كيف تعزز روسيا نفوذها في حوض البحر المتوسط؟

12

طباعة

مشاركة

أفاد المعهد المتوسطي للدراسات الإستراتيجية العليا أن العالم السياسي الأمريكي جوزيف ناي، في التسعينيات، أوصى بلاده بالحفاظ على مكانتها كقوة عالمية في الساحة الدولية من خلال مزج القوة الصلبة -القوة العسكرية- والقوة الناعمة؛ وهي القدرة على جذب وإقناع الدول والأطراف الأخرى لاتباع سياساتك دون الاضطرار إلى استخدام الإكراه لتحقيق هذا الهدف.

ورأت آنا بوفريو، الباحثة في العلوم السياسية الحاصلة على الدكتوراه في الخطابات من السوربون وخريجة جامعة بوسطن في العلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية، أن الإستراتيجية التي تحدث عنها ناي توضح نهج روسيا الثنائي حاليا في البحر الأبيض المتوسط.

وأوضحت المتخصصة في الشأنين الروسي والتركي أنه "بعد ضم شبه جزيرة القرم في مارس/ آذار 2014، تسبب التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي بدأ في أيلول/سبتمبر 2015، في تحول التوازنات الجيوستراتيجية". وتابعت، "من الواضح الآن أن منطقة البحر الأبيض المتوسط لم تعد بحرا مغلقا يسيطر عليه الناتو، كما كان الحال في فترة ما بعد الحرب الباردة".

واستدركت الباحثة في مقالها، "غير أن اتفاقية وقعت في 2017 بين روسيا وسوريا لمدة 49 سنة -على أن تجدد لمدة 25 سنة أخرى- سمحت لروسيا بأن تصبح قوة حاضرة في البحر المتوسط، وسمحت بإنشاء قاعدة بحرية روسية في طرطوس".

وأظهرت بوفريو كيف "أضاف الروس القوة الصلبة إلى ممارستهم علاوة على أدوات القوة الناعمة، من خلال قوة تواجدهم العسكري والبحري في شرق البحر المتوسط، مما أتاح لهم توسيع نفوذهم في حوض البحر المتوسط".

1-القوة الناعمة الروسية:

اختيار استراتيجية التأثير

وقالت الباحثة في مقالها لمعهد الدراسات الإستراتيجية، إنه "في السباق من أجل التفوق الذي التزمت به روسيا، على مدى العقد الماضي، تحت قيادة فلاديمير بوتين، وجب على البلاد تكييف استراتيجيتها مع الوسائل المتاحة أمامها. وحيث لا أمل لها في مواجهة ميزانيات دفاعية متراكمة وتفوق تكنولوجي كبير للقوى العسكرية الغربية، كان لزاما عليها التغلب على تلك التحديات من خلال تحديد أولويات جهودها ثم اختيار السياسات الجريئة التي يصعب على الغرب توقعها".

وتابعت بوفريو، "علاوة على ذلك، فإن اختيار ممارسة سياسة النفوذ، له ميزة الكلفة المنخفضة مع وجود العائد الكبير، أي توسع غير محسوس وغير مؤلم للخصوم مع آثار دائمة".

توجهات القوة الناعمة الروسية

أفاد المقال أنه "تم تنفيذ العديد من المشروعات البحثية في فرنسا والخارج، لتحديد توجهات سياسة التأثير الروسي في أوروبا. وقد تم التركيز على التأثير الذي تمارسه وسائل الإعلام الروسية على السيادة الأوروبية بخاصة الدوائر اليمينية المتطرفة، بتمويل مباشر من الكرملين: من قبل الجمعيات المختلفة والصناديق الثقافية، التي يكون نفوذها عادة لصالح موسكو". مشيرة إلى أن "هذه الإجراءات من شأنها أن تعزز التداخل الروسي في الاتحاد الأوروبي".

