الربيع الجزائري.. حراك متطور وسيناريوهات مفتوحة

12

طباعة

مشاركة

عقب 3 أسابيع من الحراك الشعبي الرافض لترشح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، والمطالب بتغيير النظام، وتحديدا 18 يوما من التظاهر (على غرار الثورة المصرية)، قرّر بوتفليقة عدم خوض الانتخابات وتأجيلها، ضمن 7 قرارات تثير الجدل والتساؤل (بيان بوتفليقه للشعب): هل انتصرت إرادة الشعب حقيقة، أم أن الدولة العميقة مازالت تناور؟

فمن وجهة نظر الانتقال السياسي السليم، تعاني الإجراءات المعلنة على لسان بوتفليقة خللا من وجهين: (الأول): تعيين رئيس الحكومة الجديد دون تشاور مع القوى السياسية والمدنية، رغم أنه يتحدث عن الاستجابة لمطالب الشعب وحكومة كفاءات وطنية، و(الثاني) أن البيان يعني تمديد رئاسة بوتفليقة (الرابعة بعد رفض الشعب للخامسة) إلى أجل غير مسمى دون سند دستوري لذلك.

ويُستخلص من بيان بوتفليقه ثلاثة نتائج هامة:

  • البيان ظاهره تلبية مطالب الاحتجاجات، إلا أنه نسخة من بيان ترشحه الأسبوع الماضي (الذي أعلن فيه أنه لن يبقى سوى سنة واحدة ثم يجري انتخابات) ولكن دون المضي في إجراءات انتخابات، وهو ما يعني أنه سيحكم فترة لم يحددها دون انتخابات، ويشكل حكومة جديدة، ويدعو لإنشاء "جمعية وطنية" من القوى السياسية لوضع إصلاحات للنظام، ويدعو لانتخابات جديدة، برغم افتقاده الشرعية.
  • بوتفليقة كان قد طلب الصبر عليه لفترة (حددها مدير حملته الانتخابية عبد الغني زعلان بسنة فقط) حال توليه عهدة خامسة، يتنحى بعدها ويشكل حكومة جديدة، ووفقا لبيان الرئاسة الجزائرية الأخير يبدو أنه سيمدد حكمه الفترة التي طلبها (سنة) يدعو فيها لانتخابات جديدة بعد تشكيل جمعية وطنية مستقلة بغرض إصلاح النظام، ويكون أركان السلطة المتصارعين على خلافته قد اتفقوا على خليفته.
  • بيان بوتفليقة لم يحدد مدة تأجيل الانتخابات، أي أنه سيمدد فترة حكمه بدون انتخابات، لهذا خرجت المظاهرات هذه المرة تقول "لا لتمديد العهدة الرابعة" بعدما كانت ترفض العهدة الخامسة.

امتداد لحراك 1988

لقد خرج الجزائريون بالملايين إلى الشوارع في مسيرات سلمية حضارية أذهلت العالم، لكن التجاوب مع مطالبهم لم يلب طموحاتهم، بعدما لجأت السلطة إلى تمديد عهدة بوتفليقة الرابعة، والتي قد تمتد لعهدة خامسة بدون انتخابات، بدعاوي تلبية مطالب الشعب، وهو السيناريو الذي روجت له أحزاب التحالف الرئاسي قبل أشهر، تحت غطاء الاستمرارية.

بعبارة أخري: ما أعلنه النظام الجزائري من قرارات ردا على الحراك الشعبي قد يكون مكسبا للشعب ينتهي بانتخابات حرة وديمقراطية حقيقية وفق تعهدات بوتفليقة، وعدم فرض الدولة العميقة مرشح آخر بدل بوتفليقة، وقد تكون، على العكس، هذه القرارات لها قراءة أخري، مفادها أن النظام يرتب لإجهاض الحراك الشعبي وإعادة إنتاج نفسه من جديد، ولذلك أعطي لنفسه مهلة لترتيب أوضاعه وتبريد الشارع.

ويبدو الحراك الجزائري الأخير كأنه امتداد لحراك 1988 حين خرج الجزائريون ضد نظام حكم الرئيس الشاذلي بن جديد[1]، بسبب إفلاس هذا البلد النفطي، وطلبا للديمقراطية، لهذا تبدو المخاوف أن ينتهي لنفس سيناريو ما انتهي له الأول، نتيجة رفض الدولة العميقة التخلي عن مكاسبها، وأن تشهد الجزائر عشرية سوداء ثانية.

وبدأت الأزمة الأولى بتدخل الجيش وإلغاءه الجولة الثانية من انتخابات الجزائر 1992، وما تلاهما من "العشرية السوداء" التي شهدت فترة عنف واقتتال بين مسلحي جبهة الإنقاذ، والجيش والشرطة الجزائرية.

فمنذ ذلك الحين، والجزائر تعيش مرحلة عدم استقرار سياسي وتوالي عليها 3 رؤساء في فترة قصيرة هي 7 سنوات، لذلك جاء بوتفليقة في صفقة بين القوى المتحكمة في البلاد، خاصة الجيش، كحل توافقي باعتباره آخر من بقي من أعضاء "حزب جبهة التحرير".

وبعد مرور 20 عاما على 4 ولايات لبوتفليقة ومرضه، عادت المشكلة، فلم يخرج الحراك الشعبي الجزائري الحالي من فراغ، وإنما خرج الجزائريون لاستعادة السيطرة على الحياة السياسية التي أُقصُوا منها منذ العام 1962، عام استقلال الجزائر، وعام 1992، بحثا عن أهداف "ثورة التحرير الوطنية" الأصلية في التحرر داخليا (الطبقة الحاكمة المسيطرة) وخارجيا (القوى الدولية التي ترتبط مصالحها بالفئة الحاكمة).

