الانقلاب وكورونا.. كيف سخر الأتراك مساجدهم لمواجهة الأزمات؟

12

طباعة

مشاركة

مباشرة بعد رفع أذان كل صلاة يخصص الإمام دقيقتين يتوجه فيهما إلى أهل الحي لإخبارهم أن البلاد تمر بضائقة، وعليهم مساندة وطنهم ليجتازها عبر البقاء في المنازل وعدم الخروج منها إلا للضرورة.

بعد أن فرضت الدولة حظر التجول على من تبلغ أعمارهم 60 سنة فما فوق، يذكر الإمام المجبرين على الخروج بترك مسافة الأمان بين بعضهم البعض، وعدم التلامس، وتجنب لمس الأسطح، وغسل اليدين أكثر من مرة في اليوم، ويختم الإمام حديثه بالدعاء لبلاده والعباد وسائر البلاد بالفرج القريب. 

يتكرر المشهد كل يوم في مساجد تركيا عقب أذان كل صلاة، ولأذان العشاء وضع خاص، إذ يرفع الإمام أكف الضراعة بالدعاء ثم يبدأ بالابتهال والتكبير والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

أذان وابتهال

إسطنبول "مدينة المآذن" التي يصل عدد المساجد فيها إلى 3 آلاف و600، بحلول منتصف مارس/ آذار 2020، أغلقت جميعا أبوابها، إثر إعلان رئاسة الشؤون الدينية التركية، إيقاف الصلوات في عموم المساجد بتركيا، في إطار إجراءات الوقاية من فيروس "كورونا" الذي بدأ ينتشر في البلاد.

وقال رئيس الشؤون الدينية، علي أرباش، خلال مؤتمر صحفي: "تقرر إيقاف صلوات الجماعة في مساجد تركيا، بما فيها صلاة الجمعة، وذلك ضمن إجراءات منع انتشار فيروس كورونا في عموم البلاد". وأردف: أن "المساجد ستفتح أبوابها أمام الراغبين بالصلاة بشكل فردي".

في باقي الدول المسلمة أو التي يعيش فيها مسلمون لم تتوقف المآذن عن رفع الأذان وتذكير الناس بحلول وقت الصلاة، كي يقيمواها في منازلهم، لكن في تركيا لم يقتصر دور المساجد خلال الأزمة على ذلك، بل تجاوزه إلى توعية الناس بمخاطر الجائحة ومدى سرعة انتشارها، مع التذكير باستمرار بالتعليمات التي أقرتها منظمة الصحة العالمية للوقاية من الفيروس والحفاظ على السلامة الشخصية والجماعية.

منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" بزعامة رجب طيب أردوغان إلى الحكم في عام 2002، وتركيا تولي أهمية كبيرة لتشييد المساجد، لكنها تحرص على أن تلتزم بالطراز العثماني الذي يجعلها مميزة عن باقي المساجد عبر العالم.

ويقود الرئيس أردوغان مشروعا ضخما لبناء المساجد ليس داخل بلده فقط، بل في الخارج أيضا، حيث وصلت هذه المشاريع إلى أميركا اللاتينية وإفريقيا.

انقلاب تموز

كان للمآذن دور بالغ الأهمية يتذكره كل من حضر ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفذتها عناصر محدودة من الجيش، تتبع لمنظمة فتح الله غولن، حاولوا خلالها السيطرة على مفاصل الدولة، ومؤسساتها الأمنية والإعلامية، ليلة 15 يوليو/تموز 2016. 

صدحت التكبيرات من مساجد تركيا، في تلك الليلة، ودعا أئمة ومؤذنو تلك المساجد الجنود إلى العودة لثكناتهم وعدم إطاعة الانقلابيين. وكان للتكبيرات من المساجد، أثر كبير في شحذ همم المواطنين والتصدي للانقلابيين.

تحرك الأئمة استجابة لدعوة رئيس هيئة الشؤون الدينية آنذاك، محمد غورماز، التي حث من خلالها أئمة المساجد للعب دور في القضاء على المحاولة الانقلابية. قائلا: "القيام بواجبنا اليوم لحماية دولتنا هو أكبر واجب يقع على عاتقنا، فانتهاك وحدة الشعب والدولة ورفاهيته وأمنه والإرادة الشعبية بالعنف والشدة هو أمر غير مقبول أبدا".

