فيضانات مدمرة.. كيف ساهمت في تدهور اقتصاد السودان المنهك؟

طارق الشال | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

يواجه الاقتصاد السوداني المنهك العديد من الأزمات، في مقدمتها ارتفاع معدل التضخم والتراجع الحاد في العملة المحلية والنقص الكبير في الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية وارتفاع معدلات البطالة، دون وجود أي خطة من قبل الحكومة لدفع عجلة النمو إلى الأمام، كما ضاعفت السيول والفيضانات التي اجتاحت البلاد مؤخرا من الأثر السلبي على الاقتصاد.

وأعلن جهاز الإحصاء المركزي، ارتفاع معدلات التضخم لشهر أغسطس/ آب 2020 إلى 166.83%، بزيادة 23 % عن يوليو/ تموز من نفس العام، حيث سجل 143٪، وعزا ذلك إلى ارتفاع مكونات مجموعة من السلع الغذائية والمشروبات، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل في المواصلات العامة، مشيرا إلى ارتفاع معدلات التضخم في المناطق الحضرية والريفية.

وانفلت سعر الدولار في السوق السوداء بالسودان ليتخطى حاجز 260 جنيها لأول مرة في تاريخه في حين يبلغ سعره الرسمي 55 جنيها، الأمر الذي دفع الحكومة إلى فرض حالة الطوارئ الاقتصادية وإعلان الحرب على المضاربين والتحرك من أجل الحد من تدهور العملة المحلية.

ووفقا لبيانات البنك المركزي السوداني، قفز عجز الميزان التجاري السوداني (الفرق بين قيمة الصادرات والواردات)، بنسبة 51.2 % على أساس سنوي خلال النصف الأول من 2020، إلى 2.493 مليار دولار من 1.648 مليار دولار في النصف الأول من 2019.

وتضرر الميزان التجاري للبلاد؛ بفعل تراجع العملة المحلية والصادرات، وارتفاع قيمة الواردات من الخارج، مع زيادة المصاعب والزيادات في تكاليف الإنتاج.

ووفق بيانات البنك المركزي، تراجعت الصادرات إلى الخارج بنسبة 15.1 % في النصف الأول من العام 2020 إلى 1.499 مليار دولار، نزولا من 1.767 مليار دولار في الفترة المقابلة من العام السابق.

في المقابل، ارتفعت قيمة الواردات خلال الفترة بنسبة 16.9 %إلى 3.99 مليارات دولار، مقارنة مع 3.415 مليارات دولار في الفترة المقابلة من العام الماضي.

وقد تعرض الاقتصاد السوداني لهزات عنيفة أضيفت لتلك الأزمة المستفحلة، وتمثل ذلك في انتشار فيروس كورونا وما صاحبه من إجراءات إغلاق أدت إلى إضعاف إيرادات الدولة.

ومن المنتظر أن ينعقد في نهاية الشهر الحالي (سبتمبر/أيلول) المؤتمر الاقتصادي الذي تشارك فيه أحزاب التحالف والحكومة وخبراء اقتصاديون لمناقشة الأوضاع الاقتصادية في البلاد ووضع حلول إستراتيجية متفق عليها.

تضخم متفاقم

وتشير تقديرات جامعة هوكينز الأميركية إلى أن السودان أصبح الدولة الرابعة عالميا في التضخم القياسي بعد فنزويلا وزيمبابوي ولبنان.

وبحسب الخبير الاقتصادي، محمد الناير، فإن زيادة معدل التضخم بصورة كبيرة تؤثر سلبا على كل أفراد الشعب السوداني وبخاصه الشرائح الفقيرة، مشيرا إلى أن  اللجنة التي تُعد لإقامة المؤتمر الاقتصادي قدرت مستوى الفقر في البلاد بنحو 70%، في وقت أصبح فيه الدخل يعادل نسبة قليلة جدا من مستوى المعيشة المطلوب للأسر.

ويحتل السودان المرتبة الأخيرة في قائمة الدول العربية في معدل دخل الفرد بـ 720 دولارا، طبقا لتقرير صندوق النقد الدولي في 2019.

