سنوات من الفشل.. هذا هو المخرج الآمن لإنقاذ مالي من أزماتها

باماكو- الاستقلال | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تعيش مالي منذ مطلع يونيو/حزيران 2020، حراكا شعبيا يطالب باستقالة الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا الذي بدأت فترته الرئاسية الثانية عام 2018 وأركان حكمه، في مشهد أعاد إلى الذاكرة انتفاضات الربيع العربي منذ أواخر العقد الماضي.

وتكمن وراء هذه الاحتجاجات المستمرة طبقات من فشل يتداخل فيها الأمني بالسياسي بالاقتصادي، وتحمل الجموع الغاضبة مسؤوليتها للرئيس الحالي، وترى أنه لم يفلح في حلحلة المعضلات التي تواجهها البلاد في فترته الرئاسية الأولى (2013-2018) فقط بل أصبح جزءا رئيسيا من أسباب الأزمة في مالي.  

فشل بمحاربة الإرهاب

تعود جذور المعضلة الأمنية التي تعاني منها مالي إلى بداية عام 2012 حين بدأت "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" التمرد على القوات المالية من أجل طردها من إقليم أزواد شمال البلاد وإعلان الاستقلال، ومنذ ذلك الحين لم تهدأ الأسلحة وإن اختلفت هوية حامليها.

فقد أدى هذا الإعلان عمليا إلى ظهور وتوسع حركات جهادية سلفية كحركة أنصار الدين المقربة من القاعدة والتوحيد والجهاد واستيلائها على شمال البلاد بعد هزيمة الجيش المالي أمامها.

هذا الأمر استدعى تدخل كل من فرنسا ذات الاستثمارات الكبيرة في المنطقة بآلاف الجنود عام 2013، والأمم المتحدة في العام نفسه من خلال بعثتها المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) بما يقارب 16 ألف جندي.

أدى هذا الدعم الدولي إلى تراجع نشاط الحركات المسلحة وتوقيع الحكومة اتفاقية مع فصائل منها عام 2015، إلا أن ذلك لم يقلص النشاط الإرهابي المستمر حيث تنشط المجموعتان المذكورتان بالإضافة إلى ظهور نشاط لحركة بوكو حرام، كما أدى ضغط الحكومة وحلفائها على شمال مالي إلى فتح المسلحين جبهات جديدة في وسط البلاد.

ومما زاد الأمور تعقيدا اتخاذ الصراع طابعا عرقيا قبليا بشكل متزايد، حيث ظهرت على سبيل المثال كتيبة ماسينا بقيادة الداعية أمادو كوفا، وهي تتشكل من أبناء قبائل الفولاني التي تشكو من التهميش المستمر من السلطة المركزية، مما سهل من استهدافها بالخطاب "الجهادي" المحارب للسلطة في باماكو.

أدى هذا بالمقابل إلى تشكيل مجموعات قبلية أخرى متنافسة مع الفولاني، كقبائل بامبارا ودوغون، وهو ما أضاف إلى الصراع بعدا قبليا مدمرا، وأدخل المنطقة في دوامة من العنف المستمر.

ووفقا لمجموعة الأزمات الدولية، حاول المتشددون تشكيل سلطات بديلة عن الدولة في مساحات شاسعة من الأراضي يسيطرون عليها، وأغلقوا المدارس الحكومية.

ورغم تكثيف السلطات الحكومية وحلفائها نشاطهم العسكري إلا أن هذا لم يؤد إلا إلى انسحاب الحركات المسلحة من المدن في حين ظل الريف تحت سيطرتهم ومنطلقا لعملياتهم ضد العسكريين والمدنيين على حد سواء.

وقد أعلنت بعثة الأمم المتحدة في مالي مقتل 380 مدنيا على الأقل خلال الربع الأول من العام 2020، نتيجة هجمات مسلحة، وأوضح البيان أن الاعتداءات المسلحة جرى تنفيذها إما من قبل التنظيمات الإرهابية أو نشبت إثر نزاعات بين المجموعات العرقية.

وتشير أرقام من مشروع بيانات موقع وحوادث النزاعات المسلحة إلى أن العنف العرقي تقدم على هجمات المتشددين كسبب رئيسي للوفيات الناجمة عن العنف في مالي.

