أذربيجان وأرمينيا على الحدود الشمالية بينهما، أصدر الكرملين نداء جديدا للأطراف المتقاتلة لإنهاء الأعمال العدائية في إقليم قره باغ وحولها، بعد وقت قليل من إعلان موسكو تخوفاتها من أن الجيب الجبلي يمكن أن يصبح منصة انطلاق مسلحين إسلاميين لدخول روسيا.

يبدو إعلان التخوفات ثم النداء أمرا عاديا، لكنهما روتينيين بالنسبة للمعارك التي تشترك فيها كل من روسيا وتركيا، حيث يمكن لهكذا أن يمثل أساسا لنسج منظومة دعاية حول المرتزقة والمسلحين المجلوبين وغيرهم. 

أدى التوافق الفرنسي الروسي حول ضرورة احتواء تمدد النفوذ التركي في تلك المنطقة وفي شرق المتوسط، وبخاصة بعد الحرج الذي لاقته روسيا مع اضطرارها لسحب قواتها من ليبيا (الجفرة) باتجاه السودان، علاوة على الإذلال الذي تعرضت له صناعة السلاح الروسي في المعارك في ليبيا وقبرص وقره باغ، كل هذا دفع موسكو للتوافق مع الفرنسيين لتمرير خطتهم لاحتواء تركيا، خاصة وأن المستهدف الجديد قد يمكن روسيا من إزاحة الرئيس الأذري إلهام علييف الذي بات معوقا لتثبيت النفوذ الروسي في المنطقة، ومعززا للنفوذ التركي. 

ويشير مراقبون إلى أن التوافق المشار إليه دفع الروس للموافقة على طلبات إماراتية بفتح مكتب استعلام في إقليم قره باغ، وهو ما لم تعارضه الدولة الأذرية، وبخاصة مع العلاقات المتنامية بين الإمارات وأذربيجان من مساعدات جائحة كورونا واستثمارات بنحو 2.2 مليار دولار ومجلس مشترك للتعاون الاقتصادي، ما بلغ حد منح السلطات الأذرية الفيزا في المطار للمسافرين القادمين من الإمارات. 

وبلغ الأمر السماح للطائرات الإماراتية من طراز "إف 16" بالطيران فوق سماء الإقليم، ولا تلاقي العناصر الإماراتية عنتا في رشوة العسكريين الروس الميدانيين، وهو ما لفتت الأنباء إليه خلال معالجة القصف الأذري للحشود الأرمينية القتالية المحتشدة في قرى جنوب الإقليم، والتي علق مسؤولون أذريون بأنهم تلقوا دعما إيرانيا بموافقة روسية، وأن الموافقة الروسية إما أتت تعاطفا دينيا أو بسبب رشوة.


خاتمة

فيما تتبع تركيا إستراتيجية ذكية تقوم على خفض النفقات العسكرية والاكتفاء بنشر المستشارين والمعدات على حساب من يطلب المساعدة، وهو ما يمكنها من فتح أكثر من جبهة، وتحقيق أكثر من نصر في وقت قياسي، مع منح الدبلوماسية وقتها الكامل قبيل الشروع في فتح الجبهة الجديدة وحصد النصر ومن ثم حصد الصورة الإيجابية.

وفيما تتجه تركيا تلك الوجهة، تتجه الإمارات الوجهة المعاكسة تماما، حيث تنفق المال لأجل تحقيق نقيض الهدف التركي، ألا وهو الصورة السلبية عن الحضور التركي، وتداعيات هذه الصورة على الطلب الإقليمي على خدمات تركيا وصناعاتها العسكرية، أو في تداعياته على الرأي العام التركي في الداخل، خاصة وأن المعسكر الدولي الغربي، بالإضافة لقوى محور الثورة المضادة، يرغبون في احتواء التصور الأردوغاني، ومعاودة تركيا لنموذجها الخالي من المشكلات (نموذج رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو)، فيما يصر أردوغان في السير على الحافة، ودفع النموذج الأردوغاني لأقصى مدى يمكنه بلوغه.

الحضور الإماراتي الاقتصادي والعسكري والاستخباراتي في قره باغ يأتي في إطار خطة "فرنسية- أرمينية" قوامها تأديب أذربيجان وإنهاك أردوغان، وهي خطة يراها الروس في مصلحتهم، وتراها الإمارات كذلك، وتتجه الإمارات لجمع كل المعلومات الممكنة عن الانتشار التركي الأذري في الإقليم، وهو ما يمكن أن يكون أداة كسب الجولة الجديدة من المعركة، وبخاصة مع إغداق الروس والإماراتيين المعدات العسكرية على الجيش الأرميني.