مجزرة نيوزيلندا.. قراءة الدلالات والأبعاد في فكر المسيري

محمد ثابت | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

للمفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري رؤية مسبقة حول مجزرة المسجدين الأخيرة على يد الإرهابي الأسترالي في نيوزيلندا، ورغم 11 عاما تفصل بين الحادث الذي وقع الجمعة 8 مارس/آذار الجاري وخلف عشرات القتلى والجرحى من المسلمين، ورحيل المسيري في 3 يوليو/تموز 2008 إلا أن فكر الأخير استطاع التنبؤ بالحادث واستيعاب دوافعه تماما.

لم يكتف المسيري برد الحادث إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا وحدها، بل تعدى ذلك إلى إثبات أن جوهر الحضارة الغربية، وفي قلبها فكرة التحيز الغربي للمادية ما يدفع للعنصرية ضد العرب والمسلمين تحديدا، ويسهل وقوع عمليات إرهابية من عقلية غربية مشحونة، في بعض نماذجها المتشربة بصورة قصوى لمعنى الانحياز.

وعبر كتابه "العالم من منظور غربي"، الصادر في فبراير/شباط 2001 رصد المسيري فكرة عداء الغرب الأصيل للعرب والمسلمين.

قيم هدامة

يخلص المفكر الراحل إلى أنه لا سبيل لاستيعاب الحضارة الغربية بمكوناتها المادية العنصرية البحتة، أو هضمها للمسلمين والعرب بقيمهم الروحية العليا، ومن هنا كان الصدام بين الغرب والدولة العثمانية أو كما يقول: "وقد دخل العالم الإسلامي في صراع مع هذا التشكيل الحضاري منذ البداية (الغربي)، وقامت الجيوش العثمانية بحماية دار الإسلام في الشرق العربي وفي أماكن أخرى من الهجمة الاستعمارية" (1).

لدى المسيري رؤية واضحة لامتلاء نفس بعض متعصبي الغرب ضد المسلمين، وهذه الرؤية تقول أن السبب ليس عائدا كما حاول الإرهابي برينتون تارانت التفسير من خلال كتاباته المختلفة، سواء على الإنترنت قبل الحادث المأساوي بمدينة كرايستتشيرش، أو حتى على الأسلحة التي استخدمها.

فليس السبب حروب الدولة العثمانية، التي كانت في أغلبها دفاعا عن دولة وحضارة ضد هجمة طاغية من مد حضاري عاتٍ لا يعرف إلا اللذة وملموس الأمور، وليس السبب كثرة المهاجرين المغلوبين على أمورهم تجاه قسوة الحياة في بلادهم العربية الإسلامية، بل إن السبب يعود إلى ما بنيت عليه الحضارة الغربية في الأصل من قيم هدامة.

طبيعة الانحياز

افترض الإرهابي تارانت أن معارك الدولة العثمانية ضد الغرب كانت صراعا بين حق يتبعه الأخير، من وجهة نظر تارانت، وباطل تمثله الدولة العثمانية، وهو للحقيقة قمة التضليل في الرأي منذ البداية لدى المسيري.

رأى المفكر الراحل أن الفكر الحضاري الغربي بعد أن استتب واستوى ".. من خلال التشكيل الاستعماري الغربي، وقيامه بتدويل نماذجه الحضارية والمعرفية الحديثة، بدأ ما يُسمى بالغزو الثقافي، وهو محاولة الإنسان الغربي فرض نماذجه هذه على العالم".

إن أمر الحروب التي نظر إليها الإرهابي نظرة قاصرة فأزهق نفوس 50 إنسانا، وأصاب مثلهم، أمر مغلوط، فإنما كان العرب والمسلمون يدافعون عن أنفسهم ضد إطار انتظم وانضم وسار ضمن مسار حضاري بحسب المسيري، "منحاز إلى قيمه ومبادئه وعلى رأسها الاستهلاك وامتلاء الجسد بالنزوات والمتع والشهوات وترك الروح خاوية".

هذا النموذج الغربي المقيت والمكروه والمميت لم يكتف بفرض نفسه على بيئته، بل بادر بفرض نفسه على بقية بلدان العالم، دون مراعاة إلى أن نماذجه لا تناسبها، بل تؤدي بـ"جوانبها المظلمة إلى تدميره (الآخر)" كما قال المفكر العربي.

الغرب هو من بدأ بالعدوان إذا على جميع الأصعدة عندما تبنى نموذجا معرفيا يخصه، ولا يعرف غيره من دول العالم الطريق إلى الموائمة معه، وهو ما اضطر العرب والمسلمون والعثمانيون لمحاولة وقف زحف المد الغربي، ووقف المد أحيانا كان يقتضي المباغتة والهجوم بدلا من الانتظار ثم الدفاع.

التعصب البالغ

ولكن لماذا ينبض قلب الحضارة الغربية بالتعصب؟ أو بمعنى أصح لماذا تحض الحضارة الغربية الذائبين فيها والمتماهين معها على التعصب، بخاصة ضد الإسلام؟.

التساؤل يجيب عنه المسيري موضحا في إطار نظري أولا: "تبدأ المنظومة المعرفية الغربية، المادية الحديثة، بإعلان أن الكون مركز كامن فيه وليس متجاوزا له، وهذا يعني أن الإله إما غير موجود أساسا، أو أنه موجود ولا علاقة له بالمنظومة المعرفية والأخلاقية والدلالية والجمالية..".

