بدلا من تصديره.. ما الأسباب التي دفعت تونس لاستيراد الفوسفات؟

زياد المزغني | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

لأول مرة منذ اكتشافه في العام 1885 على يد المستعمر الفرنسي، تلجأ الدولة التونسية لاستيراد الفوسفات لتغطية العجز الحاصل في مصانع إنتاج الأسمدة الفلاحية والمواد الكيمياوية والتي كانت تعتمد بشكل كامل على الإنتاج المحلي. 

ومن المنتظر أن تصل أول شحنة من الفوسفات المستورد إلى الموانئ التونسية قبل نهاية شهر سبتمبر/أيلول، حيث يخطط المجمع الكيميائي التونسي لاستيراد نحو 40 ألف طن شهريا، لتجميع مخزون يسمح بمواصلة إنتاج الأسمدة الكيميائية.

وكانت تونس تحتل إلى حدود سنة 2010 المرتبة الخامسة عالميا من بين منتجي مادة الفوسفات، والذي يتم تحويله إلى أسمدة كيميائية منذ أن بدأت في خمسينيات القرن الماضي تصنيعها.

وشهدت كميات إنتاج الفوسفات خاصة في مدن الحوض المنجمي (محافظة قفصة بالجنوب الغربي)، تدنيا خلال السنوات الأخيرة بسبب تتالي التحركات الاحتجاجية، وتوقف النشاط لأشهر، وقطع سكة القطار التي كانت تنقل الفوسفات من غرب البلاد إلى شرقها.

هذا الوضع دفع خبراء الاقتصاد في البلد الذي يعيش أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فاقمت من آثارها جائحة كورونا، إلى دق ناقوس الخطر، محذرين من خطورة الوضع الذي قد يقلل من ثقة المستمثرين مع تونس، ودفعهم للبحث عن مزودين آخرين بالأسمدة الكيميائية. 

في المقابل، لا يزال الوضع في مدن "الحوض المنجمي" على حاله من السوء والتهميش على الرغم من مرور قرابة 10 سنوات على الثورة التونسية التي طالبت بالتشغيل والكرامة والمساواة بين المواطنين والمناطق. 

سابقة خطيرة 

قبل الثورة وتحديدا عام 2010 حلت تونس في المركز الثاني بعد المغرب، وفق تقرير الاتحاد العربي للأسمدة, تليها الأردن وسوريا ومصر والجزائر، لكن اليوم بات مستوى إنتاجها في الحضيض جراء تنامي الاحتجاجات في الجنوب.

فبعدما كانت تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج الفوسفات، أصبحت اليوم غير مُصنفة بسبب تعطل الإنتاج نتيجة الإضرابات المتصاعدة, وبات مصير شركة فوسفات قفصة مهددا بالإفلاس، مسببا انخفاض النمو في البلاد.

تراجع إنتاج الفوسفات التجاري في "قفصة" منذ بداية العام 2020 بنسبة 36 %، حيث لم تنتج شركة فوسفات قفصة إلى حدود بداية شهر أغسطس/ آب خلال هذه الفترة سوى 2.1 مليون طن من هذه المادة مقابل هدف رسمته لنفسها ويقضي بتحقيق 3.3 مليون طن.

وحسب تصريح للمدير المركزي للإنتاج بشركة فوسفات قفصة، خالد الورغ لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، فإن حصيلة شهر يوليو/تموز هي الأسوأ.

ومنذ الثورة في العام 2011، أصبح توقف إنتاج الفوسفات بجميع مراحله من الأحداث المتوقعة في كل الأوقات والفصول ليصبح البحث في السنوات الأخيرة عن كيفية التوصل إلى حلول مع المحتجين وإعادة إنتاجه من أولويات الحكومات المتعاقبة .

التراجع الكبير في الاستهلاك والإنتاج في المجمع الكيميائي دفعه إلى مراسلة وزارة الطاقة والمناجم والانتقال الطاقي لطلب توريد الفوسفات أمام النقص الكبير في الإمدادات من الحوض المنجمي وتعطل نقل الفوسفات.

