دمج قسري.. كيف استخدمت الصين التقنية في اضطهاد الإيجور؟

12

طباعة

مشاركة

منذ مايو/أيار 2014، عندما أعلن سكرتير الحزب الشيوعي الصيني تشانغ شيان عن بدء حملة شعبية مضادة لما أسماه الإرهاب في منطقة الإيجور، تلقت شركات التكنولوجيا الصينية مليارات الدولارات لبناء نظام شامل يتولى عملية الدمج القسري للمسلمين في شمال غرب الصين. 

في ذات الفترة الزمنية، أنشأت الشركات الصينية مجموعة واسعة من أدوات المراقبة وتحليل البيانات التنبؤية، والتي أصبح لديها القدرة على تغيير أشكال عمل الشرطة والسجون في العديد من الأماكن حول العالم.

لكن هذه الابتكارات جاءت على حساب ما وصفه متابعون خارجيون بـ "الجرائم ضد الإنسانية".

العملاق التقني

وكشفت جائحة كوفيد 19 العالمية أن شركات التكنولوجيا الصينية تعد في طليعة شركات تصنيع أجهزة المراقبة والتحليل، وفق ما نشر موقع "The Center for Global Policy".

في أبريل/نيسان 2020، تلقت أمازون، أغنى شركة تكنولوجيا في العالم، شحنة من 1500 كاميرا استشعار حراري من شركة المراقبة الصينية داهوا  Dahua. 

سيتم تثبيت هذه الكاميرات، التي تبلغ قيمتها حوالي 10 ملايين دولار، في مستودعات أمازون لمراقبة الموظفين وتنبيه الإدارة إذا ظهرت على العمال أعراض الإصابة بفيروس كورونا. سيجري توزيع الكاميرات الأخرى المدرجة في الشحنة على شركتي IBM وChrysler.

في عام 2017، تلقت شركة داهوا الصينية أكثر من 900 مليون دولار لبناء أنظمة مراقبة شاملة لبرامج الدمج القسري  للسكان المسلمين في شمال غرب الصين. 

منذ ذلك الحين، وضعتها وزارة التجارة الأميركية على قائمة الشركات المحظورة في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من العواقب القانونية والأخلاقية لشراء المنتجات من داهوا، تواصل أمازون التعامل معها.

بمساعدة داهوا ومئات الشركات الصينية الخاصة والعامة الأخرى، اختفى ما يصل إلى 1.5 مليون من الإيجور والكازاخستانيين في نظام واسع النطاق لمعسكرات الدمج القسري في منطقة الإيجور ذاتية الحكم ( في إقليم سنجان).

ويقول الموقع: "لا يخلو بيت من بيوت الإيجور والكازاخستانيين في الصين من قريب تم تدريبه في نظام الدمج القسري". ويرى الإيجور اليوم أنهم شعب يتعرض للتدمير ومحو هويته القومية. 

ولاحظ أحد باحثي الموقع خلال رحلة بحثية إلى منطقة سنجان في عام 2018، أن العديد من الشركات المملوكة لـ"الإيجور" في جميع أنحاء البلاد تم إغلاقها. كما هجرت شوارع كاملة في بلدات وقرى الأقلية المسلمة. 

بسبب نظام الدمج القسري، من المرجح أنه في غضون جيل واحد ستتلاشى اللغات التركية في شمال غرب الصين وتنتهي التقاليد والأعراف التي  تبرز ملامح ثقافة الإيجور والكازاخستانيين.

 فالدمج القسري تؤثر على كل جانب من جوانب حياتهم، ليس فقط بسبب عمليات الاعتقال الجماعي، ولكن بسبب الطريقة التي تم بها استخدام أنظمة المراقبة البيومترية ونظم مراقبة البيانات التي توجد في المخيمات لرصد وتحويل سلوكهم.

ويصف هذا التقرير كيف تم استهداف المسلمين الأتراك في إقليم سنجان من خلال تقنيات المراقبة الرقمية والبيومترية لنظام "الدمج القسري". ويخلص التقرير إلى نتيجة رئيسية هي أن العالم يشهد ولادة شكل جديد من أنظمة التحكم الاجتماعي والسلوكي التي تعتمد على التكنولوجيا. 

يتزامن انتشار هذا النمط من المراقبة التقنية في نظام الحكم الاستبدادي مع تنامي في تقنيات تمييز الوجوه، والتعرف على الصوت، وأدوات الوصول للبيانات الرقمية، والتقييمات الخوارزمية لتاريخ وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة التكنولوجيا الخاصة والعامة في الصين.

