سيد حجاب.. شاعر مصري كتب بلغة الناس ودافع عن ثورتهم

منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"من انكسار الروح في دوح الوطن.. يجي احتضار الشوق في سجن البدن.. من اختمار الحلم ييجي النهار.. يعود غريب الدار لـ أهل وسكن"، كتبها الشاعر المصري سيد حجاب في تتر مسلسل "ليالي الحلمية" عام 1987.

حجاب، رائد الأغنية الدرامية المصرية، الذي قالوا عنه: "شاعر بألف مما يعدون"، ربط ببراعة الكلمة العامية ونحتها نحتا لتعبر عن الشعب ويرددها من وحي الأعمال الفنية والدرامية في عصرها الذهبي خلال فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. 

رسم حجاب الذي تحل في 23 سبتمبر/أيلول ذكرى مولده، خطا فاصلا بين قوة الكلمة ومدلولها، وأبدع في التلاعب بالألفاظ، لتناسب جميع طبقات الشعب المصري، ويستمتع الجميع بسحرها، من المثقفين والرواد، إلى الطبقات الشعبية داخل الأحياء التراثية والفقيرة.

وقولب الرجل الوجدان المصري العريق متعدد الثقافات والأعراق والضارب في جذور التاريخ، داخل قصائده الخالدة، ونقل صورتها إلى العالم العربي الذي تأثر بتلك الأعمال، ورأى فيها صورة شاملة للمجتمع المصري، حتى يومنا هذا. 

ومن هذه الأعمال: "بوابة الحلواني" و"المال والبنون" و"ليالي الحلمية" إلى درة أعماله على الإطلاق "أرابيسك"، مرورا بالقصائد السياسية مثل "سلوا قلبي" التي كتبها على وزن قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي بنفس العنوان، ولكن مغزاها كان مختلفا، إذ رصد سيد حجاب واقع فساد السلطة ونهب أموال المصريين، فكان صوته من الشعب وإليه. 

ملامح الشخصية

ولد شاعر العامية المصرية سيد حجاب في 1940 بمدينة المطرية في محافظة الدقهلية، وقد تأثر بمكان مولده والبيئة التي عاش فيها، لأن المطرية مدينة تقع في منتصف جنوب بحيرة المنزلة التي تقع بدورها في شمال شرق دلتا نهر النيل، ويحدها شمالا البحر المتوسط، ومحافظة بورسعيد وجنوبا محافظتي الشرقية والدقهلية وشرقا قناة السويس. 

ولتلك المدينة باع طويل في مقاومة الاحتلال الفرنسي، بقيادة شيخ مشايخ إقليم المنزلة حسن طوبار، الذي يتداول أهل تلك البقاع سيرته وبطولاته إلى الآن، وكذلك راح كثير من شباب المطرية ضحايا حفر قناة السويس الذي بدأ عام 1859، وكل تلك الأحداث والتراث التاريخي لمحيطه أثر في وجدان سيد حجاب. 

ورغم الميول الأدبي والفني لسيد حجاب منذ صغره، فإنه التحق بقسم العمارة بكلية هندسة جامعة الإسكندرية عام 1956، ثم انتقل إلى جامعة القاهرة لدراسة هندسة التعدين عام 1958.

أما الملهم الأول الذي فجر مكنون سيد حجاب ووجهه إلى الشعر والإحساس بالكلمات، فهو والده فقد كان يشاهده في جلسات المصطبة الشعرية وهو يلقي الشعر للصيادين في مبارزات يلقي فيها كل صياد ما عنده.

كان حجاب يدون كل ما يقوله الصيادون ويحاول محاكاتهم وكان يخفي ذلك عن والده حتى أطلعه على أول قصيدة كتبها وهو في سن العاشرة من عمره عن شهيد باسم "نبيل منصور".

شجعه والده على المضي قدما في هذا الاتجاه حتى دخل المدرسة، وبدأت موهبته تترعرع، بمصادقة معلمه شحاته سليم، مدرس الرسم والمشرف على النشاط الرياضي، والذي علمه كيف يكتب عن الناس وواقعهم ومشاعرهم في قريته.

