تخفيف قيود حجر كورونا.. ما الذي أجبر الدول على خيار "مناعة القطيع"؟

12

طباعة

مشاركة

مع مطلع يونيو/ حزيران 2020، بدأت أغلب الدول تخفيف إجراءات الإغلاق التي فرضتها مع بداية ظهور فيروس كورونا، فيما تواصل هذه الدول الاختبارات اليومية للكشف عن المزيد من حالات الإصابة بالفيروس. 

قد يهدد الفيروس حياة الأفراد لكن أزمة اقتصادية يجزم الخبراء أنها أشد من تلك التي مر بها العالم في 2008، تنتظر الدول فور دوران العجلة من جديد، وإن كانت بوادرها بدأت في الظهور.

بعض الحكومات لجأت لقرار تخفيف القيود والرجوع إلى الحياة الطبيعية بسبب صعوبة إيقافها إلى أجل غير مسمى، مع جعل الرهان على وعي المواطن الذي إما أن يلتزم بتدابير الوقاية أو يجد نفسه في مواجهة المرض.

هل اختارت هذه الدول إستراتيجية "مناعة القطيع" التي تحدث عنها رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون في بداية تفشي الفيروس؟ وما هو حجم الخسائر التي يمكن أن تتكبدها؟ وهل هي المرة الأولى التي تلجأ فيها الدول لهذا الحل؟

مفهوم خطير

في مايو/ أيار 2020، قال المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية لمنظمة الصحة العالمية، مايك رايان: إن مفهوم مناعة القطيع "خطير".

وأوضح أن الفكرة التي تفيد بأن "البلدان التي كانت لديها إجراءات متساهلة ولم تفعل أي شيء ستصل فجأة بشكل سحري إلى بعض مناعة القطيع"، أو من يرددون: "ماذا إذا فقدنا بعض كبار السن على طول الطريق؟" هو "تصور خطير وخطير حقا"، على حد تعبير رايان.

وأفاد المتخصص بأن مصطلح "مناعة القطيع" مأخوذ من علم الأوبئة البيطرية، حيث "يهتم الناس بالصحة العامة للقطيع، ولا يهتم بصحة الحيوانات بشكل فردي"، مضيفا: أن "البشر ليسوا قطعانا".

"مناعة القطيع"

يقصد بـ"مناعة القطيع"، ممارسة الحياة بشكل طبيعي، دون تطبيق أي من إجراءات الوقاية كالعزل أو التباعد الجسدي، إلى أن يصاب معظم أفراد المجتمع بالفيروس، وتتعرف أجهزتهم المناعية عليه، ثم تحاربه إذا حاول مهاجمتها مجددا ومن ثم تقل سرعة انتشاره.

لكن هذا الاحتمال يبقى ضعيفا في ظل عدم وجود إثبات علمي بأن الفيروس يصيب الشخص مرة واحدة فقط.

وتأتي الفكرة وسط تحذيرات متواصلة للمختصين، الذين يفيدون أن تطبيقها سيكلف عددا كبيرا من المصابين الذين قد تنهي الإصابة حياتهم، كما يحذرون من إغراق المستشفيات بالمرضى.

على صعيد آخر، عبّر أستاذ علم الفيروسات في جامعة "كينت" البريطانية، جيريمي روسمان، عن اعتقاده أن مناعة القطيع قد تكون غير فعالة في مواجهة كوفيد 19، بسبب قوة احتمال تطور الفيروس جينيا.

وأوضح المتخصصون أن أقرب تشبيه لإستراتيجية "مناعة القطيع" هو السماح للفيروس بأن "يتغذى" على أكبر عدد من الناس، مما يكوّن مناعة ضده لدى المجتمع، والنتيجة تراجعه وهزيمته بعدما يصاب "بالتخمة".

لكن في الفكرة مخاطرة كبيرة خصوصا على فئة كبار السن وذوي المناعة الضعيفة، ما يجعل الكثير من الدول ترفض تطبيقها خوفا على هذه الفئات الحرجة، وأيضا تجنبا للضغط على القطاع الصحي بسبب تزايد عدد الإصابات.

من جهتهم، أشار متخصصون إلى إمكانية تطبيق الفكرة في المستقبل في حال أصبح الفيروس موسميا، حينها سيكتسب الناس مناعة ضده ويتحول إلى مرض بسيط مثل الإنفلونزا.

بالمقابل تقوم إستراتيجية الحجر الصحي والعزل على مبدأ التجويع، فعندما يبقى الأشخاص المصابون بالفيروس بعيدا عن الآخرين ولا يمكنهم تمريره إلى أي شخص آخر، سيؤدي هذا إلى حرمان الفيروس من الوصول إلى خلايا الأفراد، وبهذه الطريقة يقل عدد المصابين في نفس الوقت ولا يتمكن الفيروس من العيش.

بريطانيا بدأتها

في مارس/ آذار 2020، خرج رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في خطاب، اعتبر حينها "الأكثر صراحة" ووصف بالصادم.

جونسون ومع بداية انتشار فيروس كورونا، قال لمواطنيه: "الكثير من العائلات ستفقد أحبابها قبل الموعد"، وأن هذا هو الخيار الحتمي ولا بد من تقبله لكونه يضمن مستقبلا أفضل لبريطانيا.