الفساد الاقتصادي

كان لهذه الأزمة الأمنية تأثيراتها على الاقتصاد في واحد من أفقر بلدان العالم، حيث تحتل مالي المرتبة 20 من بين 47 دولة في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، ودرجاتها الإجمالية أعلى قليلا من المتوسط ​​الإقليمي وأقل بكثير من المتوسط ​​العالمي وفقا لمؤسسة التراث الأميركية. 

ووفقا لبنك التنمية الإفريقي، تواجه الدولة عجزا حاسما في البنية التحتية: 3٪ فقط من شبكة الطرق المصنفة في حالة جيدة؛ وتبلغ فجوة الكهرباء 140 ميغاوات، ويفتقر 53٪ من السكان إلى الكهرباء. بالإضافة إلى ذلك فإن 75٪ فقط من الأطفال في التعليم الابتدائي، و41٪ في التعليم الثانوي، بينما يفتقر 75٪ من السكان إلى الخدمات الصحية. 

لكن لم يكن العامل الأمني المؤثر السلبي الوحيد في اقتصاد البلاد، فوفقا لمؤسسة التراث فإن "القطاع القضائي ليس مستقلا ولا شفافا، والفساد شائع. 

هناك تصور عام بأنه تتم مقاضاة الجرائم الاقتصادية البسيطة في حين أن الفساد الرسمي رفيع المستوى يمر دون عقاب إلى حد كبير. ويُزعم أن الفساد شائع بشكل كبير في المشتريات الحكومية وتسوية المنازعات، حيث تضعف سيادة القانون وتطال اتهامات بالفساد الرئيس وحاشيته.

ووفقا لنفس المؤسسة السابقة فإن الناتج المحلي الإجمالي يتوسع بمعدل جيد على مدى السنوات الخمس الماضية بسبب زيادة إنتاج الذهب، ولكن فوائد هذا النمو لم يتم تقاسمها على نطاق واسع، في حين يدرج مؤشر الفساد العالمي مالي في المرتبة 130 ضمن 180 دولة.

ويرى البنك الدولي أن من المحتمل أن يكون لوباء كورونا وتأثيراته على الاقتصاد العالمي آثار كبيرة على مالي.

فمن شأن إجراءات التباعد الاجتماعي والافتقار إلى البنية التحتية الطبية للتعامل مع الأزمة الصحية أن تعطل النشاط الاقتصادي المحلي، مما يؤدي إلى انخفاض بنسبة 4٪ تقريبا في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الذي بلغ 5.1% عام 2019.

ووفقا للباحث المالي مادي إبراهيم كانتي في دراسته عن تأثير الفيروس في الاحتجاجات الشعبية فإن "إدارة وباء كورونا شابها الفساد"، مستدلا بأن المساعدات التي أعلن عنها الرئيس كيتا للفقراء والمتضررين من كورونا لم تصل إلى مستحقيها وأنها بيعت في السوق المحلية.

كما أن الشركات التي تضررت بشدة من الفيروس ومن المفترض حصولها على حسومات ضريبية لم يحصل عليها إلا الذين لهم علاقات مع الحكومة.

فشل سياسي

عدم الاستقرار الأمني ألقى بظلاله على الحياة السياسية في البلاد، التي شهدت انقلابا عسكريا عام 2012 أطاح بالرئيس أمادو توماني توريه على خلفية ما وصفه الانقلابيون بفشله في مواجهة تمرد شمال البلاد.

وهو ما أدى بدوره إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي وإلى ممارسة ضغوط داخلية وخارجية على السلطة الانقلابية لفتح الباب للحياة الدستورية مرة أخرى.

وأدت هذه الضغوط إلى تشكيل حكومة انتقالية استطاعت عقد الانتخابات الرئاسية عام 2013 وفاز بموجبها الرئيس الحالي إبراهيم أبو بكر كيتا، بعد دعم من الإمام محمود ديكو رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في مالي حينها، وهو من كبرى القوى المجتمعية المؤثرة في البلاد.

واستقطبت الشعارات التي أعلنها كيتا أصوات الماليين والتي تركزت حول توحيد البلاد ووقف انتشار الحركات الإرهابية، وإنقاذ البلاد من الفوضى الأمنية التي غرقت فيها منذ العام 2012، والنهوض بالاقتصاد.

ورغم توقيع الرئيس كيتا اتفاق السلام مع بعض الحركات المتمردة عام 2015، فإن هذا لم يؤد إلى تحقيق وعوده الانتخابية ولم تستطع الدولة بسط سيطرتها على كل مناطق التمرد، كما رافق ذلك كثيرا من الشوائب في العملية السياسية في البلاد.