نحو الاحتراف 

عندما انتقل سيد حجاب إلى الإسكندرية لدراسة الهندسة، كانت المدينة الساحلية الملقبة بـ "عروس البحر المتوسط"، تعج بعالم المسرح والحياة الثقافية والفنية، ويتوافد إليها كبار الشعراء ورموز الفن والأدب، وهناك كانت بداية تعارفه الجاد على عالم الشعراء والاهتمام بالكتابة الاحترافية للأشعار، ونشرها. 

ومع انتقاله إلى العاصمة المصرية القاهرة عام 1958، كتب قصائده باللغة العربية الفصحى، حيث كان المتداول حينها أن الشعر بغير الفصحى لا يعد شعرا من الأساس، ولم يكن قد كتب بالعامية، وهناك التقطه وقرأ قصائده الدكتور محمد مندور ليقرر تقديمه للتلفزيون والصحف معتبرا أنه أحد أهم المواهب الصاعدة في الأدب والشعر.

وبعد فترة نشر حجاب قصائد له باللغة العامية للمرة الأولى، وهنا تعرف عليه الشاعر الكبير صلاح جاهين، وهو التعارف الذي كان فارقا في مسيرة سيد حجاب.

وقد تحدث عن تفاصيل ذلك اللقاء، وقال: "بدأت إلقاء الشعر أمام صلاح جاهين، وجهه متجهم لا يبتسم، كل ما يصدر عنه إشارة: قول كمان".

ويتابع: "أنهيت القصيدة الأولى والثانية وفي الثالثة فوجئت بالوجه العبوس المكشر يضحك وينتفض ليحتضنني". وأردف: "ابتدت رحلة مرافقتي لصلاح جاهين، شغلني ولم يتركني ورشحني للكتابة في أكثر من عمل، اتبناني بالمعنى الحقيقي، وكان له نصيحة ذهبية (اللي تعرف تكتبه في سطرين متكتبوش في تلاته)". 

وبالفعل أصبح حجاب من رواد شعراء العامية في سنوات قليلة، حتى قال عنه الشاعر المصري عبد الوهاب البياتي عام 1966: إنه "من الشعراء القلائل الذين كتبوا بلغة الناس البسيطة، واستطاعوا أن يخترقوا جدار الصمت، لينفذوا إلى جوهر الأشياء، عبر استخدام لغة الحديث اليومي لتحريك الأشواق إلى عالم جديد، متخطين عقبات الرموز واللغة، حتى كأنك تسمعها لأول مرة"

وتابع: "إن الطبيعة الصامتة والحزن والكلمات تستحيل في قصائد هذا الشاعر الموهوب، إلى دلالات حية، تنبض بحرارة الخلق وبكارته"

تراث عظيم 

حظي المصريون بالاستمتاع بكلمات وقصائد حجاب بشكل أكبر، عندما دخل إلى عالم كتابة تترات المسلسلات والأعمال الفنية، التي برع فيها وأصبح رائد مجالها بلا منازع.

وما زال قطاع من الشعب المصري يحفظ كلمات وأهازيج تلك التحف الفنية عن ظهر قلب، وأصبحت معادلة الرمزية الثقافية للمصريين، ظاهرة في لوحات كلماته العابرة والمعبرة عن الشخصية المصرية المعاصرة، تماما كما عبرت روايات الأديب العالمي نجيب محفوظ عن الحارة والمجتمع المصري في زمانها. 

وهو ما حدث حينما كتب شارة مسلسل "أرابيسك" عام 1994، ونجح في اللعب بالكلمات المعقدة وتشابكها، وكان هو السبب الرئيسي في نجاح المسلسل، بوصف رائع لمشاعر إنسانية عايشها الكثيرون، صاغها الموسيقار عمار الشريعي بأوتار عوده، وصوت المطرب حسن فؤاد، في انسجام فريد لا ينسى إلى الآن. 

ودون في مطلعها "وينفِلِت من بين إيدينا الزمان.. كإنه سَحبة قوس في أوتار كمان.. وتنفرط الأيام عود كهرمان.. يتفرفط النور، والحنان والأمان" ثم يضيف في مقطع آخر: "الغش طرطش رش ع الوش بوية.. ما درتش مين بلياتشو أو مين رزين.. شاب الزمان و شقيت.. وعمي مش شكل أبويا.. شاهت وشوشنا تهنا بين شين و زين.. ولسه ياما و ياما حنشوف كمان". 

