لم يعد مستحيلا.. هل تنتقل عدوى البريكست لكل أوروبا؟

محمد العربي | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم تشهد بريطانيا أزمة ساخنة، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، مثل تلك التي تعيشها هذه الأيام، بسبب أزمة "البريكست"، والخروج الغامض من الاتحاد الأوروبي، والذي يشهد مع مطلع كل صباح جديدا يزيد الأزمة تعقيدا، ويدفع الأمور في اتجاهات صفرية، سوف تقضي على حكومة تيريزا ماي، التي يبدو أن خطتها للخروج، ليست محل ترحيب، سواء من البرلمان البريطاني أو من عموم الشعب الإنجليزي.

ولعل ما شهدته الأيام الماضية من تباين في الآراء والمواقف على أرض الواقع، داخل بريطانيا، وفي أوساط الاتحاد الأوروبي، يشير إلى أن الأمور لن تحل في المهلة الجديدة التي منحها الاتحاد، للحكومة البريطانية لإنهاء أزمة "البريكست" مع البرلمان من جهة، ومع الأصوات الرافضة من جهة أخرى، ومع رئيسة الوزراء من جهة ثالثة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بعد المظاهرات الحاشدة الأخيرة التي شهدتها شوارع لندن، وملايين التوقيعات التي وصلت لمجلس العموم البريطاني لرفض الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما تعيشه حكومة تيريزا ماي من أزمة داخلية قد تعصف بها، فهل يدفع كل ذلك بريطانيا لأن تتخلى عن كبريائها، وتعيد التصويت الشعبي على الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ وهل يمكن أن يكون ذلك مقدمة لتصدعات أخري في القارة العجوز؟

أزمات وأزمات

القارة الأوروبية تعيش الآن أسوأ مراحلها، نتيجة الأزمات التي تضرب كل أرجائها، خاصة وأن أزمة بريطانيا ليست الوحيدة، حيث مازالت السترات الصفراء تمثل تهديدا لفرنسا، بعد أن فشلت المسكنات في إقناع المتظاهرين، بالكف عن الدعوة للاحتشاد، وهو ما دفع حكومة إيمانويل ماكرون، لاتخاذ إجراءات مشددة للقضاء على السترات الصفراء التي يبدوا أنها سوف تنتقل من بلد لآخر، وليس مجرد الانتقال من مدينة فرنسية لأخرى.

كما شهدت القارة العجوز، أزمة أخري تم تداركها بعنف كبير في وقتها، وهي أزمة انفصال إقليم كتالونيا عن إسبانيا، ورغم التصويت الكتالوني لصالح الانفصال، إلا أن أوروبا كلها وجدت في ذلك بداية لانهيارات أخرى، يمكن أن تشهدها القارة العجوز، ما دفع الجميع للتكاتف مع الحكومة الإسبانية، حتى لا ينفرط العقد الذي كانت تتغنى به أوروبا طوال عشرات السنوات الماضية، منذ دشنت اتحادها في 1973 باسم النادي الأوروبي والذي تحول بعد ذلك عام 1992 إلى المسمى الحالي وهو الاتحاد الأوروبي.

ما هو البريكست؟

وحسب محرك البحث الشهير "جوجل"، فإن البحث عن معنى كلمة "بريكست"، تصدر قائمة البحث مؤخرا، فما هي الـ "بريكست" التي باتت تهدد عرش أوروبا، من شرقها لغربها، ولماذا تعيش الحكومة البريطانية هذه الأزمة، رغم أن الاستفتاء الذي جري في يونيو/ حزيران 2016 كان حاسما في الخروج من الاتحاد الأوروبي.

الـ"بريكست" اختصار لعبارة "British exit" أو خروج بريطانيا ومغادرتها للاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة، وينظم البريكست آلية الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، سواء فيما يتعلق بمديونية بريطانيا، أو حق التنقل منها وإليها، إضافة لأزمة اللاجئين، ثم الحدود المشتركة بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا.

وقد قدمت حكومة ماي تصورا تم الموافقة عليه من الاتحاد الأوروبي تقضي بأن تدفع بريطانيا 39 مليار جنيه إسترليني للاتحاد الأوروبي لتغطية مديونيتها، وأن تكون هناك فقرة انتقالية تبدأ في يوم التصويت داخل البرلمان البريطاني والذي كان مقررا له يوم 29 مارس/آذار الجاري، وحتى نهاية ديسمبر/كانون أول لعام 2020، وخلال هذه الفترة لن تكون هناك تغييرات كبيرة في ملف التجارة، بما يسمح لبريطانيا والاتحاد بالتوصل لاتفاق تجاري، بعد الفترة الانتقالية، ولمنح فرصة للمؤسسات التجارية بتعديل وضعها.

وحسب بريكست فإنه من حق مواطني الاتحاد الأوروبي وأسرهم الانتقال لبريطانيا بحرية حتى 31 ديسمبر/كانون أول عام 2020، والذي كان مقررا أن يكون نهاية الفترة الانتقالية وفقا للاتفاق السابق.