مضيفا: "بصفتنا الدليل الروحي لشعبنا سنتصدى مع شعبنا لجميع المحاولات غير القانونية، ومن هذا المنطلق ندعوكم جميعا إلى التصدي لأكبر خيانة لشعبنا العظيم من منابرنا التي تعد رمزا لحريتنا وذلك دون اللجوء للعنف". 

رسالة غورمز لم تكن إلزامية، لكن الأئمة استجابوا لها، وبدؤوا فورا في حشد الشعب عبر المآذن بالقول: "حي على الجهاد" و"أنتم من يمنع التسلط" و"أنتم الوتد الأساسي للحرية والكرامة والمساواة"، وواصلوا الأذان والتكبير والدعاء حتى ظهيرة اليوم التالي.

ولا زالت رئاسة الشؤون الدينية التركية تحيي ذكرى الانقلاب الفاشل، حيث تصدح المآذن في ذلك اليوم بالتكبيرات، وتضيئ أنوارها حتى الصباح.

دور سياسي

في 2 مارس/ آذار 2020، شهدت مساجد تركيا تلاوة سورة الفتح قبيل أداء صلاة الفجر، من أجل سلامة أفراد الجيش التركي ونصرة عملية "درع الربيع" في محافظة إدلب السورية، ضد قوات النظام السوري في إدلب، ردا على اعتدائها على القوات التركية، واستشهاد 34 جنديا.

وفي مسجد أبي أيوب الأنصاري بمدينة إسطنبول، تلا مئات المصلين سورة الفتح، قبيل أداء صلاة الفجر، راجين من الله النصر والتوفيق لأفراد الجيش التركي في مهمتهم.

وتضرع المصلون بالدعاء إلى الله عز وجل، لنصرة الجيش التركي وصون الجنود الأتراك وتكليل جهودهم ومساعيهم بالنجاح.

أما في العاصمة أنقرة، حضر صلاة الفجر في مسجد الحاج بيرم، رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب ووزير الداخلية سليمان صويلو والعدل عبدالحميد غل ورئيس الشؤون الدينية علي أرباش.

وفي 2018 ابتهلت المساجد في جميع أنحاء تركيا، بالدعاء للجيش التركي إلى أن تتكلل بالنصر عملية "غصن الزيتون" التي انطلقت في مدينة عفرين السورية.

وقال بيان نشره الموقع الإلكتروني لرئاسة الشؤون الدينية التركية: إن "رئيس الشؤون الدينية علي أرباش أرسل إلى جميع أئمة المساجد في تركيا طالبا الدعاء لجيشنا وأمتنا بالنصر، وقراءة سورة الفتح قبل أو بعد صلاة العشاء مساء السبت وصلاة فجر الأحد من أجل أن تتكلل بالنصر العملية التي بدأها جنودنا الأبطال في عفرين ضد الكيانات الإرهابية التي تهدد وطننا وأمننا".

في حوار سابق قال رجل الدين التركي، خليل الطويل: "المساجد في تركيا كانت دائما تقوم بأدوار اجتماعية وسياسية، لكن الدولة العلمانية منذ عام 1923، وفترة حكم مصطفى كمال أتاتورك، حاولت تغييب تلك الأدوار".

مضيفا: أن "المساجد في تركيا ومنذ حكم العدالة والتنمية نهاية عام 2002، بدأت تستعيد دورها الاجتماعي في التعاون وحتى التثقيف من خلال دروس الدين بين الصلوات وحتى فتح أبوابها للمسافرين ومن يود الجلوس والقراءة أو حتى بحث شؤون البلاد العامة والخاصة".

مآرب أخرى

في عام 1923 ألغيت الخلافة العثمانية وأُعلنت تركيا جمهورية، وبدأ آنذاك محو كل معالم الدين داخل الدولة ومنها المساجد، ففي عام 1925 منع رفع الأذان وأداء الصلاة في أيا صوفيا، التي تعد رمزا لفتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح. 

وفي نفس العام قررت الحكومة التركية الجديدة بزعامة مصطفى كمال أتاتورك تحويل القرآن الكريم إلى اللغة التركية وقراءته بها بدلا من العربية.

الآن وصل عدد المساجد في تركيا 90 ألفا، مقسمة إلى مجموعات: مساجد الأسواق، مساجد الميادين، مساجد الأحياء، وهي ليست للصلاة فقط، بل تضم مساحات للجلوس وأخرى للقراءة والتنزه أيضا.