رفعت الجادرجي.. فنان تشكيلي عراقي أنقذته العمارة من السجن المؤبد

يوسف العلي | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

فيلسوف العمارة العراقية، وفنان تشكيلي رائد، وباحث ثاقب، غيبه الموت في لندن يوم 10 أبريل/ نيسان 2020 عن عمر ناهز الـ 94 عاما، بعد مسيرة حافلة زيّنت حياة المعماري الشهير رفعت الجادرجي، نجل السياسي والوزير إبان العهد الملكي كامل الجادرجي.

مصمم "قاعدة نصب الحرية" وسط بغداد، نعى رحيله جميع كبار قادة بلاده، إذ ودعه الرئيس العراقي برهم صالح، قائلا: "بوفاة رفعت الجادرجي يفقد فن العمارة في العراق والعالم رئته الحديثة التي تنفست حداثة وجمالا".

وعلى النحو ذاته، وصفه رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي، بأنه "معماري كبير، زيّنت تصاميمه وأعماله مدينة بغداد بين بنايات ومعالم ونُصب، إضافة إلى نتاجه الفكري، وستبقى بصمات الجادرجي، مدرسة للأجيال من الفنانين والمعماريين".

جذبته العمارة

ولد المعماري رفعت الجادرجي ببغداد 6 ديسمبر/ كانون الأول 1926، في بغداد من أسرة عراقية عرفت بتاريخها العريق، وهو الأكبر بين إخوانه، له 3إخوة وأخت واحدة، وهم: باسل، نصير، يقضان، وأمنية.

والده كمال الجادرجي سياسي ووزير معروف في العهد الملكي، ومؤسس الحزب الوطني الديمقراطي عام 1946 مع الاقتصادي والوزير محمد حديد والد المعمارية الراحلة زها حديد.

كما أن شقيقه الأصغر نصير الجادرجي، شغل منصب عضو في مجلس الحكم العراقي المنحل بعد الغزو الأميركي في عام 2003، لكنه عاد بعد ذلك ودعا في مايو/ أيار 2005 إلى مقاطعة أية "حكومة محتلة"، أو تُشكل تحت الاحتلال.

وعن دراسة رفعت الجادرجي للهندسة المعمارية، حسبما يرويها خلال مقابلة تلفزيونية: "سألني صديقي: لماذا تدرس الكهرباء وأنت مطلع كثيرا على الموسيقى والفن والشعر الإنجليزي؟" فقلت: "لم أتعلم الرسم والموسيقى" ورد علي "ماذا بشأن العمارة؟"، حينها قررت مباشرة، وأخبرت والدي.

بعد إكماله الدراسة الثانوية، سافر رفعت الجادرجي إلى لندن عام 1946 ليدرس العمارة وحصل على البكالوريوس من جامعة هامرسميث عام 1954، ثم عاد إلى العراق ليبدع في تخصصه.

تزوج الجادرجي من بلقيس شرارة، الكاتبة والأديبة من مواليد مدينة النجف عام 1933، وابنة الكاتب اللبناني المعروف محمد شرارة، لكنهما رفضا إنجاب الأطفال، لاعتقادهما أن "الأرض لم تعد تتحمل الكثير من البشر، وأن أعماله بمثابة أبنائه"، حسبما نقل عنهما.

عقب عودته من لندن إلى بغداد عمل مهندسا في مجلس الإعمار وبعدها رئيسا للهندسة في مديرية الأوقاف العامة ومديرا عاما لهيئة الإسكان في وزارة الأعمار ورئيسا لهيئة التخطيط في وزارة الإسكان.

"معماري بغداد"

وبعد الانقلاب الذي قاده عبدالكريم قاسم ضد الحكم الملكي في 14 تموز عام 1958، كلفت أمانة (بلدية) بغداد رفعت الجادرجي بوضع عدد من التصاميم منها نصب الجندي المجهول، ونصب 14 تموز، ونصب الحرية وسط العاصمة.

واهتم الجادرجي بتنفيذ الأعمال التي أوكلت إليه وأشرف على إنجازها، لكن سلطة حزب البعث العراقي عام 1982، هدمت هذه الأعمال، من أجل محو أثر عبدالكريم قاسم.

كان الجادرجي آنذاك يشغل منصب مستشار أمانة بغداد، فأخذ كاميرته ليوثق الهدم، ثم صور نفسه بالقرب من الأنقاض مع الشخص المسؤول عن الهدم، ووصفه ساخرا: "هو من الأشخاص الذين تميزوا بقدرتهم على الهدم بطريقة فنية وبأقل التكاليف".

وفي عهد حزب البعث كان الجادرجي، أحد أشهر الاستشاريين في بغداد، ونفذ الكثير من المباني الحكومية التي لا تزال معظمها شاخصة حتى الآن.

ومن أعماله مبنى الاتحاد العام للصناعات ومبنى نقابة العمال والبدالة الرئيسية في منطقة السنك، ومبنى مجلس الوزراء، إضافة إلى تصميم القاعدة التي علق عليها الفنان جواد سليم نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد.

ذاعت شهرة الجادرجي في العالم العربي والإسلامي والغربي، إذ تأثرت أعماله المعمارية بحركة الحداثة في العمارة، وحاول أيضا أن يضيف إليها نكهة عراقية، فمعظم واجهات المباني التي صممها مغلفة بالطابوق الطيني العراقي وعليها أشكال تجريدية تشبه "الشناشيل".

ووصل بالعمارة التقليدية "التحدارية" كما يطلق عليها إلى المستوى الشكلي التجريدي، فأصبح ينظر إليها كمنحوتة فنية لها خصائص تقليدية مجردة حسب مفهومه، فعندما نشاهد مساقطه الأفقية نجد أنها في كثير من الأحيان تكون مساقط أفقية مستوحاة من الحداثة.

