عمر المختار.. أسد الصحراء الذي يستدعيه الليبيون مع عودة المستعمر

آدم يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي".

بهذه الكلمات أنهى المجاهد الليبي عمر المختار أكثر من 7 عقود من حياته، ليثبت بذلك أن مشروعه التحرري أطول من مشروع الغازي الاستعماري، وأن التاريخ سيخلد اسمه كمجاهد دافع عن أرضه وعرضه، ويخلد اسم الغازي كمستعمر مجرم وقاتل.

في 16 سبتمبر/أيلول 2020، تحل ذكرى استشهاد المجاهد عمر المختار الذي نفذ فيه المستعمر الإيطالي حكم الإعدام شنقا عام 1931، بعد مقاومة استمرت طيلة 20 عاما، كبد الطليان خلالها خسائر فادحة ومريرة.

بعد 6 أيام من إلقاء القبض عليه، عقد الطليان محاكمة عاجلة، وصدر الحكم عليه بالإعدام بتهمة العصيان والتمرد على سلطات الدولة الإيطالية في المستعمرة  الليبية ونصبه كمائن ضد القوات الإيطالية.

تأتي ذكرى استشهاد عمر المختار هذا العام في ظل عودة أطماع الغرب الاستعمارية إلى ليبيا، وتنافسها على توسيع النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.

قرار حاسم

في أكتوبر/تشرين الأول 1911، حسم عمر المختار قراره بمواجهة الغزو الإيطالي، بعد أن أعلنت إيطاليا في 29 سبتمبر/أيلول 1911 الحرب على الدولة العثمانية التي كانت ليبيا في ذلك الوقت جزءا منها.

أنزل الطليان القوات العسكرية بمدينة بنغازي وبدأت السفن بقصف المدن الساحلية، فعلم عمر المختار بذلك وكان حينها في مدينة الكفرة، فعاد مسرعا إلى بلدية القصور، داعيا إلى الجهاد والمقاومة فشكل جيشا قوامه 1000 مقاتل، وشرع بمقاومة القوات الإيطالية بقوات هي أقرب إلى العصابات منها إلى الجيوش النظامية.

في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1912، كان العثمانيون قد انسحبوا من إيطاليا بموجب معاهدة لوزان الأولى (معاهدة أوشي) الموقعة بين إيطاليا والدولة العثمانية، والتي قضت بانسحاب الأخيرة من ليبيا لصالح إيطاليا، فتولى المختار قيادة "المجلس الأعلى" للعمليات الجهادية الذى أدار أعظم المعارك في التاريخ الليبي.

قبل مقاومته للطليان، كان عمر المختار قد خاض حربا ضارية في قلب صحراء تشاد ضد الاحتلال الفرنسي، الأمر الذي أكسبه خبرة قتالية ومعرفة بطبيعة الأرض الصحراوية، وقد كان لتلك الخبرة الفضل في إكسابه مهارات للمناورة مع القوات الإيطالية مكنته من إلحاق الهزائم بهم.

أسد الصحراء

كان المختار الذي لقبه أصحابه بـ "أسد الصحراء" يفهم الصحراء على نحو جيد، وقد اتخذ منها دروبا ومسالك مكنته من تنفيذ كمائن للقوات الإيطالية، ونقطة انطلاق للهجوم منها ثم العودة إليها.

كان المختار ينفذ حملات سريعة على الكتائب الإيطالية، ثم ينسحب سريعا مع قواته إلى قلب الصحراء، ولأن القوات الإيطالية لا تعرف الصحراء وجيوبها جيدا فقد كانت تقف كالبلهاء تتلقى الهجمات تلو الهجمات.

فشل القوات الإيطالية في مواجهة قوات عمر المختار شكل إحراجا بالغا لروما أمام الرأي العام الإيطالي، الذي اتهم قواته بالعجز عن وأد ما سماها حركة تمرد ليبية، فلجأ الاستعمار لمعاقبة المدنيين في القرى والمدن واعتقالهم وتعذيبهم وإعدامهم، بتهمة التستر على عناصر المقاومة.

استطاع المختار أن يستفيد من تناقضات الصحراء والجبال فطوع تلك التضاريس لخدمته، فعلاوة على اتخاذها قاعدة هجوم على القوات الإيطالية الغازية، استطاع أن يقطع من خلالها الإمدادات التي تصل لهذه القوات.


السنوسي اللامع

لم يكن يدور ببال المستعمر الإيطالي بأنه سيواجه مقاومة طويلة الأمد في ليبيا، لهذا أصيب بخيبة أمل تعادل الخسارات التي تكبدها، وباتت مقاومة عمر المختار توصف كأطول فترة مقاومة من جيش غير نظامي لدول استعمارية.

دائرة المعارف البريطانية وصفت تلك المقاومة بكونها طويلة الأمد، قائلة: "بعد احتلال الإيطاليين لليبيا عام 1911 واجهوا مقاومة طويلة الأمد من قبل السنوسيين في برقة، وهي المقاومة التي حرمت الفاشيين من السيطرة التامة على البلاد حتى عام 1931 عندما أسروا وأعدموا قائد المقاومة السنوسية اللامع عمر المختار".