ولأن المشكلة هي أن معظم المحاربين القدامى الذين قاتلوا ضد الفرنسيين قد ماتوا، ما يعني أن الرئيس المقبل لن يكون من المشاركين في حرب التحرير، وأي رئيس من جيل ما بعد الاستقلال سيفتقر إلى الشرعية الموضوعية والمصداقية التي يملكها بوتفليقة حاليًا، فقد أوقع من يحكمون من وراء ستار بوتفليقة في مأزق البحث عن رئيس توافقي جديد يفرضونه عبر صناديق الانتخابات.

والآن بعدما أعلن الشعب رفضه ولاية خامسة لبوتفليقة وطالب بانتخابات حرة، ولم يتراجع رغم تهديدات قائد الجيش المستترة، وعدم توقف المظاهرات، بات على الدائرة المغلقة الحاكمة (الدولة العميقة) أن تُقيم الوضع، في أعقاب الحراك الشعبي القوي، وتقرر خيارات المستقبل.

موقف الجيش

البيانان اللذان أصدرهما في أقل من 24 ساعة، رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، انطويا على تحذيرات من هذا الحراك ورفض المتظاهرين لخيارات الجيش[2]، ففي (البيان الأول)[3] قال إن الجيش لن يسمح بعودة البلاد إلى "سنوات الجمر والألم"، في إشارة إلى أحداث العنف المعروفة بـ "العشرية السوداء" التي شهدتها الجزائر في فترة التسعينيات، وراح ضحيتها نحو 100 ألف شخص.

وفي "البيان الثاني"[4] تحدث بلهجة أقل حدة، أكد فيه أن "الجيش سيبقى فطناً ومتيقظاً وحارساً أميناً لمصلحة الوطن وفقاً للدستور، وأنه يعرف كيف يكون على مستوى المسؤولية المطالب بتحملها في كل الظروف والأحوال".

ورغم أن البيان الثاني لـ "صالح" لم يمثل تراجعاً على المستوى العملي؛ إذ أكّد أن الانتخابات المقرر إجراؤها في 18 أبريل المقبل ستُجرى في موعدها، فإن البعض رأى أن تغير اللهجة يشير إلى أن موقف الجيش بات أكثر تفهماً لمبررات وأسباب الحراك الشعبي، ومحاولة الالتفاف عليه.

واللافت أن الحراك الحالي لم يقتصر على المعارضة فحسب، إذ تقدم برلمانيون وأعضاء في حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم باستقالاتهم من الحزب وأعلنوا دعمهم للحراك الاحتجاجي ومشاركتهم فيه، ما قد يشير إلى تصدعات داخل معسكر بوتفليقة.

ولأن ثورة الشعب الجزائري ليست ضد بوتفليقة وإنما ضد "الجلاد الوطني" الذي حل محل "الجلاد الفرنسي" ويتمسك باستمرار المهمة ولكن برداء "بوتفليقة"، والشعب خرج ليطالب ببديل لهذا النظام ككل، ويصعب توقع قبوله برئيس يفرضه الجيش مرة أخرى، تبدو الخيارات المستقبلية صعبة.

لهذا يُحمل خبراء ومحللون سياسيون، جنرالات المؤسسة العسكرية السبب في هذه الأزمة ويرون أنهم مَن أساء إلى الرئيس بوتفليقة بترشيحه رغم مرضه (الرئيس قال في بيانه "إنني لـم أنْوِ قط الإقدام على طلب العهدة الخامسة")[5]، ويرون أن المؤسسة العسكرية والطبقة الحاكمة المتحالفة معها، التزمت الصمت تجاه المسيرات دون أن تتحرك لحلحلة الأزمة ووفرت الأسباب لتحول الأزمة إلى حراك شعبي شامل يطالب بتغيير النظام ككل.

وتبقي نهايتان للحراك الجزائري: (الأول) استكمال بوتفليقة والجنرالات والأحزاب الحاكمة تنفيذ ما تعهد به بوتفليقة دون التفاف على مطالب الشعب، وعدم تكرار ما فعله الجنرالات مع الثورة المصرية، و(الثاني) تسويف وإطالة الفترة الانتقالية التي طلبها بوتفليقة لحين تشكيل حكومة كفاءات وطنية وإجراء انتخابات جديدة، ما يعيد خيار عودة الشعب للحراك بصورة ربما أعنف، ورد الأمن والجيش بعنف ما يعيد إنتاج أزمة وعشرية الجزائر السوداء.

نشأة الحراك الشعبي

ظل المراقبون ووسائل الإعلام الجزائرية يتساءلون عقب اندلاع ثورة الربيع العربي الأولى عام 2011: "لماذا أفلتت الجزائر من الربيع العربي حتى الآن؟"[6]، وكيف نجحت السلطة الجزائرية في تجنب ربيع عربي على أراضيها؟، ويرجعون الأمر إلى "البحبوحة المالية" بإغداق السلطة المال لتهدئة أي جبهات احتجاجية كمطالب العمال وغيرهم.

ويرجعون السبب أيضا لتخوف الجزائريين من تجربة الحرب الأهلية المريرة التي عاشوها في تسعينات القرن الماضي (العشرية السوداء) ويرون أنها لعبت دورا في عزوف الجزائريين عن الالتحاق بركب دول الربيع العربي.