وهو ما أدى إلى فتور شعبي تجاه الانتخابات الرئاسية 2018 التي فاز بها كيتا وسط طعن المعارضة في نتائجها وإعلانها اعتبارها مزورة "إنها نتائجهم وهي لا تعكس حقيقة الصناديق" كما وصفها  تييبيلي درامي المقرب من مرشح المعارضة الرئيسي سومايلا سيسيه.  

هذا السجال حول نزاهة الانتخابات تكرر مع الانتخابات التشريعية التي عُقدت في مارس/آذار وأبريل/نيسان من العام 2020، رغم طلب المعارضة تأجيلها خشية تداعيات فيروس كوفيد 19 على المنتخبين، كما شهدت البلاد اختطاف زعيم المعارضة سومايلا سيسيه قبل عقد الجولة الأولى من الانتخابات حيث ما يزال مفقودا حتى اللحظة.

مالي إلى أين؟

كل هذه العوامل السابقة دفعت الماليين إلى الخروج للشارع تحت مطلب رئيسي أوحد يتمثل في رحيل الرئيس وأركان حكمه، ومن المفارقات أن الإمام محمود ديكو الذي دعا إلى انتخاب كيتا عام 2013 هو أبرز زعماء الحراك الشعبي المطالب بإقالته.

 واستدعى الوضع السياسي المشتعل في البلاد مجموعة من الوساطات كان أبرزها وساطة  المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس).

"ليس أمام الرئيس سوى الرحيل" هذا رأي الناشط السياسي المالي علي توري، مضيفا أنه نتيجة للعديد من العوامل والمتغيرات في صف المعارضة والرئيس يبدو أن الحل السياسي للأزمة بدأ يلوح في الأفق.

وذكر توري المنسق بين الإمام محمود ديكو ومجموعة "أصدقاء الإمام" لـ"الاستقلال" أن المعارضة ستتنازل عن مطلبها الأساسي برحيل الرئيس وفق شروط أربعة، وهي: "أن يقبل كيتا إقالة رئيس الوزراء الحالي والعهدة بهذا المنصب لأحد قادة الحراك المعارض على أن تتمتع رئاسة الوزراء بالصلاحيات كافة، وأن لا يكون للرئيس القدرة على إقالته".

الثاني: حل البرلمان وإعادة الانتخابات التشريعية. والثالث: حل المحكمة الدستورية وهذا قد تم. ورابعا أن تشغل القوى المعارضة كل الوزارات والمناصب الهامة في البلاد.

ووفقا لتوري فإن الرئيس كيتا في وضع حرج سياسيا فإما أن يرفض وهو ما سيؤدي إلى تصاعد حدة المواجهة مع الحراك الذي يزداد قوة، أو أن يقبل وهو ما سيضعه في مواجهة مباشرة مع أعوانه من السياسيين الذين يحرضونه على الرفض، كما أن القبول يعني عمليا تجريده من كل صلاحياته.

وأكد أنه "لا خيار آخر أمام الرئيس لأن القبول سيحميه وعائلته من المحاكمة، كما أن القوى السياسية التي كانت تدعمه بدأت تنفض عنه وبدأت الأغلبية البرلمانية حوله بالتفكك، وفي المقابل فإن الحراك الشعبي يتصاعد وهو ما سيؤدي في النهاية إلى إقالة الرئيس".

وفيما يتعلق بالدور الخارجي، ذكر توري أن فرنسا وأمام تصاعد المد الشعبي المعارض وضحت موقفها مؤخرا بمطالبة الرئيس بالاستجابة لصوت الشارع.

كما أن سفيري فرنسا والولايات المتحدة وممثل الاتحاد الأوروبي التقوا بالشيخ ديكو مؤخرا وبينوا موقف بلادهم المؤيد للحراك الشعبي، وطالبوه بالسيطرة على الوضع.

وأكدوا أن التوافق السياسي مع الرئيس هو المخرج الآمن لأن إسقاطه بالتظاهرات سيفتح الباب لتكرار هذا مستقبلا، كما أنه سينعكس على دول الجوار في تجارب مشابهة ستؤثر على استقرار المنطقة الهشة والتي تعاني من وجود حركات إرهابية مسلحة تنشط فيها.