ومن ذلك الإطار الملحمي لا يمكن أن ينسى المشاهد لأعمال الدراما المصرية الدور المهم الذي لعبه سيد حجاب في تلك الأعمال لدرجة أنه ربما يتناسى تفاصيل العمل الدرامي لكنه أبدا لا ينسى شارات المقدمة والنهاية لتلك الأعمال التي تمكن فيها من وصف معالم الشخصيات والأحداث والأجواء التي تدور في هذا العمل. 

وهو ما حدث تماما عام 1987، عندما كتب أسامة أنور عكاشة أحد أبرز أعمال الدراما المصرية عبر التاريخ، وهو مسلسل "ليالي الحلمية"، ونجح سيد حجاب في صياغة أحداثه التي صورت التاريخ المصري في قصيدة من كلماته، وألحان ميشيل المصري، وغناها المطرب محمد الحلو.

وقال فيها: "ومنين بيجي الشجن.. من اختلاف الزمن.. ومنين بيجي الهوى.. من ائتلاف الهوى.. ومنين بيجي السواد.. من الطمع والعناد.. ومنين بيجي الرضا.. من الإيمان بالقضا.. من انكسار الروح.. في دوح الوطن.. يجي احتضار الشوق.. في سجن البدن.. من اختمار الحلم.. يجي النهار.. يعود غريب الدار.. لأهل وسكن". 

متعدد المواهب

لم يقف سيد حجاب خلال مسيرته الطويلة على كتابة الشعر والأغاني والمسرح، بل إنه بالإضافة إلى هذا كله ترجم "أوبرا الثلاث بنسات" العالمية لبريخت إلى العربية.

كما كتب أوبرا عربية عن رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ، وأوبرا شعبية عن رواية "السقا مات" ليوسف السباعي، إضافة لكتابة ثلاث أوبرات قصيرة عن قصص قصيرة ليوسف إدريس: (فوق حدود العقل، وحالة تلبس، ومسحوق الهمس).

كما قام بالكتابة للأطفال بمجلة "سمير وميكي" إلى جانب العديد من القصص والمسلسلات والأشعار وتعد تجربته مع عمار الشريعي بألبومي الأطفال "أطفال أطفال" و"سوسة" من أنجح التجارب الغنائية التي قدمت للطفل.

وكأنه أراد أن يخاطب المصريين بعمومهم وشمولهم، من أعلى هرم الأدباء والمثقفين والأكاديميين، إلى الطبقة المتوسطة والفقيرة، والفلاح والعامل والموظف، وصولا إلى قاعدة الهرم المتمثلة في الأطفال. 

وكذلك كتب سيد حجاب مقالات نقدية لمجلة "الأدب" اللبنانية، وجريدة "المساء"، ومجلة "صباح الخير" ومجلة "روز اليوسف". 

الثورة والرحيل

لم ينفصل سيد حجاب عن المواطن المصري طوال سنوات حياته، وحتى في محنتهم وملحمتهم الكبرى يوم ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، فشارك بقلمه ووجدانه ضد نظام حسني مبارك. 

كيف لا؟! وهو من كتب في عشق القاهرة واحدة من أجمل روائعه عندما خط ببنانه: "هنا القاهرة.. الساحرة الآسِرة.. الهادرة الساهرة.. الساترة السافرة.. هنا القاهرة الزاهرة العاطرة الشاعرة النيّرة الخيّرة الطاهرة.. هنا القاهرة الساخرة القادرة الصابرة المنذرة الثائرة الظافرة.. صدى الهمس في الزحمة و الشوشرة.. أسى الوحدة في اللمة و النتورة.. هنا الحب والكدب والمنظرة". 

ثم كتب في خضم الثورة قائلا: "تاج رأس سلالات الجهالات الطغاة الصغار.. ذوي المقامات والمذمات اللصوص الكبار.. أصحاب جلالة العار.. أصحاب فخامة الانبطاح والسعار.. أصحاب سمو الخسة والانحدار.. أصحاب معالي الذلة والانكسار".  

وجاءت ساعة الرحيل في الذكرى السادسة للثورة، يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2017، لينعيه سائر الشعب المصري، ويتذكرون قصائده، خاصة تلك التي قال فيها: "خايف يا صاحبي بموتك يبتدي موتي.. مهي ناس توصل في ناس وكلنا مروحين.. بس إحنا حتى إن رحلنا برضو مش رايحين.. هنعيش في ريم وفي مراد وفي دندنات الولاد.. بغنوة فارشة على ممشى الشقى رايحين".