هذا السعي الجزائري الرسمي لإجهاض الاحتجاجات بالترغيب والترهيب، لم يمنع، مع هذا، وقوع احتجاجات عدة، أشهرها مظاهرات عامي 2011 و2016، ولكن أغلبها كان احتجاجات ذات مطالب اقتصادية أو فئوية، وتختلف عن الحراك الشعبي الجماعي الحالي الذي بدأ بمظاهرات الجمعة 22 فبراير 2019، والتي لا تزال مستمرة.

والتي تطورت من المطالبة برحيل الرئيس الحالي المُقعد بوتفليقة ورفض ترشيحه لفترة خامسة لأنه واجهة لغيره ولا يحكم فعليا، إلى إسقاط النظام ككل الذي أفرز بوتفليقة وغيره.

وأثار إعلان ترشح بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة موجة من الاحتجاجات بدأت يوم 22 فبراير/شباط 2019 في العديد من المدن، من بينها العاصمة التي يمنع فيها التظاهر منذ 2011.

وخرج عشرات الآلاف إلى الشوارع في جميع أنحاء الجزائر، مطالبين بوتفليقة (82 عاما) بعدم خوض الانتخابات الرئاسية، المقررة يوم 18 أبريل، بالرغم من أنه قدم أوراق ترشحه بالفعل.

وفي 2013 تعرض الرئيس الجزائري لسكتة دماغية جعلته جالسا على كرسي متحرك، وقبل ترشيحه للعهدة الخامسة، خضع بوتفليقة للعلاج داخل مستشفى جنيف الجامعي بسويسرا بعد أنباء عن تدهور حالته الصحية، وزاد تكهنات مرضه الشديد عودة الطائرة التي تقله من سويسرا بدون، ثم سفرها مرة أخرى الأحد 10 مارس 2019 لسويسرا وسط توقعات بعودته لتأكيد ترشيحه للرئاسة، إذ أن حضوره بنفسه شرط لتأكيد ترشيحه.

وأغلق المجلس الدستوري الباب أمام الترشح لمنصب الرئاسة، ليكون هناك 21 مرشحًا قدموا أوراقهم رسمياً للمجلس الدستوري، ورفض استلام رسالة من اتحاد المحامين الجزائريين، تطعن في دستورية ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة.

وكان من المقرر أن يفصل المجلس الدستوري في 14 مارس 2019 في الأوراق التي قدمها المرشحون ليعلن بعدها القائمة النهائية للمرشحين، عملا بأحكام المواد 29، 30 و31 من النظام المحدد لقواعد عمل المجلس الدستوري، وسط شكوك الشارع في "الطاهر بلعيز" رئيس المجلس واتهامه بأنه "قريب من بوتفليقة والمحيط الرئاسي"، وهو ما توقف بعد تأجيل بوتفليقة للانتخابات.

وكان بوتفليقة سيواجه في تلك الانتخابات منافسين لا يتمتعون بحظوظ قوية في ظل مقاطعة المعارضة للانتخابات، أقواهم اللواء متقاعد على غديري، المدعوم من بعض القوى داخل النظام الجزائري، ليكون المنافس الوحيد لبوتفليقة في هذه الانتخابات.

وفي محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، قبل بيان تأجيل الانتخابات، حاول مدير حملة بوتفليقة عبد الغني زعلان، إقناع الجزائريين أن الأخير سيدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة خلال سنة، لن يترشح فيها، حال فوزه في الانتخابات المزمع عقدها في أبريل المقبل.

وقال في بيان[7] إن بوتفليقة سيقوم بإعداد دستور جديد يزكّيه الشعب الجزائري عن طريق الاستفتاء، "يكرس ميلاد جمهورية جديدة والنظام الجزائري الجديد ووضع سياسات عمومية عاجلة كفيلة بإعادة التوزيع العادل للثروات الوطنية وبالقضاء على كل أوجه التهميش والإقصاء الاجتماعيين، ومنها ظاهرة الحرقة، بالإضافة إلى تعبئة وطنية فعلية ضد جميع أشكال الرشوة والفساد".

وهي رسالة موجهة للمتظاهرين الغاضبين وتنازل مهم، بيد أنها أثارت مزيدا من غضب المتظاهرين ورفضوها متسائلين: لماذا لا ينسحب بوتفليقة الآن وليس بعد سنة؟ ولماذا الإصرار على ترحيل الأزمة عاما كاملا؟

ويُعتقد أن التأجيل راجع لخلافات داخل المنظومة الحاكمة حول خليفة "بوتفليقة"، ولإعطاء الجيش فرصة لتجهيز بديل يحظى بالتوافق بين الطبقة الحاكمة التي تتشكل من الجيش والمخابرات وسياسيي جبهة التحرير.

تطور ومآلات الحراك

بدأ الحراك الجزائري الحالي يوم 22 فبراير/شباط 2019 بالاحتجاج على إعادة ترشيح بوتفليقة لدورة رئاسية خامسة وهو مريض ولا يحكم فعليا، برفع شعارات: "لا بوتفليقة لا السعيد" في إشارة إلى الرئيس السابق للمجلس الشعبي الوطني، و"بوتفليقة ارحل"، و"أويحيى ارحل"، في إشارة إلى رئيس الوزراء أحمد أويحيى.

ومع دخول المظاهرات ضد العهدة الخامسة أسبوعها الثالث 8 مارس/آذار 2019، بعد خروج الملايين من الجزائريين في مسيرات حاشدة الجمعة 22 فبراير ثم 1 مارس ثم الجمعة 8 مارس، واستعدادهم للخروج في 15 مارس، وتطور مطالب الجماهير من عدم ترشيح بوتفليقة فقط إلى "الشعب يريد إسقاط النظام"، بات الرهان على مستقبل الحراك صعبا حتى بعد بيان تنحي بوتفليقة النظري.