وأشار الناير، لـ"الاستقلال"، إلى أن معدل التضخم سيواصل ارتفاعه نتيجة سياسة الدولة المتبعة والتي تقود إلى مزيد من الارتفاع في معدل التضخم برفع أسعار البنزين والجازولين في مطلع العام 2020، بالإضافة إلى الحديث عن نية الحكومة تحرير سعر صرف العملة المحلية في وقت تعاني فيه البلاد من تراجع حاد في احتياطاتها الأجنبية.

وأشار إلى أن هذه الخطوة تتطلب وجود ما لا يقل عن 5 مليارات دولار في الاحتياطي الأجنبي للدولة كخطوة أولى، وإلا يعد ذلك "انتحارا".  

وأضاف الناير، أن الحكومة أقرت مجموعة من القرارات الجائرة في حق المواطن السوداني من خلال التعديلات التي اتخذتها في موازنة 2020 مؤخرا، من زيادة في الدولار الجمركي وزيادة أخرى في أسعار البنزين والجازولين، ورفع أسعار الكهرباء على المواطنين عدا الشرائح التي تستهلك 200 كيلو وات في الشهر، مع زيادة الضرائب.

وشدد على أن كل تلك القرارات تؤدي إلى زيادة معدل التضخم بصورة كبيرة وبالتالي تتفاقم الأزمة.  

وأجازت الحكومة السودانية في منتصف شهر أغسطس/ آب، تعديلات في موازنة العام الجاري، نتيجة تراجع الإيرادات التي بنيت عليها الموازنة بنحو 40% وبخاصة الضريبية منها، بسبب الإغلاق الكلي والجزئي الذي شهده البلاد لتفشي فيروس كورونا، والتي شملت:  

- رفع الدعم عن المحروقات بنسبة 75% والكهرباء بنحو 41%.

- زيادة دعم القمح من 34 مليار جنيه إلى 54 مليار جنيه بنسبة زيادة 59%.

- تحرير تدريجي لسعر الصرف، وذلك بحساب المنح والقروض الأجنبية بسعر 120 جنيها للدولار بدلا من 55 جنيها، أي تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 201%. بالإضافة إلى رفع سعر الدولار الجمركي بمعدل ثابت شهريا وصولا إلى سعره الحقيقي خلال عامين.

- تراجع في تقدير الإيرادات بمعدل 42%، أي من 568.3 مليار جنيه في الموازنة الأصلية إلى 396.1 مليار جنيه في الموازنة المعدلة مع ارتفاع مصروفات الموازنة المعدلة بنسبة 8%.

- ارتفاع عجز الموازنة من 73 مليار جنيه إلى 254.3 مليار جنيه، أي بنسبة 350% من الموازنة الأصلية.

- ارتفاع حجم الاستدانة من البنك المركزي بنسبة 330% لسد عجز الموازنة، معدل 180% منها في النصف الأول (108 مليارات جنيه).

- تراجع تقديرات عائدات الصادر من 4.14 مليار دولار في الموازنة الأصلية إلى 2.85 مليار دولار، أي بنسبة 31% من الموازنة الأصلية.

- انخفاض الدعم الخارجي لتمويل الموازنة إلى 0.4% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بـ 1.2% في الموازنة الأصلية.

من جانبه قال الخبير في الشأن السوداني، موسى مهدي: إن السودان يعاني من تضخم مفرط وأن جميع الأرقام المذكورة لا تمثل شيئا يذكر من الواقع، مشيرا إلى أن السلع الرئيسية تضاعف سعرها خلال الشهرين الماضيين فقط، وبالنهاية يؤدي ذلك إلى انهيار كامل في الاقتصاد السوداني.

وأوضح مهدي، لـ"الاستقلال"، أن الدولة لا تستطيع إدارة الأدوات الاقتصادية الموجودة رغم امتلاكها العديد من الموارد مثل الثروة المعدنية والحيوانية والزراعية.

وتساءل: كيف لتلك الحكومة التي تسير بهذا الشكل أن تحدد الأسعار أو السلع التي تحتاجها البلاد "حتى أن المسؤولين عن الملف الاقتصادي في البلاد غير واضحين في طرحهم للمؤشرات الاقتصادية".