وفيما يتعلق بايرلندا الشمالية، فقد توصل الطرفان إلي عدم السماح بوجود حدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية ايرلندا، أو ما يطلق عليه الحدود المرئية، ولكن سيكون هناك حواجز وليس نقاط تفتيش، وكانت الحواجز بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، أكبر أزمة تواجه الاتفاق، حتى تم التوصل لوضع كلمة حواجز "backstop" التي تستهدف ضمان عدم وجود نقاط حراسة وتفتيش بين أيرلندا الشمالية وجمهورية ايرلندا.

وحسب هذا الاتفاق، فإن ايرلندا الشمالية وليس باقي بريطانيا ستظل تتبع القوانين الأوروبية في أمور مثل منتجات الطعام ومعايير البضائع وسيتم تطبيق الحواجز فقط إذا لم يتم التوصل لاتفاق تجاري بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا خلال الفترة الانتقالية.

الجدول الزمني

وحسب الجدول الزمني الذي تم الاتفاق عليه بعد استفتاء 2016، فإنه كان من المقرر أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس/ الجاري قبل أن تحصل ماي على موافقة قادة الاتحاد الأوروبي لتأجيل للانسحاب، حتى 22 مايو/ أيار المقبل، وهو الموعد الذي اشترط قادة الاتحاد موافقة البرلمان البريطاني على خطة الانسحاب، قبل أن يتم إقراره وفقا للجدول الزمني، ولكن إذا فشلت ماي في الحصول على هذه الموافقة، فلن يكون أمام بريطانيا حتى 12 أبريل/ نيسان إلا خيارين، وهما: تقديم خطة جديدة، أو أن تقرر الخروج دون اتفاق.

أزمة ماي

وبسبب "البريكست" تواجه رئيس الوزراء البريطانية أزمة كبيرة داخل مجلس العموم، الذي يمثل أحد غرفتي البرلمان البريطاني، وحسب التسريبات التي خرجت من حكومة ماي، فإن وجودها في منصبها، أصبح غير مضمون، بعد أن تكتل 11 وزيرا في حكومتها، ضد بقائها، نتيجة الخلاف الدائم بين البرلمان وخاصة نواب حزب المحافظين، وبين رئيسة الحكومة، التي أعلنت من جانبها لعدد من النواب، أنها سوف تتقدم باستقالتها في حال صوت البرلمان لصالح خطتها المتعلقة بتنفيذ "البريكست".

وتشير التقديرات إلى أن السبب في رفض البرلمان التصويت على خطة ماي لمرتين متتاليتين، إنما يرجع لوجود قناعة لديهم بأن الحكومة البريطانية تتبنى وجهة نظر الاتحاد الأوروبي ومؤسساته في بروكسل، بالإبقاء على مستويات كبيرة من التقارب عقب إنجاز مسألة الخروج، وهو ما اعتبره عدد من النواب والوزراء بأنه تحايل مباشر على نتائج الاستفتاء.

وقد شهدت الأيام الماضية تصعيدا، ينذر بتصدع واضح داخل المجتمع البريطاني، حيث لم يعد الأمر قاصرا على الخلاف بين الحزبين المتحكمين في البرلمان وهما العمال والمحافظين، وإنما امتد الخلاف للشارع البريطاني نفسه، والذي عبر عن عدم رغبته في الخروج من الاتحاد الأوروبي، حيث نظم مئات الآلاف مظاهرات حاشدة جابت أرجاء لندن بالتزامن مع مناقشة البرلمان للاتفاقية، كما شهد الموقع الإلكتروني للبرلمان أكبر حملة توقيعات لرفض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي التوقيعات التي تجاوزت أيام بسيطة أكثر من 5 ملايين توقيع تطالب بإجراء استفتاء جديد حول خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.

ورغم نفى وزير المالية فيليب هاموند وجود "انقلاب" داخل الحكومة للإطاحة برئيسة الوزراء، فإن الوزير ديفيد ليدينغتون، أحد الأسماء المرشحة لخلافة تيريزا، كشف في تصريحات لـ"بي. بي. سي" أن هناك احتمالا للدعوة لانتخابات مبكرة في حال صوت البرلمان لصالح خيار لا تريده الحكومة.

كما راجت في الأوساط البريطانية أحاديث، عن دعم لخطة تيريزا الخاصة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، شرط أن لا تبقى في السلطة للمرحلة القادمة من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي.

بينما تشير توقعات أخرى إلى أن رئيسة الحكومة، التي ألمحت عن استقالتها، ولكن بشرط التصويت لصالح خطتها، تواجه أزمة طاحنة في البرلمان ربما، تطيح بـ"البريكست" من الأساس، وهو ما يتوجب عليها التوصل لاتفاق مع البرلمان قبل يوم 21 إبريل/ نيسان المقبل، وهو الموعد الجديد الذي حدده الاتحاد الأوروبي، حتى لا تخرج بريطانيا من الاتحاد دون اتفاق مشترك يحمي مصالحها.