فالشعب رفض مجمل الخيارات التي تفكر فيها "الترويكا الحاكمة" المتمثلة في: الجيش (ويمثله أحمد قايد صالح رئيس الأركان)، والاستخبارات (ويمثلها محمد الأمين مدين، المعروف باسم الجنرال توفيق الذي عزل من الاستخبارات عام 2015)، والدولة العميقة (ويمثلها سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس).

وزاد من مآلات أزمة الحراك الجزائري، الخلاف في التفكير بين المتظاهرين والطبقة الحاكمة، فطبيعة الاحتجاجات جوهرها بالأساس المطالبة بمزيد من الحريات وسعي البلاد للتحول الديمقراطي الحقيقي، بينما الطبقة الحاكمة تسعى لحصر الحكم في شخصية توافقية يقبلها كافة أعضاء الترويكا الحاكمة، كبديل لبوتفليقة.

فمن عقبات حلحلة الأزمة، غياب "مرشح توافقي" سواء للترويكا الحاكمة أو بالنسبة لقطاع عام من الجزائر في ظل صراع بين أطراف الدولة العميقة في الجزائر المتمثلة في الجنرال توفيق، ضد سعيد بوتفليقة، وأحمد قايد صالح، رئيس الأركان.

وزاد الأزمة اشتعالا وصف قائد أركان الجيش مطالب الشعب في المظاهرات بأنها «نداءات مشبوهة»[8] وقوله في كلمة أمام قيادات عسكرية بالمنطقة العسكرية السادسة (جنوب): "هل يعقل أن يتم دفع بعض الجزائريين نحو المجهول من خلال نداءات مشبوهة، ظاهرها التغني بالديمقراطية، وباطنها جر هؤلاء المغرر بهم إلى مسالك غير آمنة وغير مأمونة".

وجاء تذكير "صالح" للجزائريين بالعشرية السوداء كتلميح عسكري بأن البديل عن قيادة الجيش للبلاد عبر بوتفليقة أو بديله، سيعود بالجزائر إلى سنوات الدم والنار، ما ترك صداه لدى المعارضين السياسيين.

وبسبب هذا الصدام بين رؤية الجيش (ومن خلفه الطبقة الحاكمة) للحل، ورؤية الشعب ممثلا في المتظاهرين لحل مضاد، يتوقع كُتاب وباحثون جزائريون اتساع رقعة الاحتجاجات وبدء استخدام العنف من جانب الجيش ومنع المظاهرات في العاصمة، خصوصا بعد رفض الشعب ما أسموه التفاف بيان إلغاء بوتفليقة العهدة الخامسة، على مطالب الشعب.

فالنظام السياسي في الجزائر لم يتعود على مثل هذه المطالب منذ نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، وما واجهه منذ أكثر من عقدين من الزمن كانت مطالب ذات طابع اجتماعي، وليس سياسي.

وجاء اعتقال قرابة 200 جزائري في آخر مظاهرات 8 مارس ووقوع مصادمات بين متظاهرين والشرطة، وتبكير إجازات الجامعات لمنع الطلاب من التظاهر كإنذار أول بشأن هذا التوجه الحكومي المترقب، وأول اختبار حقيقي للحراك الشعبي ضد العهدة الخامسة.

بالمقابل جاء رد الشعب بالتصعيد وبدء تنفيذ العصيان المدني الأحد 10 مارس، بتنفيذ إضراب عام وغلق العديد من المحال التجارية في ولايات الجزائر وندرة حركة النقل، وتوسع حركة العصيان لتشمل قطاعات عمومية، مثل سوناطراك (شركة النفط الحكومية) في بجاية أو بعض البنوك، وخروج عمال الغاز بشركة GTP بحاسي مسعود في اضراب من أجل رفض العهدة الخامسة، ليشكل تحديا للسلطة وتوقع أن تبقي "التهدئة" بعيده بسبب تعنت السلطة وتجاهلها لمطالب الشعب، وتصعيد الشعب بالمقابل.

وجاءت الخطوة المتراجعة الحاسمة من بوتفليقة والقوى الحاكمة بتأجيل الانتخابات والاستجابة النسبية لمطالب الشعب، بعدم ترشح بوتفليقة للمرة الخامسة، لتسطر انتصارا معنويا هاما للشعب لا يزال ينتظر، إما استكماله أو اجهاضه على غرار ما سعت حكومات عربية أخرى فعله في الربيع العربي الأول 2011.

فبإلغاء انتخابات الجزائر، انتهى خطر الولاية الخامسة وبدأ خطر تمديد الولاية الرابعة لنفس النظام.

ولا تزال المخاوف لدى القوى السياسية المختلفة في الجزائر، أن يكون بيان بوتفليقة ليس سوى بداية لـ "سيناريو مصر" للالتفاف على ما أنجزه هذا الشعب، عبر السعي لامتصاص الغضب الشعبي بالإعلان عن بعض الإصلاحات الشكلية بينما المطلوب هو الإعلان عن مرحلة انتقالية يتم خلالها تعديل الدستور لإبعاد الجيش عن السياسة كليا ثم إجراء انتخابات حرة لا رقابة عليها.

كيف تفاعلت القوى المختلفة مع الحراك؟

رغم أنه لم يُعلن عن قائد أو قادة رسميين للحراك الجزائري، الذي انطلق عفويا، إلّا أن الكثير من القوى والفعاليات الجزائرية دعمت بقوة المسيرات الضخمة التي شهدتها العديد من المدن في البلاد ضد ترشيح بوتفليقة لعُهدة رئاسية خامسة، منها أحزاب وتنظيمات وقوى عمالية وجمعيات.