وأوضحت الباحثة، أن "القلة الروسية (الأوليغارشية) هي الناقل الأكثر فعالية لهذه السياسة بسبب قدرتها على إغواء وإقناع الدوائر السياسية ووضع بصمتها على النسيج الاقتصادي والاجتماعي لاستثمارها  في المدن والمناطق الأوروبية".

واستشهدت الباحثة في مقالها برأي الباحث آلان بوير، الذي يفيد أن "في روسيا منذ 1992 تتم الخصخصة لأكثر من 100 ألف مؤسسة مملوكة للدولة (أي نصف القطاع العام تقريبا)، لصالح حفنة من المقربين من السلطة التي تحتكر الممتلكات العامة والمواد الخام".

وقالت بوفريو، إن "هؤلاء "اللصوص" كثيرا ما يكون لهم ارتباط وثيق بجماعات إجرامية قوية، ويستثمرون في الخارج على نطاق واسع. فبعد سنوات قليلة، توجت الأزمة الاقتصادية بأزمة مالية بالغة عام 1998، واتسمت بانخفاض كبير في قيمة الروبل وعجز في سداد الديون الروسية. وهرّبت الكثير من رؤوس الأموال خلال هذه الفترة".

بالإضافة إلى ذلك، زادت الباحثة، "إن جزءا كبيرا من الأموال التي تم ضخها في ذلك الوقت من قبل المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) لإنقاذ البلاد من الضرر الناجم عن العلاج بالصدمة كانت في الحقيقة تحول وتستثمر خارج روسيا، وبالتالي ظهرت ثروات ضخمة في العالم ما بعد الاتحاد السوفيتي".

2- استمرار نفوذ روسيا في النقاط الإستراتيجية في جنوب الاتحاد الأوروبي

ترى المتخصصة في الشأن الروسي، أن "المواقع المعنية بالتدخل الروسي تتمتع بمزايا مختلفة، تتيح لروسيا اختراق النسيج الاجتماعي-الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، والتأثير على التطورات السياسية على الصعيد الوطني، وجمع المعلومات وما إلى ذلك".

قبل أن تضيف، "في الحقيقة، تمارس روسيا بالفعل قوتها الناعمة في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وموناكو والبلقان وقبرص واليونان ومالطا". ولتوضيح عواقب هذه التطورات الإستراتيجية على أوروبا على المدى الطويل، حللت الباحثة حالتي قبرص وفرنسا، لفهم بعض محاور الجهود الروسية.

القضية القبرصية:

أفادت بوفريو، أن "دوافع استراتيجية واقتصادية وسياسية هي وراء الاختراق الروسي الذي لوحظ في قبرص". قائلة، "ففي 2015، في حين كانت قبرص لا تزال تضم قاعدتين عسكريتين بريطانيتين، سمحت الحكومة القبرصية لروسيا باستخدام موانئها ليماسول ولارنكا كجزء من التقارب الرسمي بين البلدين".

"وقد أثار هذا القرار معارضة أمريكا وحلف شمال الأطلسي. ولكن النفوذ الروسي على النخب السياسية والاقتصادية في قبرص قد وصل إلى مستوى أصبح من المستحيل معه كبح طموحات روسيا في هذا البلد. حيث أن ما يقرب من 60 ألف (من إجمالي مليون و100 ألف سكان الجزيرة بأكملها) هم من أصول روسية استوطنوا في قبرص"، بحسب المصدر ذاته.

وأضاف المقال، "من خلال حزب "أنا المواطن" الذي ظهر في خريف 2017 على المشهد السياسي، تمكن حوالي 25 ألف من مواطني الاتحاد السوفيتي السابق من المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2018، مما يؤكد مخاوف المراقبين الغربيين من النفوذ الروسي المتزايد في البلاد".

وأشارت الباحثة أيضًا إلى أن "أحد أسباب الأزمة الرئيسية في قبرص عام 2013 يرتبط بالحجم غير المتناسب للودائع الروسية في البنوك القبرصية. فقد وصلت إلى مستوى قياسي قدره 20 مليار يورو من أصل 70 مليار يورو".