وكتب أندرو نورث في بي بي سي قائلا: "عندما قام الإيطاليون بغزو طرابلس عام 1911، على أمل أن ينظر الليبيون لهم كمحررين من الحكم العثماني، لم يتوقعوا أن تندلع مقاومة ضدهم لمدة 20 عاما في المناطق المحيطة ببنغازي بقيادة عمر المختار".

كانت الحرب إلى جانب كونها طويلة الأمد قد غدت أكثر شراسة، خصوصا بعد الانقلاب الفاشي في إيطاليا في أكتوبر/تشرين الأول 1922، حيث اشتدت الضغوط والهجمات في ليبيا، فزادت في المقابل حدة المقاومة من قبل كتائب المختار، وحصلت مناوشات عديدة ومعارك دامية بين الثوار والقوات الإيطالية الغازية، فلمع اسم عمر المختار كقائد بارع ومحارب ماهر، يجيد الحرب ويتقن أساليب الكر والفر والمناورة.

الهولوكوست الليبي

قرار المقاومة بالنسبة للمختار ورفاقه كان قد أصبح أشد صرامة وأكثر عزما جراء الجرائم التي اقترفتها القوات الإيطالية ضد المدنيين في ليبيا.

ارتكب الطليان في تلك الفترة ما تم وصفه بالهولوكست الليبيي، لارتكابهم عملية إبادة جماعية، في عدة معتقلات ومعسكرات للموت والرعب، من بينها معسكر قرية العقيلة غرب بنغازي، وهي العملية التي وثقتها الكتب وما تزال آثارها حاضرة في ذاكرة الليبيين حتى الآن.

وثقت السلطات الليبية، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، شهادات الناجين القلائل من معسكر العقيلة، وتحدث هؤلاء عما كان يحصل في المعتقل من أهوال وعمليات تعذيب وتجويع وإذلال، أدت لمقتل نحو ثلثي المعتقلين، خلال الفترة من 1928 وحتى 1931.

علاوة على ذلك قامت القوات الإيطالية بتمشيط القرى والمنازل واعتقال المدنيين وقتلهم أمام أسرهم بشكل جماعي، بالإضافة إلى إذلالهم وإخضاعهم بكافة السبل.

أيقونة النضال

ورغم مرور نحو 90 عاما على استشهاد عمر المختار، إلا أن الثوار ما زالوا يستدعونه كأيقونة للنضال والمقاومة، وكأنما يثبتون بذلك مقولته التي قال فيها: (عمري سيكون أطول من عمر شانقي).

استلهم الليبيون في ثورة 17 فبراير/شباط 2011 التي صادفت الذكرى المئوية للاحتلال الإيطالي، تجربة عمر المختار، فأطلقوا اسمه على جماعات مشاركة في المظاهرات الشعبية، ثم أطلقوا اسمه على ألوية عسكرية قاتلت كتائب العقيد الراحل معمر القذافي، كما ضمّنوا عَلمه الأسود ذا النجمة والهلال في علم الدولة بعد نجاح الثورة.

استدعى ثوار الربيع العربي الذين تعرضوا للقمع، مقولات عمر المختار وجعلوا منها شعارا لنضالهم، كمقولة: (نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت) وعلقوا صوره على اللافتات مستلهمين منه روح الكفاح والمقاومة ضد الأنظمة التي باتت تستعمر الشعوب بقوالب ديمقراطية وجمهورية.

وفي سبتمبر/أيلول 2008 انحنى رئيس الوزراء الإيطالي وقتها سيلفيو برلسكوني أمام محمد نجل عمر المختار معتذرا عن فظائع بلاده بحق الشعب الليبي، وقورنت صورة انحنائه بصورة التقطت لعمر المختار مكبلا بالأغلال قبيل إعدامه.

قصة كفاح المختار تم توثيقها في فيلم شهير للمخرج مصطفى العقاد بعنوان "أسد الصحراء"، أنتج سنة 1981 وأدى فيه الممثل أنتوني كوين دور عمر المختار.

قيادة مبكرة

ولد عمر المختار عام 1862، في قرية جنزور شرقي ليبيا، لأسرة تنتمي إلى قبيلة "المنفة"، ودرس في الزاوية "الكتّاب" العلوم الشرعية والدينية لمدة 8 سنوات وتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم.

كان الطفل عمر المختار طالبا متميزا، وبدت عليه ملامح الشخصية القيادية منذ وقت مبكر، فقد حاز ثقة مشايخ الدعوة السنوسية التي تأثر بها، وأسند إليه محمد المهدي السنوسي "شيخ الدعوة" مشيخة زاوية القصور بالجبل الأخضر، فكان معلما بها، يلقن التلاميذ العلوم الشرعية ويحثهم على القيم الجهادية، وهو الأمر الذي مثل أرضية فكرية لدى عمر المختار وطلابه، كما مثل دافعا للجهاد والمقاومة ضد الغزاة لاحقا.

بعد 20 عاما من المقاومة وإرهاق المستعمر وتكبيده خسائر فادحة، وفي 11 سبتمبر/أيلول 1931 تمكن الإيطاليون من أسر عمر المختار بعد اشتباك مع قواته، وقدموه لمحاكمة صورية عاجلة في بنغازي، فحكمت عليه بالإعدام شنقا، وكان يبلغ حينها 73 عاما، وتم تنفيذ الإعدام بعد أقل من أسبوع من صدور الحكم.