ويمكن رصد 9 قوى مختلفة داعمة للحراك[9] ضد استمرار بوتفليقة على النحو التالي:

أولا: نشطاء المواقع الاجتماعية

لم تشهد الجزائر في سنوات ما يسمى بـ "الربيع العربي" حملات إلكترونية للمناداة بتغيير الأوضاع، لكن الوضع تغيّر مؤخراً، إذ يلعب نشطاء هذه المواقع أدواراً كبيرة في الحشد ضد ترشح بوتفليقة، وهو ما دفع بقوى المعارضة التقليدية إلى استلهام النموذج والاستفادة من آليات التواصل الاجتماعي لنشر رسائلها السياسية.

ثانيا: مرّشحون للرئاسة

يتصدر "رشيد نكاز"، رجل الأعمال الشهير، المعارضون لتولي بوتفليقة فترة رئاسية خامسة، وذهب لسويسرا ليتعرف بنفسه على حالته ويكشفها للشعب واعتقل لهذا السبب. ويتميز "نكاز" بقدرته الواضحة على الحشد وإصراره على المشاركة في المظاهرات رغم ملاحقة الأمن له.

وهناك أيضا "علي بن فليس" رئيس حزب طلائع الحريات، الذي يدعو للمسيرات.

كما عبّر المرشح على غديري، وهو جنرال سابق، عن تأييده للمسيرات، لكن بشكل متحفظ.

وأيدها أيضا عبد الرزاق مقري رئيس حركة مجتمع السلم (حمس) الممثل لجماعة الإخوان المسلمين وخرج في المظاهرات بعدما رشح نفسه للرئاسة قبل أن يعلن مكتب الحركة سحب مرشحه بتصويت أغلبية أعضاءه.

ثالثا: حركات وجبهات وطنية

أعلنت جمعية "قدماء وزراء التسليح والاتصالات العامة" (المالغ)، التي يترأسها وزير الداخلية الأسبق دحو ولد قابلية دعم الاحتجاجات الشعبية، ضد العهدة الخامسة، وأكدت مشاركتها "قلق وغضب الشعب أمام الاحتقار والرفض الذي أبدته السلطة في وجه مطالبه بالتغيير".

وقال "قدامى المحاربين الجزائريين" إن مطالبة المحتجين بأن يترك بوتفليقة منصبه بعد أن أمضى 20 عاما في السلطة "تقوم على اعتبارات مشروعة"، وحثوا جميع المواطنين على التظاهر في بادرة أخرى على الانشقاق في صفوف الصفوة الحاكمة.

وقالت "حركة مواطنة" التي كانت من أوائل من دعوا إلى التظاهر ضد ترّشح بوتفليقة، بقيادة "سفيان جيلالي"، رئيس حزب جيل جديد، وهو حزب حديث النشأة.

وتضم "حركة مواطنة" في صفوفها بعض الأحزاب والشخصيات المعارضة، وأصدرت بيانا دعت فيه لترشيح "مرشح إجماع" من أجل مرحلة انتقالية متفاوض عليها، ومرحلة انتقالية واعتبرت ترشيح بوتفليقة "يمثل خطوة خطيرة تحكم على الجزائريين باليأس وتغذي الانقسام داخل الوطن، كما تشجع الشباب على مواصلة الهجرة، وتضعف الدولة داخليا وأمام الأمم".

وتقول الحركة إنها "تهدف إلى تغيير جذري لنظام الحكم من خلال إرساء دولة القانون بالطرق الديمقراطية وإنماء روح المواطنة".

رابعا: طلبة الجزائر

لعب الطلبة دورا كبيرا في الحراك الشعبي، وكانوا همزة وصل حقيقية بين المسيرات من جمعة إلى أخرى، لا سيما من خلال المظاهرات الدورية التي نظموها وباتوا هم الشريان الحقيقي الذي يعمل على التعبئة لمسيرة الجمعة المليونية، كما أن الطلبة كانوا في مقدمة الصفوف المنظمة للمسيرات، وعملوا على عدم وقوع استفزازات أو تجاوزات في المسيرات.

وشارك الطلبة الجزائريون بكثافة في المظاهرات، خاصة مظاهرات يوم الثلاثاء 26 فبراير 2019، ورغم محاولات منعهم من لدن قوى الأمن، إلّا أن احتجاجاتهم خرجت من أسوار الجامعات.

ومن المرجح أن يكون هذا الدور الريادي الذي قام به الطلبة وراء قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لتبكير إجازات الجامعات وموعد عطلة الربيع وتمديد فترتها، لمنع تواجد آلاف الطلبة المقيمين في الأحياء الجامعية من التعبئة والتواجد في المدن الرئيسية وتنظم المسيرات.

غير أنه وفي مساء 9 مارس، وربما بسبب ردود الفعل القوية من الطلبة تراجعت وزارة التعليم على هذا القرار ضمنا، وأعلن "الديوان الوطني للخدمات الجامعية" الاستمرار في تقديم مختلف الخدمات والطعام للطلاب، وبالتالي سيكون الطلاب قادرين على البقاء في الأحياء الجامعية وقيادة المظاهرات.

خامسا: الحركة الأمازيغية

 شاركت منطقة القبائل، ذات الغالبية الأمازيغية، في المسيرات بكثافة، حيث لوحظ حضور الأعلام الأمازيغية في منطقة لطالما شهدت علاقتها توترا مع السلطة المركزية.

ودعت الكثير من الفعاليات والأحزاب الجزائرية المدافعة عن المكوّن الأمازيغي للاحتجاجات، خاصة "حزب التجمع من أجل الثقافة".