وأوضحت أن "قبرص توفر منذ عام 2015، إمكانية للروس وكذلك لأي مستثمر ثري ممن لديهم مليوني يورو لشراء الجنسية القبرصية وبالتالي جنسية الاتحاد الأوروبي. وقد منحت موسكو قبرص قرضا في عام 2011، مازال جاري تسديدة، بقيمة 2.5 مليار يورو".

ورأت بوفريو، أنه بفضل هذه العوامل المتعددة، أصبحت روسيا قادرة الآن على المطالبة بالمقابل من جمهورية قبرص.

الحالة الفرنسية:

أما عن فرنسا، فقد خلصت الباحثة إلى أن كونها أحد الدول المطلة على البحر المتوسط، وأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن وأحد القوى الاقتصادية الرائدة في العالم، جعلها تمثل هدفا رئيسيا لسياسة التأثير الروسي.

وواصل المقال، "تعد منطقة الجنوب مركزا ذو أهمية خاصة لأنها، ذات طابع عسكري بالفعل، ولديها طموح لتصبح المنطقة الأولى أوروبيا في مجال الدفاع بحلول عام 2025. وتشمل مواقع عسكرية كبيرة، وأكبر قاعدة بحرية أوروبية في تولون، والقواعد الجوية في إيستر وأورانج، فضلاً عن المواقع النووية ومواقع سيفيزو".

بالإضافة إلى ذلك، بحسب الباحثة، "تتوفر على العديد من الشركات في قطاع الدفاع، زيادة على أنها، وعلى مدار ثلاثة عقود، تعد المنطقة جاذبة للمستثمرين القادمين من الاتحاد السوفيتي -السابق- نظرًا لرونقها ومناخها ومناظرها الطبيعية". 

وانتقلت بوفريو في مقالها إلى الوضع في موناكو، فقالت، "تتعزز تدريجيا قبضة "الأوليجارشيين" (مثل الملياردير ديمتري ريبولوفليف) على الآليات الاقتصادية لهذه المدينة، مع التدفقات المالية من روسيا والتي تصل أيضا إلى المنطقة الجنوبية التي تجاورها".

وأضاف المقال "وجود مجتمعات من الاتحاد الروسي استقرت بشكل دائم في فرنسا، مثل المجتمع الشيشاني (بين 15 اأف و30 ألف شخص في البلاد)، بما في ذلك عدة آلاف في الأحياء الشمالية لمدينة نيس. ستكون تلك الأعداد تحت مراقبة أجهزة المخابرات بسبب تورط بعض عناصرها في الجماعات الجهادية".

وزادت الباحثة، "تطوير الروابط الجوية بين مطاري نيس ومرسيليا من ناحية، والمدن الروسية الكبرى من ناحية أخرى عزز من استدامة التأثير الروسي". وخلصتت إلى أنه "هكذا يتم نسج الروابط تدريجيا، ويتم خلط الدوائر الاقتصادية والسياسية وسط حالة من التعتيم، مما يخلق نقاط ضعف في مناطق شديدة الحساسية لأوروبا".

أفاد مقال معهد الدراسات الإستراتيجية، أن "ممارسة روسيا لسياسة القوة الناعمة في دول الاتحاد الأوروبي ذات الواجهة المتوسطية هي ممارسة طويلة الأجل". 

وأوضحت الباحثة أن "روسيا تعزز نفوذها بهذا الشكل في جميع أنحاء حوض البحر المتوسط، وتحصل عن طريق وسائل -غير عسكرية- على مكانة داخل قلب الاتحاد الأوروبي".

"وعليه فإذا لم تدرك الدول الأوروبية المعنية هذه التطورات، قد تضطر يومًا ما إلى مواجهة حقيقة جديدة: زيادة التبعية -أو حتى التعايش- مع القوة الروسية الصاعدة، وهذا سيقلل بلا شك من استقلاليتهم وقدرتهم على التصرف بشكل استراتيجي"، بحسب المقال.