فالاقتصاد لا بد أن يقام على أسس إنتاجية، مما يخلق نوعا من التوازن بين الإنتاج والتصدير من جهة وبين الواردات التي تمتص من احتياطي البلاد "والذي تلاشى حتى وصل الآن إلى صفر" من جهة أخرى، وبالتالي مع تلاشي القاعدة الإنتاجية وانعدامها وتراجع قيمة الجنيه السوداني سيظل التضخم في تزايد مستمر.

إنقاذ الجنيه

وتعد السياسة النقدية هي أبرز الآليات الواجب تصحيحها والعمل على تقويم أدواتها من أجل تعطيل هذا الانزلاق الذي تسير فيه العملة المحلية.

وقالت وزيرة المالية السودانية، هبة أحمد علي: إنه "تقرر تكوين قوات مشتركة وسن قوانين رادعة لحماية الاقتصاد السوداني، وتشكيل محاكم ونيابات للطوارئ" وأكدت أن "ما يحدث من ارتفاع جنوني في سعر الدولار لم يكن بسبب تغييرات هيكلية في الاقتصاد، وإنما هو عملية تخريب ممنهج لخنق الحكومة".

وبدوره، أكد الناير، أن الخطوات الواجب اتباعها لإيقاف تدهور الجنية السوداني تتم من خلال العمل على استقرار سعر الصرف "والذي لم تفعل الدولة حياله أي شيء حتى الآن".

كما أشار إلى ضرورة الاتجاه نحو إنشاء بورصة للذهب حتى يكون سوق منظم لتداول هذا المعدن النفيس ليتم الحد من تهريب نحو 80% من الذهب الذي ينتج في السودان، وبالتالي يتم علاج مشكلة العجز في الميزان التجاري.

كذلك ضرورة تحفيز العاملين بالخارج من المواطنين من قبل الدولة من خلال حوافز تشجيعية لدفعهم لتحويل الأموال عبر القنوات الرسمية، مما سيساهم في علاج ميزان المدفوعات.

وأضاف أنه كان على الدولة في بداية عهدها للفترة الانتقالية الشروع في تبديل العملة لإغلاق الباب أمام الذين يسعون لاستبدال ما لديهم من عملات أجنبية قد تكون مكتسبة بطرق غير مشروعة لتحويلها إلى دولار أو ذهب من أجل تهريبها إلى الخارج.

واستدرك: "ولكن سيظل الوضع قائما باعتبار أن 92% من حجم الكتلة النقدية في السودان خارج النظام المصرفي أي لدى الجمهور، مقابل 8% فقط من الكتلة النقدية في حوزة القطاع المصرفي، وبالتالي فنحن أمام معادلة مشوهة جدا تحتاج إلى توازن كبير. من الممكن أن يأتي هذا التوازن عبر سياسة تبديل العملة والتحويل عبر منظومة الدفع الإلكتروني".

وفي مطلع شهر مايو/ آيار 2020، أعلن رئيس وزراء السودان، عبد الله حمدوك، أن ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا سينشئ بورصة للمعدن النفيس.

وبدأ السودان في يناير/ كانون الثاني 2020، السماح لتجار القطاع الخاص بتصدير الذهب، في إجراء يستهدف القضاء على التهريب واجتذاب نقد أجنبي إلى خزانة البلاد التي تعاني أزمة سيولة.

وقبل القواعد الجديدة، كان البنك المركزي يشتري الذهب بخصم عن السعر العالمي. ونتيجة لذلك، كان يجري تهريب ما يقدر بين 70% و80% منه إلى الخارج، بحسب مسؤولين حكوميين، وهو ما أضر بخزينة الدولة.

وبحسب هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، تشير التقديرات إلى أن السودان أنتج 93 طنا من الذهب في 2018، مما يجعله ثالث أكبر منتج في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا.