سادسا: معارضون مستقلون وشخصيات شهيرة

مثّل حضور معارضين مستقلين وشخصيات شهيرة في المسيرات دفعة كبيرة للمتظاهرين، أبرزهم المناضلة "جميلة بوحيرد" التي تمتلك رصيدا شعبيا كبيرا.

كما حضر رجل الأعمال "يسعد ربراب" الذي توترت علاقته مع السلطة منذ سنوات، فضلاً عن حشد كبير يمارسه مثقفون وفنانون وأكاديميون تجاوز عددهم المائتين، ومعارضون جزائريين في الخارج مثل محمد العربي زيتوت.

سابعا: الأحزاب الإسلامية

لم تفوّت أحزاب المعارضة الإسلامية فرصة الاحتجاجات لتأكيد رفضها المجدد لنظام بوتفليقة.

وكانت "حركة مجتمع السلم" أبرز المشاركين بأعضائها في المسيرات، وكذلك "جبهة العدالة التنمية"، وكلاهما أكدا مبدئياً اتفاقهما على ضرورة توحد كل أطياف المعارضة وراء مرشح وحيد لأجل قطع الطريق أمام بوتفليقة، لهذا سحب رئيس حركة مجتمع السلم ترشيحه للرئاسة.

أيضا شارك "علي بن حاج" نائب رئيس "جبهة الإنقاذ الإسلامية" المحظورة في الاحتجاجات، قبل أن توقفه قوى الأمن بعنف وتمنعه.

ثامنا: أحزاب اليسار

شاركت الأحزاب اليسارية في المسيرات ورفض بوتفليقة، وشاركت لويزة حنون، الأمينة العامة لحزب العمال الجزائري اليساري المعارض، في الاحتجاجات.

كما شارك حزب "جبهة القوى الاشتراكية"، أحد أقدم أحزاب البلاد المعارضة في رفض ترشيح بوتفليقة، وأكد في بيان له أنه "اختار الاصطفاف إلى جانب الشعب"، معلناً تعليق نشاطاته في البرلمان وسحب نوابه.

تاسعا: النقابات المهنية

شاركت عدة نقابات مهنية في المسيرات والاحتجاجات ضد ترشيح بوتفليقة، ودعت 13 نقابة مستقلة إلى حماية المتظاهرين وتوفير الأجواء السلمية للتظاهر.

وخرج الكثير من الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام الرسمية، للاحتجاج على الرقابة الممارسة عليهم في تغطية الاحتجاجات، كما خرج العديد من المحامين في مسيرة خاصة لتأكيد رفضهم ترّشح بوتفليقة.

بالمقابل أكدت "المركزية النقابية" القريبة من السلطة أنها تساند بوتفليقة، وهو موقف لم يفاجئ المراقبين.

ورغم بيان عدم ترشح بوتفليقة والترتيب لحكومة انتقالية وانتخابات جديدة، فقد رفض الجزائريون على اختلاف أحزابهم وحركاتهم وأطيافهم وشبابهم بيان بوتفليقة وأعلنوا خروجهم الجمعة 15 مارس #حراك_15_مارس رافعين شعارات: #لا_لتمديد_العهدة_الرابعة، و#ترحلوا_يعني_ترحلوا، وهي مؤشرات أن أهل الجزائر تعلموا من نكبة أهل مصر بعد مغادرتهم الميادين 11 فبراير/شباط 2011 بعد بيان تنحي مبارك.

ورفضت حركة مجتمع السلم (حمس) المعبرة عن الإخوان بالجزائر، الإجراءات التي أعلن عنها بوتفليقة، واعتبرتها إفراغا لمبادرة الحركة للخروج بالبلاد من الأزمة السياسة التي تعيشها.

وكانت "حمس" قد قدمت قبل أشهر مبادرة سياسية للخروج بالأزمة السياسية وتفادي الصدام بين الدولة والشارع، من خلال مقترح تأجيل الانتخابات والقيام بإصلاحات سياسية وقانونية ترسي ضمانات انتخابات حرة وديمقراطية.

وقال بيان الحركة[10]، في 12 مارس 2019: "إن هذه الإجراءات هي التفاف على إرادة الجزائريين يقصد بها تفويت الفرصة التاريخية للانتقال بالجزائر نحو تجسيد الإرادة الشعبية والتخلص نهائيا من النظرة الأحادية الفوقية".

مواقف القوى الإقليمية

كانت الشعارات واللافتات التي رفعها الجزائريون في مسيراتهم، أبلغ تعبير عن القوى الإقليمية، الممثلة في دول عربية تعارض المظاهرات في الجزائر وتدعم بقاء بوتفليقة رئيسا، لأسباب تتعلق بالقلق من أن يكون الحراك الجزائري – حال نجاحه – مقدمة لموجة ثانية من الربيع العربي تخشاها هذه الدول التي تمثل تيار "الثورة المضادة" في العالم العربي.

فقد رفع الجزائريون لافتات تنتقد الإمارات ومصر والسعودية على وجه الخصوص، وحملت اللافتات شعارات منها: "تسقط الإمارات يسقط بوتفليقة"، و"ارحل يا سيسي" و"من الشعب الجزائري للشعب المصري اطمن انت مش لوحدك"، كما طرد متظاهرون جزائريون مراسل قناة "العربية" السعودية من تغطية المظاهرات، وبرروا هذا بأن "حكام السعودية يقفون ضد الجزائر وشعبها".

وبدت هذه اللافتات الجزائرية كأنها تختصر معاناة كل الثورات العربية التي عانت من تدخل هذه الدول الثلاثة وكانت سببا في موجة "الثورة المضادة" التي أعقبت الربيع العربي، وتمثلت بوضوح في دعم انقلاب الجيش في 3 يوليو/تموز 2013 على أول تجربة ديمقراطية جاء بها ربيع مصر.