في خدمة الاستبداد

ويوضح معد التقرير: "قال لي العشرات من المعتقلين السابقين وسكان المنطقة الذين قابلتهم أثناء إعداد التقرير عن الجوانب التقنية لنظام الدمج القسري إنهم اعتقلوا بسبب الرسائل والمقاطع الصوتية ومقاطع الفيديو التي شاركوها على هواتفهم الذكية".

وأضاف: "كما أخبرني محتجزون سابقون أنهم التقوا بأشخاص في المخيمات تم القبض عليهم لأنهم استخدموا بطاقة الهوية الخاصة بهم لشراء العديد من بطاقات SIM، أو بسبب تثبيت تطبيقي Facebook وWhatsApp على هواتف الـ Android الخاصة بهم، أو استخدموا تطبيقات تجاوز حظر المواقع (VPNs) للتحايل على جدار الحماية في الصين".

ويمكن تصنيف كل هذه "الجرائم" على أنها جزء من قائمة تحتوي على 75 نشاطا مجرّما وضعته الحكومة الصينية ووصلته بما تسميه "التطرف الإسلامي".

بدأت أقسام الشرطة في جميع أنحاء المنطقة بتوظيف "مقاولي الشرطة" للتحقق من أجهزة المسلمين باستخدام أدوات الاسترداد التلقائي المزودة بذكاء اصطناعي والتي بناها عملاق التكنولوجيا الصيني Meiya Pico.

 ثم أدخل عمال الدولة وأنظمة جمع البيانات الرقمية هذه المعلومات في منصة العمليات المشتركة المتكاملة على مستوى المنطقة. 

وتستخدم السلطات هذا النظام، إلى جانب البيانات التي تم جمعها من خلال الاستجواب، لتحديد المسلمين "الخطرين" والذين يحتاجون إلى الاحتجاز داخل "معسكرات إعادة التأهيل أو الدمج القسري" الرسمية، حيث تم إخضاع المعتقلين لمراقبة شاملة. ويجري احتجاز المعتقلين في زنازين ذات إضاءة عالية ودائمة.

في المقابلات، يقول معد التقرير: "أخبرني محتجزون سابقون كانوا محتجزين في مخيمات مختلفة في المنطقة أنه يحظر عليهم في  أي وقت خلال النهار أو الليل تغطية وجوههم عن الكاميرات. إذا قاموا بتغطية وجوههم بأيديهم أو ببطانية فسيحصلون على تحذير فوري من الحراس عبر نظام السماعات في الزنازين".

السجون الذكية

لقد كانوا يعيشون في ما يشير إليه محللو شركة Megvii إلى أنه "معسكر ذكي" أو ثكنات ذكية - وهي منشأة تقول شركة Dahua للتكنولوجيا : إنها مدعومة بتقنيات مثل "أنظمة مراقبة عبر كاميرات ذكية، وتحليلات البيانات الضخمة والحوسبة السحابية".  

وفقا لدليل المخيم، الذي وافق عليه تشو هيلون، نائب سكرتير الحزب في منطقة الإيجور، فإن هذه المخيمات هي "تحسين لحالات العزل الهامشي، والفصل الداخلي، وضمان كفاءة الأجهزة والمعدات الأمنية والمراقبة بالفيديو والإنذارات". 

وكما نُقل عن سكرتير الحزب الإقليمي الجديد تشين تشوانغو قوله: "يجب على المخيمات أن تدرّس كالمدرسة، وأن تدار مثل الجيش، وأن يتم حراستها مثل السجن". 

تشير تجارب من أجريت معهم المقابلات إلى أن تقنية التعرف على الوجوه "أو ما يسمى بالسجن الذكي" تستخدم عليهم في المخيمات. ووفقا لوثائق من شركة Lonbon، تم تثبيت تقنية التعرف على الوجوه في جميع أنحاء نظام السجون في منطقة الإيجور. 

وفيما يلي بنود الاستمارة التي يُحدد على نتائجها ما إذا كان الشخص مستحقا للسجن أو لا:
  • الفئة العمرية بين 15 و55
  • من عرق الإيجور
  • عاطل عن العمل
  • يمتلك جواز سفر
  • يصلي بانتظام
  • تلقى تعليما دينيا
  • زار إحدى الدول الـ26 المحظور السفر إليها
  • تأخر في العودة إلى الصين
  • له تواصل مع دولة أجنبية
  • يقوم بتعليم أبنائه في البيت

وكلما زادت نقاط الإجابة على هذه البنود، كلما زادت خطورة الشخص، وصار مستحقا للاعتقال. 

