تركيا تستشرف مستقبل النظام العالمي.. ماذا سيحدث بعد كورونا؟

12

طباعة

مشاركة

بدأت نقاشات التحولات والتغيرات في النظام العالمي، مباشرة، مع خروج فيروس كورونا من مركز انتشاره في مدينة ووهان الصينية إلى العالم، حيث تسود تخوفات من أزمات ومشاكل جديدة بعد انتهاء تفشي الوباء.

بهذا الصدد، نشر مركز الأبحاث الإستراتيجية (سام) التابع لوزارة الخارجية التركية دراسة موسعة لما بعد أزمة كورونا، قدم فيها رؤية استشرافية لمستقبل النظام العالمي، في الجانب السياسي والطبي والاستخباراتي، ومستقبل العولمة والذكاء الاصطناعي.

ويرى رئيس مركز الأبحاث الإستراتيجية في وزارة الخارجية، أوفوق أولوتاش، أن حجم الأزمة وإن لم يصل إلى مستوى الحرب العالمية الأولى أو الثانية، أو الحرب الباردة، فإن الآثار الناجمة عنه ستكون مساوية للأزمة الاقتصادية في 2007-2008، أو هجمات 11 سبتمبر على الأقل.

وأشار أولوتاش في البحث الذي أشرفت عليه وزارة الخارجية، وشارك في إعداده أكاديميون ورؤساء مراكز أبحاث تركية، إلى أن أزمة كورونا هي الأولى من نوعها، حيث لم تعتد دول العالم على مواجهة أزمات شبيهة في تاريخها. 

وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في مقدمة البحث: إن أزمة فيروس كورونا تحمل معها إمكانية حصول تغييرات على المستوى العالمي، يمكن أن تستمر لسنوات وعقود طويلة مستقبلا.

ولفت إلى أن "على تركيا والدول النظر في مرحلة العبور المهمة هذه، ودراسة الأزمات والمصاعب المرافقة لها، وسبل مواجهتها، وكذلك النظر إلى الفرص المصاحبة لهذه الأزمات والأخذ بزمام المبادرة من أجل الإستفادة منها، بدلا من الإكتفاء بالنظر إلى التطورات ومحاولة لحاقها".

الاتجاهات العالمية 

ويوضح أولوتاش أن إستراتيجية الدول في مواجهة فيروس كورونا مرتبطة بشكل مباشر برؤيتها للتعامل مع بعضها بعد انتهاء الأزمة، مبينا أهمية وضع الدول رؤى واقعية وشاملة لمرحلة ما بعد انتهاء الأزمة، لأن وضع كل دولة في النظام العالمي، سيكون محددا بالدور الذي أخذته على عاتقها أثناء الأزمة. 

ويضيف أولوتاش: أن "أزمة فيروس كورونا ستجلب معها العديد من التغييرات، سيكون من أهمها الدولة المركزية، إذ ستبرز الدولة كمنظمة وحيدة قادرة على محاربة الفيروس والوقوف أمامه، وحماية الناس من الأمراض".

كما أن ضعف أداء المؤسسات العالمية أثناء الأزمة مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية، ستزيد من أهمية الدول المحلية عند الشعوب، إلا أن العديد من الدول ستتأثر بشكل سلبي أيضا مع أزمة كورونا، وتتحول إلى دول "ساقطة" فعليا من حيث أنها لا تملك أي شيء لمواجهة المخاطر والتهديدات المحيطة بها.

وأضاف أن الدول القوية لن تكون ديكتاتورية، بل إنها ستمتلك سلسلة التزويد الغذائي الخاص بها، مع وجود مؤسسات قوية لها، تعطي الأمان لشعبها، وتستطيع الوقوف أمام المخاطر والتهديدات التي تواجهها.

أما الدول الضعيفة، التي لا تستطيع حماية نفسها ومواطنيها من فيروس كورونا، لعدم وجود مؤسسات قوية، أو لأسباب أخرى، فإنها بعد أزمة كورونا ستكون عرضة لتصاعد الغضب الشعبي وعدم الرضى عن الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، مما يعطي مؤشرا على تزايد التظاهرات الاحتجاجية في تلك الدول. 

وعلى الرغم من تفوق الصين اقتصاديا حتى هذه المرحلة من أزمة كورونا، ونجاحها الدبلوماسي في تسويق نفسها ومحاربة الفيروس وتوزيع المساعدات على الدول الأوروبية، ورغم أن الكفة قد ترجح لصالح بكين، إلا أن الفرصة ما زالت قائمة أمام الولايات المتحدة للحفاظ على الصدارة.

ويمكن تحقيق ذلك إذا تخلت واشنطن عن شعار "أميركا أولا"، الذي أطلقه الرئيس دونالد ترامب، وتسبب بانحسار الولايات المتحدة عن العالم، إذ يمكن لها بتحركات دولية بسيطة أن تستعيد الصدارة في العالم، بعد انتهاء ازمة كورونا. 

وإلى جانب هذا الأمر، فإن الأداء المتردي للمؤسسات متعددة الجنسيات مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، جعل أهمية وجودها قيد التساؤل في المجتمع الدولي.