6 خيارات

وبحسب تقارير الصحافة البريطانية، فإنه من المتوقع أن يقوم البرلمان البريطاني بالتصويت على واحد من ستة خيارات، بخلاف خريطة تيريزا ماي، والخيارات الستة تتمثل في، إلغاء المادة 50، وبالتبعية إلغاء "بريكست"، أو التصويت على إجراء استفتاء آخر، أو التصويت علي خريطة رئيسة الوزراء إضافة إلى الاتحاد الجمركي، أو التصويت علي خريطة رئيسة الوزراء بالإضافة إلى الاتحاد الجمركي، والوصول إلى السوق الموحدة، أو التصويت علي اتفاقية تجارة حرة على الطراز الكندي، أو التصويت علي الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق.

دلالات التفكك

وطبقا لوصف العديد من الخبراء، فإن ما تشده أوروبا الآن من أزمات متواصلة، ينذر بقرب انهيار الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن الأزمات بدأت تضرب القوى العظمى في الاتحاد والممثلة في فرنسا التي تشهد توترا متزايدا بسبب مظاهرات السترات الصفراء، والأزمة التي تعيشها بريطانيا بسبب "البريكست"، والتي بدأت تنتقل عدواها لباقي دول الاتحاد، ثم رحيل المستشار الألمانية بعد نهاية دورتها الحالية، خاصة وأنها لعبت دورا كبيرا في دعم استقرار وتطور عمل الاتحاد، إضافة للأزمة الاقتصادية التي مازالت تسيطر على اليونان رغم كل المسكنات التي قدمها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لإنعاش الاقتصاد اليوناني بأي شكل.

ويضاف لذلك الأزمة التي بدأت تظهر في الأفق بين الاتحاد الأوروبي وإيطاليا بسبب أدائها الاقتصادي، والتباطؤ الذي تعاني منه إيطاليا، رغم الاتفاقيات التي توصل إليها الطرفين قبل عدة أشهر، وهو ما دعا نائب رئيس المفوضية الأوروبية إلي التعبير عن قلقه، من هذه التباطؤ بسبب السياسة المدمرة التي تتبناها روما.

وقد بلغ الدين العام في إيطاليا 2.3 تريليون يورو، أي ما يعادل 131 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم أعلى من السقف الذي حدّده الاتحاد الأوروبي والبالغ 60 بالمئة.

وتشير تقديرات المختصين إلى أن الاتحاد الأوروبي لن يتمكن، من حماية تجربته التكاملية الناجحة إذا لم يقم بخطوات جريئة تفتح الطريق أمام المؤسسات الأوروبية المشتركة للتحول سريعا نحو نظام فيدرالي يمتلك جيشه الموحد ويمارس سياسة خارجية أوروبية موحّدة، ولكن التخندق في مواقع دفاعية يتلقى فيها مزيدا من الضربات يتوقع أن تتزايد وتيرتها في المرحلة المقبلة، سوف يؤدي إلى أن ينفرط عقده ويتفكك تماما.

وفي الصدد، قال الباحث السياسي الألماني ألكسندر راهر: "لم تعد أوروبا كما كانت. والآن، هناك تحديات جديدة تماما داخل أوروبا، بما في ذلك في مجال الأمن.. دول الاتحاد الأوروبي، ليست على الطريق، اقتصاديا وماليا وأيديولوجيا، فمن الناحية الاقتصادية، يمكن لأوروبا الشمالية أن تتخلى بكل سرور عن البلدان المضطربة في جنوب منطقة اليورو. ليس اليونان فقط، فهناك الآن إيطاليا؛ وغدا، على الأرجح، إسبانيا. ولكن إذا غادرت إيطاليا، بعد بريطانيا، الاتحاد الأوروبي، فسوف يتوقف الاتحاد الأوروبي ببساطة عن الوجود".

وأضاف: "بصفتي خبيرا ألمانيا، يجب أن أقول: لا ترى ألمانيا، ولا تقبل هذا الخيار ألمانيا، ستفقد هويتها إذا لم تفلح أوروبا في الاندماج. راهنت النخب الألمانية كثيرا على اندماجها في الهياكل الأوروبية. فهم يدركون أن العلاقات العدائية مع الجيران الذين يتهمون الألمان بالقومية سوف تظهر مرة أخرى في حالة عدم حدوث هذا الاندماج".

وفي برلين يخشون مثل هذا التطور للأحداث. وألمانيا، باعتبارها أقوى دولة في الاتحاد الأوروبي، سوف تقاتل للحفاظ على الوضع الراهن وتعزيز وحدة الاتحاد الأوروبي، كما أن فرنسا لا تريد العودة إلى "أوروبا الدول القومية".