وقال رفعت الجادرجي عن توجهه في فن العمارة: "كان اهتمامي منصبا على إيجاد أسلوب ملائم لمعمار عربي معاصر، وكانت نقطة الانطلاق في ذلك هي اعتماد النقاش المستمر بين المعماريين والرسامين والنحاتين والمفكرين العرب".

مؤلفات وجوائز

خرج الجادرجي من العراق عام 1983، ليتفرغ للكتابة والتعليم ولأرشفة مشاريعه السابقة. واليوم، ينشط من خلال مؤسسة تحمل اسمه أسسها عام 2005 في بيروت، بهدف "دعم الدراسات المعمارية العربية والحوار حول مصير ومستقبل العمارة في المدن العربية".

حاز الجادرجي على العديد من الجوائز العربية والأجنبية، من أبرزها جائزة "آغاخان للعمارة" عام 1986، وهي جائزة معمارية أنشأها "آغا خان الرابع" عام 1977 في جنيف بسويسرا، وتهدف إلى تحديد ومكافأة المفاهيم المعمارية التي تلبي احتياجات وتطلعات المجتمعات الإسلامية.

ويعد الجادرجي من القلائل الذين كتبوا أفكارهم من المعماريين ونشروا البحوث القيمة، وحاول أن يجد له بعض الاصطلاحات الخاصة "الغرائبية" في بعض الأحيان، لكنها مكثت حبيسة درج مؤلفاته في غياب مبرم لحوارات أهل الشأن من أجل إرساء وتوحيد المصطلح المعماري والفني.

أصدر الجادرجي العديد من المؤلفات منها: "شارع طه وهامر سميث" (1985) "صورة أب" (1985) "الأخيضر والقصر البلوري" 1991 "حوار في بنيوية الفن والعمارة" (1995) "مقام الجلوس في بيت عارف آغا"، وهي دراسة إنثروبولوجية، وكتب مقدمة لمذكرات والده كامل الجادرجي عام 2002.

وأصدر بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة كتاب "جدار بين ظلمتين" وهي عبارة عن سيرة واقعية لمرحلة العشرين شهرا التي قضاها في الحبس. وحاول معظم من نظر في مؤلفاته الربط بين جوانب الثقافة (أبستمولوجيا) من خلال طرق التركيبة الاجتماعية - العمرانية في العالم العربي.

السجن المؤبّد

المناصب التي شغلها والأعمال التي شيدها لم تشفع للجادرجي عند نظام حزب البعث، فحُكم عليه بالسجن المؤبد عام 1978، ثم أُفرج عنه بعد عامين، ليخرج من السجن بثلاثة كتب: "شارع طه وهامر سيمث" و"الأخيضر والقصر البلوري" و"جدار بين ضفتين"، وليكلف مستشارا لإعادة إعمار بغداد.

لكن قصة اعتقاله والإفراج عنه، اكتسبت قدرا كبيرا من الغرابة، إذ تقول زوجته بلقيس في كتابها الذي أصدرته مع زوجها "جدار غير قابل للاختراق": "اعتقال الجادرجي جرى بعد أقل من 48 ساعة من عودتهما إلى بغداد قادمين من فيينا عام 1978".

أما لماذا اعتقل رفعت الجادرجي، فالتفاصيل تكشف عن رعبها وغرابتها، فبعد أن قام رجلان يعملان في مخابرات النظام العراقي باغتيال رئيس الوزراء الأسبق عبد الرزاق النايف في لندن، تم القبض عليهما، وحكم عليهما بالسجن لمدة طويلة.وبعدما فشلت السلطات العراقية في الإفراج عنهما رغم مساعيها الحميمة، قررت إلقاء القبض على أي بريطاني يكون موجودا حينذاك في فندق مرموق ببغداد لجعله رهينة تستخدمها في مساعي الإفراج عن عملائها.

وشاءت الأقدار أن يكون المقبوض عليه هو "سبارك" مدير الشرق الأوسط لشركة "ويمبي". وعندما طُلب منه ذكر أسماء من اتصل بهم عند زيارته بغداد، ذكر اسم رفعت الجادرجي.

اعتقد سبارك أن اسم الجادرجي باعتباره معروفا، وذا سمعة طيبة، سيخفف من الضغط الذي يعاني منه، لكن بدلا من أن يكون الاسم عامل تزكية تم إلقاء القبض على صاحبه وأودع السجن.

وفي الوقت الذي كانت الغرابة قد رمته بالسجن وحكم عليه بالمؤبد، فإن الجادرجي خرج من السجن بقصة أغرب، إذ قرر  الرئيس الراحل صدام حسين إعادة النظر في تخطيط مدينة بغداد وتحسينها استعدادا لانعقاد قمة عدم الانحياز في بغداد، بغية إظهارها أمام رؤساء الدول كعاصمة متطورة تشبه عواصم الدول المتقدمة.

وسأل صدام في وقتها عن المعماريين المهمين الذين يمكن الاستعانة بهم، فأُخبر أن هنالك اثنين من المعماريين العراقيين يعدان من خيرة المعماريين في الشرق الأوسط، هما رفعت الجادرجي الذي كان يقبع في السجن، والدكتور محمد مكية الذي ترك العراق منذ بداية السبعينيات. أجاب صدام عندئذ "الجوة نطلعوا، والبرة نجيبوا".

وبهذه الطريقة، أُطلق سراحه تقول بلقيس الجادرجي: "لقد أصبح يوم 20 أغسطس/آب عيد ميلاد ثانيا نحتفل به، فقد ولد رفعت ثانية عندما خرج من أحشاء السجن المظلم. وأصبح الاحتفال بعيد ميلاده الثاني عادة مستمرة حتى بعد أن تركنا العراق".