ولم تقم تلك المؤسسات بالدور المطلوب أو المنتظر منها خلال الأزمة، الأمر الذي سيعني أن الدعوات التي كانت تُطلق من قبل كدعوة "العالم أكبر من خمس دول"، لإيقاف احتكار تحكم الدول الكبرى في القرار العالمي والمؤسسات العالمية ستجد لها قبولا أكبر مع انتهاء أزمة كورونا. 

وعن وضع أنقرة خلال أزمة كورونا، يبين أولوتاش أن الدور الذي لعبته حتى هذه اللحظة بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، والنظام الصحي القوي المجاني، والذي لعب دورا كبيرا في مواجهة الفيروس، جعل تركيا دولة نموذجية يحتذى بها من قبل الدول الأخرى.

ولكنه يرى أن تركيا تنتظرها تحديات تحمل بطياتها فرصا أخرى، بعد أزمة فيروس كورونا، وعلى رأسها الاستقطاب العالمي الشديد وعملية إعادة التموضع التي يمكن أن  تحصل بعد انتهاء الوباء. 

تحت التهديد

من جانبها تقول الأكاديمية في جامعة صابانجي، ملتم مفتولور: إن النظام العالمي الجديد المصمم ليتعامل مع التهديدات الأمنية، عاجز بشكل كبير أمام هذا التهديد الطبي غير المتوقع، وإن الدول التي تمتلك جيوشا وميزانيات كبيرة، عجرت عن مواجهة الفيروس طبيا.

وأشارت إلى أن الخسائر الاقتصادية كبيرة، ولا يمكن التنبؤ بالبعد الذي ستصل إليه، مع استمرار المرض، مبينة أن الإجراءات التي اتخذتها الدول بشكل أحادي لم تنجح في مواجهة الفيروس، مما جعل من الضروري قيام المجتمع الدولي بتحرك مشترك في مواجهة هذا التهديد.

وأشارت إلى أن القرارات والتدابير التي تتخذها الدول خلال أزمة كورونا، هي التي سترسم تموضع الدولة في مرحلة ما بعد انتهاء الفيروس. 

وبينت مفتولور في مقالها بالبحث، أن أزمة كورونا، أظهرت نقاط الضعف في نظام التواصل والتعاون بين الدول، وبينت كم أن هذا النظام ضعيف، كما أن عدم شفافية الدول في المعلومات، بيّن مدى ضعف التواصل بين الدول في النظام العالمي.

بالإضافة إلى هذا الأمر، فإن عدم إدراك منظمة الصحة العالمية للخطر الحقيقي للفيروس في بداياته، جعله يصل إلى نقطة خطيرة جدا جعلت الدول تغلق حدودها ومطاراتها، وتعزل نفسها عن العالم، كما أن عدم تعاون التحالفات الدولية بين بعضها البعض كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، أظهر مدى هشاشة تلك التحالفات. 

وتشدد "مفتولور" على أن العقبات والنتائج الاقتصادية والصحية لهذا المرض كبيرة لدرجة لا يمكن للدول أن تواجهها بمفردها، لذا فإن هذه الأزمة أظهرت ضرورة وجود نظام تعاوني حقيقي في النظام العالمي.

ولقد تحول النظام العالمي، بحسب ما تبين "مفتولور" إلى ليبرالي بعد انتهاء الحرب الباردة، ومنذ 30 سنة، انتشرت العولمة، وصار السفر والسياحة ميسرا أمام الجميع، وكذلك التجارة والتنقل بحرية، ولكن فيروس كورونا أجبر الدول على التخلص من العولمة، والعمل على حماية مواطنيها، ولا يمكن التنبؤ حتى هذه اللحظة بالمآل التي ستصل إليها الأمور. 

وستعمل الدول ما بعد كورونا على وضع سياسات قومية ومحلية أكثر، ولكن في نفس الوقت ستطور آليات تعاونية بين بعضها البعض بشكل أكبر، لأن التهديد الذي يواجهها يطول البشرية بشكل كامل، ومتعلق بحياة الجنس البشري، وفق قولها.

ما بعد كورونا

من جانبه يرى الدكتور برهان الدين دوران، رئيس مركز (سيتا) للأبحاث، وهو مركز مقرب من دوائر صنع القرار في تركيا، أن أزمة فيروس كورونا سيكون لها ما بعدها في النظام العالمي الحديث، مبينا أن العالم الحالي متعدد الأقطاب، مع تفوق للولايات المتحدة. 

ومع ذلك، يرى دوران أن الأزمة لن تعيد تشكيل النظام العالمي الجديد، بل ستعمل فقط على تسريع سيره، ولن تكون المرحلة بعد انتهاء فيروس كورونا كالمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي شكلت نظاما عالميا جديدا، بل ستكون كالمرحلة التي كانت بعد الحرب العالمية الأولى، والتي كانت غامضة، وتسودها أجواء تنافس كبيرة، في مجالات الصحة والاكتفاء الذاتي. 