ويؤمر الأشخاص الذين لم يُحتجزوا على الفور بالذهاب إلى مراكز الشرطة والعيادات المحلية لتقديم عينات الدم والحمض النووي، والخضوع لمسح قزحيتهم ووجوههم وبصمات أصابعهم وتسجيل بصمتهم الصوتية. 

ويوضح معد التقرير: قالت لي إحدى السيدات الكازاخستانيات "أخبرنا رئيس حكومة القرية علانية أن أولئك الذين رفضوا سيتم نقلهم إلى معسكرات الدمج القسري". 

وتضاف هذه البيانات البيومترية إلى ملف جنسيتهم كجزء من نظام بطاقة هوية "ذكي" جديد. بمجرد تنفيذ هذا النظام بالكامل بحلول نهاية عام 2017، أصبح من المستحيل على الإيجور والكازاخيين الدخول إلى أحد البنوك أو مراكز التسوق أو نقاط التفتيش دون أن يتم مسح وجوههم ومطابقتها مع الصورة الموجودة على بطاقة الهوية. 

أما المواطنون المنتسبون من عرقية الهان فإنهم يمرون من خلال نقاط التفتيش تلك بدون فحص، خاصة في مناطق الأغلبية المسلمة التركية.

ومن غير الواضح كيف يتم استخدام كل هذه البيانات، فمن المحتمل أن تكون هناك فجوة كبيرة بين القدرات المعلنة للأنظمة الموجودة وقدرتها الفعلية على تحويل البيانات البيومترية والرقمية إلى أشكال قابلة للتنفيذ من الرقابة الاجتماعية. 

يتم إدخال الكثير من البيانات يدويا أو من خلال عمليات مسح مستهدفة للهواتف الذكية، بينما يجري إدخال أشكال أخرى من البيانات في النظام من خلال السجلات المصرفية وتتبع المواقع GPS ولوحات السيارات وكاميرات التعرف على الوجوه. 

ولكن على الرغم من الفجوات المحتملة في المعرفة والقدرة الفنية المزعومة، فإن وجود نقاط التفتيش والكاميرات في كل مكان يجعل المسلمين الأتراك يعدلون سلوكهم في حياتهم اليومية ويعيدون توجيه أنشطتهم حول المثل التي تروج لها سلطات الدولة. لقد فرضت هذه التقنيات واقعا جديدا.

منطق المكافحة 

بدأ تاريخ مكافحة الإرهاب في الصين بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، وبعد فترة وجيزة من وضع الجنرال الميداني ديفيد بتريوس للجيش الأميركي دليلا ميدانيا جديدا لمكافحة التمرد في عام 2007، أخذ مسؤولو الجيش والشرطة الصينيون في التفكير فيما يمكن أن يضعوه من نهج جديد للحرب غير المتكافئة.

 فكروا في مبادئ مركزية لمكافحة التمرد مثل؛ فرز الناس إلى فئات وجماعات متمايزة: متمردة، ومحايدة، وموالية للنظام؛ تفكيك الشبكات الاجتماعية من خلال الاعتقالات الموجهة؛ و"كسب قلوب وعقول" البقية الناجية من الاعتقالات.

ومع استخدام إجراءات من نظرية مكافحة التمرد في الولايات المتحدة وأوروبا في شكل برامج مكافحة التطرف العنيف (CVE) التي أدت إلى ما أسماه التقرير "تطرف" المواطنين المسلمين، بدأ المنظرون الأمنيون الصينيون يفكرون أكثر في "الشرطة الوقائية" وطريقة المراقبة واستخدام أنظمة التعليم لتحويل السكان المسلمين من غير عرقية الهان. 

وبعد بناء برنامج الشرطة الذي تقوده الاستخبارات والمسمى مشروع الدرع الذهبي الذي تم إنشاؤه بالفعل بعد 11 سبتمبر/أيلول، استفاد الصينيون بما كشفه إدوارد سنودن عن مشروع PRISM لتحليل البيانات الجماعية الذي يقوم على جمع وتقييم البيانات من وسائل التواصل الاجتماعي في كل من الولايات المتحدة والدول حول العالم.

وإدوارد سنودن هو خبير كمبيوتر محترف أميركي الأصل، وعميل سابق لوكالة المخابرات المركزية (CIA)، وهو الذي قام بنشر فضائح حول العديد من العملاء الذين صنفهم غير أخلاقيين.