ويرى الخبير الاقتصادي، أن من الضروري العمل على زيادة الإنتاجية وبخاصة الزراعية زيادة رأسية، والاهتمام بالبحث العلمي ونقل التكنولوجيا، وتصنيع السلع السودانية داخل البلاد بدلا من تصديرها كمواد خام مما يحقق قيمة مضافة.

وقال: "في حال كانت عملت الحكومة الحالية على هذه البرامج سواء قصيرة المدى أو طويلة المدى منذ توليها مقاليد الحكم قبل عام لكانت الآن تحصد ثمار بعضها".    

ولفت إلى أن موارد الدولة إذا تم توظيفها بشكل صحيح ستحصل الدولة على موارد من العملات الصعبة، ومن ثم سيعاود الجنيه استرجاع قيمته، مشيرا إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في وجود انهيار سياسي وفقدان الحكومة القدرة على إدارة الاقتصاد.

حكومة فوضى

وعمق من هذه الأزمات ما جرى في مطلع سبتمبر/أيلول، حيث ضربت السودان فيضانات النيلين الأزرق والأبيض مما خلف خسائر فادحة، لتضرر أكثر من 750 ألف مواطن وينهار أكثر من 100 ألف منزل، كما تأثرت كل المزارع والبساتين على شاطئ النيل الذي يوفر 90% من احتياجات العاصمة من الخضروات والفواكه واللحوم البيضاء والألبان.

وأشار رئيس الحكمة السودانية خلال حواره مع "سكاي نيوز"، إلى أن الفيضانات والسيول ضربت كل البلد بشكل غير مسبوق، مضيفا: "تأخرنا كثيرا في إعلان حالة الطوارئ لتخيلنا أننا نستطيع أن نعالج الكارثة بإمكاناتنا وقدراتنا، لكن هذه الكارثة فاقت كل تصور".

وتابع: "ما كان عندنا أي سبيل غير إعلان حالة الطوارئ حتى نستفيد من دعم الدول الشقيقة والصديقة ومنظمة الأمم المتحدة".

وقدر الخبير الاقتصادي، عادل عبد المنعم، في حديثه لصحيفة العربي الجديد، تكلفة إعادة إعمار ما دمرته السيول والفيضانات في السودان بملياري دولار منها خسائر زراعية وسكنية وفي البنية التحتية، مشيرا إلى تضرر أكثر من نصف مليون فدان زراعي من تبعات الفيضانات.

وفي خضم كل تلك الأزمات الاقتصادية لا تزال حكومة عبد الله حمدوك عاجزة عن تقديم يد المساعدة للمواطن دون تحقيق أي إنجاز حقيقي يذكر، ولا يزال معظم السودانيين ينتظرون في الطوابير لساعات طويلة لشراء البقالة أو ملء خزانات سياراتهم.

هذا بالإضافة إلى أزمة الخبز الخانقة التي يحذر منها خبراء اقتصاديون خلال الأيام القادمة، وذلك بسبب توقف 50٪ من المخابز العاملة في الخرطوم عن العمل لأسباب مختلفة، أبرزها شح الدقيق وانعدام الغاز، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة إنتاج الخبز.

وقال الناير: إن حكومة حمدوك أهملت الملف الاقتصادي واتسم أداؤها بالبطء الشديد في هذا الملف، كما أنها لا تستطيع التغلب على المشكلات الموجودة كنقص الخبز والمحروقات والأدوية وغيرها من السلع الضرورية.

وأشار إلى أنه لا بد من إعلاء مبدأ الاستقالة والإقالة "بمعنى أنه في حال فشل مسؤول ما في أداء مهامه لا بد من إقالته إذا لم يستقل".

فيما يرى مهدي، أن حكومة حمدوك فشلت منذ اليوم الأول ولم تحقق أي شيء، واصفا إياها بـ"حكومة فوضى"، مشيرا إلى أنه لا يمكن أن يدار اقتصاد دولة من خلال مليشيات.

وتابع: أن "حكومة حمدوك لم تتمكن حتى من إجراء إصلاح حقيقي على المستوى السياسي، فهي فشلت في تحقيق الأمن وإعادة الهيبة للجيش السوداني وفي تأسيس حكم ديمقراطي، ولا تملك خطة اقتصادية".