ويبين دوران أن الأيام القادمة هي التي ستفصح عن طبيعة النظام ما بعد كورونا، فيما اذا كان سيكون مكونا من تحالفات مستقطبة، أو أن الدول الكبرى في حالة تنافس مستقلة، ولكن ما سيميز هذه المرحلة بكل الأحوال هو هبوط زعامة أميركا، وزيادة إيقاع الحرب الباردة الصينية الأميركية. 

فعلى صعيد تراجع الولايات المتحدة، يمكن تناول الأمر من جانبين اثنين، وهما أولا إطلاق ترامب شعار أميركا أولا وعدم اهتمامه بقيادة العالم في سبيل الخروج مع الأزمة، كما فعل باراك أوباما في أزمة 2008 حين دعا دول مجموعة العشرين لاتخاذ بعض التدابير لمواجهة الأزمة المالية، ولكن ترامب لا يرغب بأي نوع من زعامة العالم من هذه الناحية.

أما الجانب الآخر فهو إخفاق الولايات المتحدة في إدارة الأزمة داخليا وفشل المستشفيات والدولة في السيطرة على الفيروس، بالإضافة إلى تصريحات ترامب المستخفة بالفيروس في بداية الأزمة. 

 أما على صعيد التنافس الأميركي-الصيني، فإن حدته زادت بين البلدين خلال أزمة الفيروس، من خلال اتهام الدولتين بعضهما البعض بإنتاجه.

ومع أن الصين سيطرت على الفيروس وأرسلت المساعدات إلى الدول الأوروبية، وتفوقت في هذا الجانب على الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن حجم التصريحات بين البلدين، سيعني أن التنافس سيحتدم بينهما خلال الأيام القادمة، حتى لو خسر ترامب في الانتخابات وجاء مرشح ديمقراطي آخر. 

ويختم دوران مقاله في البحث المنشور قائلا: إن على زعماء الدول أن يخططوا للمستقبل لما بعد أزمة كورونا، دون أن يشغلهم ذلك عن مواجهة الفيروس في اللحظة الآنية، مبينا أن تركيا من الدول القليلة المستعدة لمواجهة الوباء، وللمرحلة التي تليه، وذلك بفضل بنيتها التحتية القوية. 

قوة التحمل

من جانبه يرى الدكتور أنس أيدنلي، عضو هيئة التدريس في جامعة بلكنت، أن النظام العالمي قوي بما فيه الكفاية ليقاوم أزمة فيروس كورونا، دون أن تحصل فيه تغييرات جذرية.

واستدل على ذلك بأزمة الإنفلونزا الإسبانية عام 1919، والتي مات فيها أكثر من 50 مليون شخص حول العالم، ولكن على الرغم من هذا لم يحدث الوباء أيا من التغييرات التي أحدثتها الحرب العالمية الأولى. 

ويبين أيدنلي أن التغييرات الأكبر ستكون على الصعيد الداخلي للدول، بدلا من النظام العالمي، إذ ستنفذ الدول إصلاحات في القطاعات الصحية، وستضع سياسات تساعدها على الإكتفاء الذاتي.

كما ستضع قوانين أكثر صرامة من أجل حماية البلدان صحيا، وسيعود دور الدولة ليكون أكبر من قبل، مع انحسار للعولمة، وستكون الدول والمؤسسات مهمة، لأنها القادرة على حماية الناس أمام المخاطر المختلفة. 

من جانب آخر، فإن الدكتور تونجاي كارداش، وهو رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة صكاريا، يرى أن فيروس كورونا له آثار متعددة على عدة مستويات، وليس على مستوى واحد.

على سبيل المثال، بالنسبة للأمم المتحدة فهي أكبر أزمة بعد الحرب العالمية الثانية، وبالنسبة للاتحاد الأوروبي أزمة اقتصادية كبيرة تستحق خطة "مارشال" ثانية.

وبالنسبة لمنظمة أوبك فهي "وحش غير مرئي"ـ، وعدو غير مرئي كما قال ترامب أيضا، إذ إنه الآن في مأزق مع قرب الانتخابات، كما أن روسيا في وضع لا تحسد عليه مع خفض إنتاجها من النفط. 

أما الدول الأوروبية، فهي تعيش خطر الانهيار والانجرار مرة أخرى إلى موجات المجاعة والحروب الأهلية وانهيار الدول، نتيجة لانخفاض أسعار البترول، وستعمل الصين في هذه المرحلة على زيادة هيمنتها في أوروبا وإفريقيا، من خلال تقديم المساعدات لهذه الدول. 

ويبين كارداش أن أزمة كورونا سيكون لها أثر كبير على انتهاء الحروب في العالم، والانتقال بالصراعات إلى ميادين مختلفة تماما، إذ إن دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويترش لوقف الاشتباكات لاقت صدى في مختلف أنحاء العالم، فاستجابت 12 دولة لنداء وقف إطلاق النار، كما توقف حروب مناطقية في 70 منطقة حول العالم.

ولا يعني هذا الأمر أن الحروب توقفت، ولكن لصعوبة الظروف الحالية بالنسبة للتنظيمات المسلحة، فستنتقل ساحة الصراع من الاشتباكات المباشرة إلى حروب مصغرة، كما سيصلح عليه الحال في الاشتباكات بين الدول، وفق كارداش.