رئيس الوزراء كان يتحدث حينها عن "المناعة الجماعية" أو ما يشتهر بـ"مناعة القطيع"، وقامت فكرة جونسون على السيطرة على المرض عبر نشره لا الحد من انتشاره. وتجنب تعطيل حركة البلاد بشكل كامل لمدة غير معلومة.

تصريحات جونسون لاقت موجة واسعة من الانتقادات، خصوصا بعد إصابته بالفيروس وتدهور حالته الصحية ونقله إلى المستشفى ووضعه في العناية المركزة.

بريطانيا أول دولة أعلنت صراحة أنها تنوي تطبيق سياسة "مناعة القطيع"، وجاء ذلك على لسان المستشار العلمي للحكومة البريطانية، باتريك فالانس، الذي أعلن أن الحكومة تنوي تطبيق سياسة "مناعة القطيع"، لتكون بريطانيا أول دولة تعلن ذلك بصراحة.

وبرر المسؤول الحكومي الأمر باحتمال عودة الفيروس مرة ثانية مع قدوم الخريف المقبل، وأنه من الجيد أن يتعرض له حوالي 60% من المواطنين من أجل تطوير مناعة ذاتية من الفيروس.

واعتمدت الحكومة على القطاع الصحي البريطاني الذي أظهرت الأيام أنه غير جاهز للتعامل مع تفشي الوباء ومهدد بالانهيار في أي لحظة.

معارضو الخطوة اعتبروها مخاطرة بحياة الناس، خصوصا كبار السن الذين يعتبرون الفئة الأكثر هشاشة في مواجهة فيروس كورونا، وأصدرت جامعة "كينجز كوليدج" إحصائيات مفزعة تفيد بأن هذه السياسة ستودي بحياة ربع مليون شخص، وأن الحل الوحيد هو فرض إجراءات العزل.

فيروسات وبائية

شهد العالم فيروسات وبائية عديدة لكن أكثرها شراسة في التاريخ المعاصر كانت الإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت أنحاء العالم بين أيلول/سبتمبر و1918 وأبريل/نيسان 1919، سجل الضحايا الأوائل المثبتين للفيروس في الولايات المتحدة، ثم تفشى في أوروبا قبل أن يمتد إلى العالم كله.

أودى الفيروس بحياة 125 ألف شخص في العالم، ما عاد إلى الأذهان ذكرى فيروس الإنفلونزا الإسبانية الذي راح ضحيته نحو 50 مليون شخص قبل 100 عام، في حصيلة بشرية تجاوزت ما خلفته الحرب العالمية الأولى والثانية من قتلى.

حينها لجأت الدول أيضا إلى تطبيق إستراتيجية "مناعة القطيع"، وأوضحت لاورا سبيني، مؤلفة كتاب "الحمى القاتلة: كيف غيرت الإنفلونزا الإسبانية العالم"، أن الأوبئة بشكل عام "تنتهي تدريجيا، وإن لم يتم اتخاذ تدابير الصحة العامة، وذلك بفضل المناعة الجماعية، لكن ولسوء الحظ تحقق ذلك في تجربة الإنفلونزا الإسبانية على حساب حياة العديد من الناس".

فإذا نجحت الإستراتيجية في القضاء على المرض في جميع أنحاء العالم، فإنها تؤدي إلى انخفاضٍ دائمٍ في عدد حالات العدوى حتى تصل إلى صفر، وحينها يُسمى بالاستئصال.

حدث ذلك عام 1977، عندما ساهمت "مناعة القطيع"، التي أنشئت بواسطة التلقيح في استئصال مرض الجدري، كما ساهمت أيضا في تقليل انتشار العديد من الأمراض الأخرى.

يمكن لمناعة القطيع أن تكتسب من خلال إعطاء لقاح لعدد كبير من الناس لمكافحة الوباء، مما يصعّب انتقاله لآخرين، لكن هذا الحل يبقى غير متاح لمواجهة كورونا بسبب عدم وجود لقاح والإعلان عن الوصول إليه خلال 6 أشهر على أقل تقدير.

ويشير المتخصصون أنه لا يُمكن تطبيق مناعة القطيع على جميع الأمراض، إنما فقط على الأمراض السارية، أي القادرة على الانتقال من شخص لآخر، إذ يعتبر مرض الكزاز مثلا مرضا مُعديا، لكنه ليس ساريا، بالتالي لا يُمكن تطبيق مناعة القطيع عليه.

استخدام مُصطلح مناعة القطيع "herd immunity"‏ للمرة الأولى في عام 1923. وقد اعتُرف به في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما لوحظ أنه بعد تطوير عدد كبير من الأطفال لمناعة ضد الحصبة، فإن عدد الإصابات الجديدة قد انخفض مؤقتا، خصوصا بين الأطفال المُعرضين لخطر الإصابة به.

أصبح التلقيح الجماعي لإحداث مناعة القطيع شائعا منذ ذلك الوقت، كما أثبت نجاحه في منع انتشار العديد من الأمراض المعدية.

وشكلت معارضة التلقيح تحديا لمناعة القطيع، مما سمح باستمرار حدوث الأمراض التي يمكن الوقاية منها أو عودة ظهورها في المجتمعات التي لديها معدلات تلقيح غير كافية.