وأظهرت مواقف دول "الثورة المضادة" خاصة مصر والإمارات والسعودية من الحراك الجزائري، قلقها منه ومن تمدده لو انتصر كموجة ثانية من الربيع العربي، ومحاولتها التدخل فيه، وبالمقابل أظهرت دول مثل قطر وتركيا رغبتها في أن يستمر الحراك وينتهي لديمقراطية فعلية.

وجاء الحراك السلمي في الجزائر بعد 8 سنوات من أحداث الربيع العربي التي انطلقت من تونس وانتشرت في ليبيا ومصر والعديد من الدول الأخرى، ليبدو كأنه تصحيح لموجة الربيع الأولى.

ويمثل ما تشهده الجزائر وكذلك السودان، موجة جديدة من الربيع العربي في مواجهة الثورة المضادة، ترسل رسائل لقادة محور الثورة المضادة (مصر والإمارات والسعودية) بأن هناك جولة جديدة من الثورات قد تمتد لدولهم، ما يفسر رفض هذه الدول للحراك الجزائري.

وعمقت مظاهرات الجزائر والسودان المؤشرات بأن أحداث الماضي القريب يمكن أن تتكرر، فكما كانت تونس الحجر الأول في "دومينو" حراك التغيير السياسي قبل 8 أعوام، جاءت شرارة الإلهام للموجة الثانية من الاحتجاجات الشعبية العربية من خارج المنطقة، وتحديدا من فرنسا، مستلهمة تظاهرات السترات الصفراء، ثم من عدد من الدول العربية المأزومة اقتصاديا، والمحتقنة سياسيا واجتماعيا، لتبدأ من الخرطوم ثم الجزائر ومرشحه للاشتعال في دول عربية أخرى.

وبدأ أن موجة تسونامي احتجاجي على وشك الاندلاع ليس في الجزائر فقط ولكن العديد من العواصم العربية لأن ما شهدته المنطقة في موجة الربيع الأولى لم يكن كافيا لتحقيق مطالب الشعوب.

فإذا نجح الربيع في الجزائر فستهب نسائمه على السودان ثم تنفرط السبحة، فالربيع الجزائري نجح في الأدوار التمهيدية، ودخل في التصفيات النهائية، فإما أن يحقق البطولة ويهزم أموال الثورات المضادة أو فليستعد للسيسي الجزائري.

ولا شك أن انتصار الحراك الجزائري في نهاية المطاف، بقبول بوتفليقة التنحي وعدم الترشح لفترة رئاسية خامسة وتأجيل الانتخابات، سيسبب إزعاجا كبيرا في أوساط مثلث الثورة المضادة (مصر والإمارات والسعودية)، فقبل إعلان بوتفليقة عدم ترشحه بساعات كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يبدي انزعاجه من مظاهرات الجزائر، وقبله كان قادة الإمارات (محمد بن راشد ومحمد بن زايد ومنصور بن زايد) يلتقون رئيس الأركان الجزائري.

وحذر عبد الفتاح السيسي[11]، من مخاطر تظاهر الشعوب في "الدول المجاورة" على مصر وعلى هذه الدول، قائلا، في ندوة عقدت في إطار احتفال الجيش المصري بـ "يوم الشهيد"، أن "الناس في هذه الدول"، التي لم يسمها، "تضيع في بلدها لأن كل هذا الكلام (الاحتجاجات والتظاهرات) له ثمن ومن سيدفع الثمن هو الشعب والأولاد الصغار".

إذ أن نجاح الثورة في الجزائر له أبعاد على المنطقة، وهناك حكام قد تهتز من تحتهم الكراسي حال انتهاء الحراك الجزائري بتحقيق مطالبه الفعلية، فهذه النتيجة التي حققها الجزائريون تدق أول مسمار في نعش الثورة المضادة وتؤرخ للموجة الثانية من الربيع العربي.

وقبل انتصار الشعب الجزائري وتنحي بوتفليقة الرمزي، قال تقرير نشرته مجلة "فورين بوليسي"[12] البحثية الأمريكية 8 مارس 2019، أن الربيع العربي لم ينته بعد وروحه لا تزال مستمرة، وأنه رغم تصور الحكام العرب أن السلطات الأمنية والعسكرية والنظام القديم سيضمن لهم سيطرة نهائية على الحراك الشعبي مرة واحدة وإلى الأبد، إلا أن ظهور موجات جديدة من الاحتجاجات يثبت أن هذا الحراك الشعبي الذي بدأ قبل 8 سنوات لا يزال ملتهبا، ولن ينتهي قريبًا.

وشدد التقرير على "أن الدعم الغربي للأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط قصير النظر ويمثل فشلاً في التعلم من أخطاء الماضي، على الرغم من أن بعض تلك الأنظمة العربية الاستبدادية قد تبدو مستقرة، إلا أنها ذات أسس هشة، ما يجعلها عرضة للانهيار المفاجئ، ويفتح الطريق أمام انتشار الفوضى في المنطقة".

ورصد تقرير "فورين بوليسي" الموجة الثانية من الربيع العربي في الجزائر واحتجاجات العاصمة وغيرها من المدن في جميع أنحاء البلاد مثلما حدث في مصر 2011، للاحتجاج على ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، وعلى الفساد المستشري في البلاد.