ويخلص المسيري من خلال تدقيقه في جوهر الحضارة الغربية إلى أن "ثنائية الخلق تصفى تماما".

هذا هو مشروع الغرب المعرفي الذي يكرسه وينشره ويعادي كل الذين يقفون ضده، وهو نموذج آحادي، فالغرب لا يقبل معارضا له ولا يستسيغ أو يفسر وجوده.

ومن وجهة النظر هذه ينبع كره الغرب لحضارة الآخر، بل الرغبة في التخلص منها، لأن في أقصى تجاويف الغربي الذي رضع هذه الحضارة، وتلبسها وتلبسته أنه لا إله لهذا الكون من الأساس، وبالتالي فهو يرى نفسه مركزا للكون، والجزء المتمم للطبيعة.

النزوع المادي

والمحور الماضي يستدعي تساؤلا عن النزوع المادي لماذا يتغلغل في نفوس الغربيين من الأساس؟ فيؤدي للتعصب والكره الذي يدفع عددا منه إلى كتم هذين الشعورين، أو تحويل البعض القليل له إلى عدوان على آخرين، سواء في الغرب من المهاجرين، أو غيرهم ممن يسيئ متعصبون إليهم، سواء في فلسطين، أو على مدار التاريخ العنصري الغربي نحو الزنوج وغيرهم.

يوضح المسيري هذه التفصيلة الجوهرية مؤكدا أن النزوع المادي يمكن تنميته وتحويله إلى عدواني بسلاسة لدى غربيين كثر، إذ أن: "النزوع المادي ليس شيئا مستوردا، وإنما كائن داخل نفس الإنسان، ويظن الكثيرون حتى الآن أن هذا النموذج منطقي عقلاني عالمي، يعبر عن الطبيعة البشرية في كليتها، لا عن جانب منها فحسب".

يظن أمثال تارانت من الإرهابيين الكامنين أو المتحركين أن الشعور المادي الممتلئ والمعبأ لدى أنفسهم بصحة توجههم، سببه أن هذا هو الأصل في البشر جميعا.

ولأن النفس البشرية حافلة بما يوافق الفطرة وبما يخالفها فإن كثيرين ينمون من المشاعر السلبية الموجودة بداخلهم من الأساس ويحولونها لمادية بحتة متراكمة، تدفعهم لاحتقار كل الذين يعتقدون بغير معتقدهم، ويزكي ذلك في أنفسهم أن الاستعمار الغربي في الأصل، المنطلق من نفس الرؤية النفعية "قام بهزيمة العالم واقتسامه، وتبديل نموذجه وفرضه على الكثير من المجتمعات، إما من خلال القمع أو الإغواء".

لدينا حضارة مستأسدة إذا، إن قال البعض أنها تخاف من الإسلام في المقام الأول أوضح أمثال المسيري من المفكرين الرائقين أنها تفرض مفاهيمها الملحدة على العالم بالإكراه، سواء بالحروب الهمجية، أو بالإغواء بآلة الدعاية الإعلانية الفجة المنتشرة المكثفة لكون المنتج الغربي قادرعلى إشاعة الراحة والسرور والحبور داخل جسد الإنسان بمجرد شرائه أو استخدامه.

الفرد المطلق

إن أمثال الإرهابي تارانت، الممتلئين والمنتفخين بنتاج هذا التسيد لا يريدون غيرهم في هذا العالم، ولعل من هذا قوله إن إسطنبول الأوروبية سيتم طرد المسلمين منها، لأن الأصل أن أوروبا كلها بلا إسلام أو مسلمين! (2).

وفي ذلك يقول المسيري: ".. ومن هنا يأتي الانحياز لما أسميه بالفرد المطلق، أي مرجعية ذاته.. التحيز للإنسان الطبيعي الاقتصادي الجسماني، بكل ما يحيط به من حدود ويقيده من حتميات" (3).

ومن هنا نجد المجرم تارانت حتى في المحكمة يشير بإشارات إرهابية، رغم تكبيل يديه، فإنه "يرى ذاته الذات المطلقة"، بحسب المسيري، وإن أجرمت وولغت وتمادت في سفك الدماء البريئة.

أما التصرف الفردي العدواني الغربي، فهو ليس نابعا من ذاته، ولو كانت متخمة بالتبريرات والتفسيرات الفاسدة، بل إن أمثال تارانت يستشهدون بحروب وقتل وتشريد للمسلمين.

المسيري يورد، نقلا عن المؤرخ الفرنسي بيير شونو، أنه أثناء الثورة الفرنسية: "لم تحاول القوات الفرنسية إخماد التمرد وحسب، بل قامت بعملية إبادة (هولوكوست) كانت في فظاعة الإبادة النازية وأشد فتكا".(4)

ومع عدم تسليمنا، ولا تسليم المسيري بضخامة الهولوكوست، إلا أنه أراد الإشارة إلى أن العنف في الضميرالغربي أمر مبرر، له شواهده التاريخية البالغة في الإيلام، فإذا كانت هذه الحضارة تفعل بأتباعها ذلك إن تمردوا عليها، فكيف بها إن استحوذ الشعور العدواني على أحد أفرادها فاندفع ضد الذين يراهم أعداء.

الحل لدى المسيري يبدأ من الشرق بعدم الاستسلام للتبعية للنموذج المعرفي الغربي، بل القدرة على تجاوزه، وبالتالي محاولة الوقوف معه على قدم المساواة، كما فعل الفيتناميون مثلا مع الولايات المتحدة الأمريكية.