وتعاني شركة فوسفات قفصة، وهي المشغل الرئيسي لعقود طويلة بالجهة، منذ 2011 من تدهور لافت في حجم الإنتاج التجاري بسبب تواتر احتجاجات طالبي الشغل على وجه الخصوص، إذ لم يتجاوز إنتاج الفوسفات في السنوات الاخيرة مستوى 40 بالمائة من طاقة إنتاج الشركة لسنة 2010.

كما لم يتعد معدل إنتاجها السنوي في السنوات الاخيرة 5ر3 مليون طن من الفوسفات التجاري مقابل أكثر من 8 ملايين طن في عام 2010 ، حسب معطيات لشركة قفصة.

في السياق، أظهرت مؤشرات نشرها يوم 15 أغسطس/آب 2020، المعهد الوطني للإحصاء أن الاقتصاد التونسي انكمش خلال النصف الأول من سنة 2020، بنسبة 11،9 في المئة مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2019.

ووفق المعهد، سجل الاقتصاد التونسي تراجعا في الناتج الإجمالي خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية بنسبة غير مسبوقة بلغت ناقص 21،6 %.

كما أكد ذات المعهد ارتفاع نسبة البطالة في تونس لتبلغ 18% خلال الثلاثي الثاني من سنة 2020، إذ بلغ عدد العاطلين عن العمل 746 ألفا من مجموع السكان النشطين. 

تحركات اجتماعية

هذه الأرقام الصادمة، استقبلت الحكومة الجديدة التي لم يمض على تكليفها سوى أسابيع قليلة، لتتحمل مسؤولية تركة كبيرة، من التراجع الاقتصادي والوضع الاجتماعي المتفاقم، والذي ضاعفته أزمة جائحة كورونا وإجراءات الوقاية التي اتخذتها الحكومة السابقة. 

وقبل سنتين من اندلاع شرارة ثورة الربيع العربي في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 في مدينة سيدي بوزيد، اندلعت انتفاضة شعبية واسعة في مدينة قفصة، في العام 2008 عرفت حينها بانتفاضة "الحوض المنجمي". 

رفعت الانتفاضة حينها مطالب بالتنمية والتشغيل في المدينة التي تضم أكبر مناجم الفوسفات في تونس وأقدمها، وتقدم جزءا هاما من الدخل الخام للبلد الذي يعتبر ذا موارد باطنية محدودة. 

قمعت السلطات بشدة هذه التحركات الاحتجاجية السلمية ذات الطابع الاجتماعي والتي شارك فيها شريحة واسعة من سكان المنطقة، مما خلف عدة قتلى ومئات المعتقلين، إلى جانب تعذيب الناشطين الحقوقيين والنقابيين والصحفيين الذين حكم عليهم بأحكام كبيرة بالسجن. 

إلا أن نفس المطالب التي رفعت خلال تلك المرحلة لا تزال مستمرة خلال السنوات التي تلت الثورة في تونس، حيث شهد شهر يوليو/تموز المنقضي 798 تحركا احتجاجیا، احتكرت ولایة قفصة لوحدھا 319 تحركا احتجاجیا، أي ما یمثل %39.3 من المجموع الجملي للاحتجاجات التي شھدتھا مختلف ولایات الجمھوریة على امتداد الشھر، وفق ما كشفه التقرير الشهري للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لشهر يوليو/تموز 2020.

وتركزت أغلب التحركات بمنطقة الحوض المنجمي وكانت في شكل اعتصامات تسببت في حالة شلل كلي لمواقع إنتاج الفوسفات لأكثر من شھر وإيقاف تام لنقله نحو معامل المجمع الكیمیائي، مما تسبب في إعلان المجمع للقوة القاھرة على المستوى العالمي والتلويح بإمكانية إحالة عماله على البطالة الفنیة.