 مع استمرار تزايد احتجاجات الإيجور العنيفة بين عامي 2010 و2016 ردا على وحشية الشرطة والاضطهاد الديني ومصادرة الأراضي، انتشر استخدام الهواتف الذكية على نطاق واسع بين السكان المسلمين الأتراك في الصين، وكثرت عمليات اختراق تقنيات المراقبة، مما أغرى الحكومة الصينية لإيجاد نظام تقني صارم. 

وبالطبع، فإن النظام الشامل الذي أسسوه على مستوى القاعدة الشعبية للمجتمع التركي المسلم لم ينبع فقط من العلوم الشرطية الأوروبية الأميركية والقدرات التكنولوجية، ولكن أيضا من الهندسة الاجتماعية الموروثة.

ويقول التقرير: "كان الحكم السياسي الاستبدادي الصيني قائما لفترة طويلة على الأبوية العنيفة التي تسببت في صياغة السلوك، والفكر، والعواطف لدى المجتمع".

وبحلول عام 2017، استثمرت الدولة الصينية أكثر من 2.6 تريليون دولار في الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجموعة واسعة من مشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء البلاد. 

وتصدرت منطقة الإيجور في عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص الممنوحة لشركات التكنولوجيا الخاصة. استخدموا هذه الأموال لتطوير أدوات مراقبة وتحليلات جديدة كجزء من مشاريع المدينة الآمنة التي دعمت النظام الجديد لـ "الدمج القسري" للمسلمين الأتراك. 

على الرغم من أن الدولة جمدت التمويل لبعض هذه المشاريع في نهاية عام 2017، إلا إنه بحلول عام 2018، نما سوق الأمن وتكنولوجيا المعلومات في المنطقة إلى ما يقدر بـ 8 مليارات دولار مع ما يقرب من 1400 شركة خاصة تتنافس على العقود المربحة.

الشركات التي تم تصنيفها على أنها "رائدة في الذكاء الاصطناعي" على المستوى الوطني كانت لها أهمية خاصة في هذا الجهد. 

وقد تم وصف هذه الشركات على أنها تمثل حجر أساس لأهداف الحكومة الصينية في قيادة العالم في تقنيات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. في حين قدم مشروع "الدمج القسري" للإيجور مساحة جديدة للعديد من هذه الشركات الرائدة لتطوير أدوات الرقابة التنبؤية وتجربة أنظمة المراقبة البيومترية. 

فرص التفوق

لا تعتبر شركات التقنية الصينية اللاعب الوحيد في مجال استخدام التقنية لمراقبة الأهداف التي تحددها الحكومة، فبعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، استخدمت كثير من الحكومات الغربية هذه التقنيات.

 بيد أن للحكومة الصينية ما تراه ميزة إستراتيجية على شركات التكنولوجيا في أميركا الشمالية وأوروبا من حيث إن لديهم مساحة لتجربة هذه التقنيات دون خوف من المساءلة القانونية أو المدنية.

 تُلزم قوانين مكافحة الإرهاب الصينية وسائل الإعلام الاجتماعية وشركات التقنية الصينية بتزويد وكالات الشرطة بصلاحية الوصول الكامل إلى بيانات المستخدمين. 

علاوة على ذلك، أنتج التعاقد الخاص الواسع النطاق للخدمات العامة في جميع أنحاء الاقتصاد الصيني بعد عام 2014 هيكلا سوقيا لا تأتي فيه معظم أرباح شركات التقنية من المنتجات والخدمات الاستهلاكية، كما هو الحال في الأسواق الغربية، ولكن من مشاريع البنية التحتية. 

في عام 2016، تأسس ما يقدر بـ 52 مليار دولار من سوق تقنيات الأمن في الصين حول هذه المشاريع، في حين جاء 32 مليار دولار من المنتجات الأمنية و 6.8 مليارات دولار من أنظمة الإنذار. 

في نهاية المطاف، تتشكل صناعة التقنية الصينية من خلال الحكم السياسي الاستبدادي. ففي عام 2017، أنفقت السلطات الحكومية أكثر من 197 مليار دولار على الأمن المحلي، باستثناء الإنفاق على الإدارة الحضرية المسؤولة عن مبادرات الأمن وتقنيات المراقبة. 

كما تفوق نسبة رجال الشرطة للمواطنين في منطقة الإيجور اليوم نسبتهم في ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين.

وهذا الأمر يجعل هذه المقارنة أكثر إثارة للقلق هو أن الشرطة، ومعظمهم من متعاقدي الشرطة ذوي الأجور المتدنية من الذين لا يملكون تدريبا، مدعومين بأنظمة تكنولوجية واقتصادية أقوى بكثير من تلك التي كانت متاحة للشتازي (جهاز الأمن الألماني الداخلي).