وأكد رئيس الحكومة هشام المشيشي، يوم 19 سبتمبر/أيلول 2020، استقرار الوضع الأمني نسبيا، مستدركا أنه استقرار مرفوق بجملة من الاحتجاجات ببعض الجهات.

وأضاف المشيشي، في تصريح له أن الاحتجاجات ببعض الولايات المطالبة بالتنمية والتشغيل تسببت في بعض الأحيان في تعطيل الإنتاج.

وأشار، في هذا الصدد، إلى أن الحكومة تعمل جاهدة من أجل التوصل إلى حلول، مصرحا: "نحن منكبون على دراسة هذه الملفات وفي الأسابيع القادمة سنحل هذه الإشكاليات بما يمكن من استئناف العمل وعودة المجهود التنموي، خاصة فيما يتعلق بملفي الفوسفات والكامور (حقل نفط في ولاية تطاوين أقصى الجنوب التونسي تم إغلاقها احتجاجا على الوضع الاجتماعي والبطالة). 

وفي تصريح لإذاعة شمس على هامش انعقاد ندوة الولاة، قال هشام المشيشي: إن توقف إنتاج ونقل الفوسفات لم يعُد مسموحا به، مؤكدا أن ذلك تسبب في أزمة كبيرة على مستوى موارد الدولة.

لوبيات الفساد 

إلا أن هذه التحركات المتكررة ليست السبب الوحيد المتهم بتعطيل إنتاج الفوسفات في تونس ونقله إلى المصانع بالمدن الساحلية. 

وتتهم جهات نافذة في الدولة باستغلال الحركات الاحتجاجية وتطويعها في مرات أخرى من أجل خدمة مصالح ذاتية للشركات الناقلة للفوسفات، بدلا من النقل عبر السكة الحديدية. 

وعجزت الحكومات المتتالية عن حل مشكل نقل الفوسفات ما أدى إلى تراجع مساهمة قطاع المناجم إجمالا، وهو ما أظهر شبهات فساد وإجرام بخصوص فرضية دور الشركات الخاصة للنقل في تمديد هذه الأزمة عبر الأعمال التخريبية للسكك الحديدية أو لقاطرات النقل على غرار حادثة حرق قاطرة ومحاولة حرق أخرى لشحن الفوسفات التجاري يوم 15 مايو/أيار 2020. 

كما أعلن مرصد "رقابة"، المختص في مكافحة الفساد، يوم 29 يوليو/تموز 2020، أنه أودع اليوم شكاية لدى القطب القضائي الاقتصادي والمالي تتعلق بـ"الإخلالات والتجاوزات الكبرى وشبهات الفساد في صفقات نقل الفوسفات عبر الشاحنات للسنوات من 2013 إلى 2019"، مبينا أن هذه الشكوى تأتي بعد "تقصي معمق بالاستعانة بكفاءات وطنية نظيفة".

وأضاف أن العمل على هذا الملف مكن "من فهم أحد أسباب تدهور وضع شركة فوسفات قفصة ومن معرفة شبكة علاقات المصلحة التي خربت الشركة وأضرت بالتوازنات المالية للبلاد لغرض خدمة مصالح عدد محدود من الأشخاص النافذين باستعمال التحركات الاجتماعية والنقابية والنعرات العروشية"، مضيفا أنه "لو وضعت الأموال المنهوبة في التنمية في الجهة لتحول الحوض المنجمي إلى قطب غني ومزدهر"

واتهم المرصد مجموعة من المسؤولين قائلا: إنهم "يتحملون مسؤولية الإخلالات المذكورة" منهم المدير العام الحالي وثلاثة رؤساء مديرين عامين سابقين ووزير الصناعة السابق سليم الفرياني وعدد من المسؤولين في الشركة وأعضاء لجان تقييم العروض وصاحبي شركة نقل أحدهما عضو حالي بمجلس نواب الشعب.