ويشدد تقرير المجلة الأمريكية على أنه "ربما يكون الربيع العربي قد خفت في مصر واليمن وليبيا بفعل خليط من القمع والعنف، فضلا عن التدخل الإقليمي والدولي غير المسبوق، إلا أن الشعوب العربية لا تزال قادرة على إيجاد طرق سلمية للتعبير عن غضبها، ولن تجدي محاولات التخويف التي تمارسها السلطات لمنعهم من المطالبة بحقوقهم".

ويختم التقرير بتأكيد أن "العرب يواصلون البناء على الموجة الأولى من الانتفاضات العربية في 2011، ويبقى الحراك الشعبي السلمي هو الخيار الوحيد المتاح لمواصلة النضال من أجل الديمقراطية في المنطقة، وسوف تستمر الثورة المضادة في العالم العربي في فقدان قوتها وستنهار في نهاية المطاف تحت وطأة هذه الحركات".

الموقف الغربي

يشير رصد وتحليل الموقف الأوروبي والأمريكي تجاه الحراك الجزائري إلى أن الخيارات التي تفضلها هذه الأطراف كانت تصب في صالح خيار بقاء بوتفليقة أو سيطرة الجيش على الأوضاع، ولكنهم حين اضطر بوتفليقة أو من يحكمون باسمه إعلان الغاء العهدة الخامسة، أعلنوا أنهم مع البيان.

فقد جاءت تصريحات المسئولين الفرنسيين والأمريكيين خصوصا (وزير الخارجية الفرنسي[13]، جان إيف لو دريان والمتحدث باسم الخارجية الأمريكية[14] روبرت بالاديانو)، لتؤكد متابعتهم "عن كثب" و"باهتمام" الاحتجاجات المناهضة للحكومة في الجزائر، والحديث عن حق الجزائريين في تحديد مستقبلهم دون محاولة استفزاز.

وأثار تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المرحب بقرار تأجيل الانتخابات الرئاسية ودعوته الرئيس بوتفليقة لفترة انتقالية بمهلة معقولة، جدلًا واسعًا في البلاد، وردود أفعال قوية من قبل نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وأحزاب من المعارضة نددت بما وصفته "التدخل الفرنسي في الشؤون الداخلية للجزائر"[15].

وعجّت مواقع التواصل الاجتماعي بمئات التعليقات المندّدة بتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والرافضة للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للجزائر.

وعبّر الجزائريون في المسيرات المليونية السلمية الثلاث التي شهدتها البلاد، عن رفضهم للتدخل الخارجي في الجزائر، من خلال رفع شعارات عديدة على غرار "زيتنا في دقيقنا" وغيرها من اللافتات المعبرة.

وقال تقرير مجلة فورين بوليسي[16] أن موجة الاحتجاجات في الجزائر والسودان تمثل فرصة للزعماء الغربيين لإعلان دعمهم للحراك الشعبي في البلدين، وتعويض مواقفهم السابقة المؤيدة للثورة المضادة.

وأوضحت أن "الدعم الغربي للأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط قصير النظر ويمثل فشلاً في التعلم من أخطاء الماضي، رغم أن بعض تلك الأنظمة العربية الاستبدادية قد تبدو مستقرة، إلا أنها ذات أسس هشة، ما يجعلها عرضة للانهيار المفاجئ، ويفتح الطريق أمام انتشار الفوضى في المنطقة".

وقالت فورين بوليسي "إن عدم اتخاذ موقف حازم تجاه الحكام الدكتاتوريين في المنطقة يضر بشدة بهذه الاحتجاجات الشعبية السلمية، ويشكك في مصداقية التمسك الغربي بالقيم الديمقراطية والأخلاقيات الأساسية، ويقوض استقرار المنطقة".

وأنه "ينبغي على القادة الأوروبيين التأكيد على أهمية العدالة وحقوق الإنسان كشرط لاستمرار العلاقات العسكرية والاقتصادية القوية، فقد ثبت أن مبيعات السلاح للأنظمة الاستبدادية لا تساهم إلا في مزيد من تأزيم الوضع السياسي والاقتصادي في المنطقة لتمكينها من المزيد من الانتهاك لحقوق الإنسان، كما جرى في مصر من استخدام للأسلحة الفرنسية في مواجهة الاحتجاجات السلمية، واستخدام القوات السعودية والإماراتية للأسلحة الأمريكية لتدمير اليمن".

ووجه تقرير "فورين بوليسي" انتقادات عنيفة للقادة الأوروبيين الذين حضروا «قمة الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية» في شرم الشيخ وجلسوا مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رغم الانتهاكات الواضحة والواسعة المدى لحقوق الإنسان، قائلا: "لم يلمح أي من القادة الأوروبيين في فبراير إلى أي تناقض بين القمع الواسع الذي يمارسه مضيفهم (السيسي) وبين ما تدعو الدول الأوروبية الالتزام به من قيم الحرية والديموقراطية".

ووصف التقرير مشاركة قادة الاتحاد الأوروبي في القمة بأنه "ببساطة بمثابة غطاء سياسي للسيسي، الذي يسعى إلى إثبات أنه حتى فى الوقت الذي يتعرض فيه نظامه للانتقاد الشديد بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، فإنه ما زال يتمتع بدعم الحلفاء الدوليين البارزين"، وانتقد تبرير السيسي انتهاك نظامه لحقوق الإنسان، بادعائه تقبله للمعارضة السلمية، وأن مصر لها «ثقافة خاصة» لحقوق الإنسان.

سيناريوهات المستقبل

عام 1988 انطلقت تظاهرات عارمة في الجزائر، أدت إلى الإطاحة بالرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وسيطرة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" على المقاعد الانتخابية في انتخابات حرة على غرار الربيع العربي الذي تلاها.

ولكن في ديسمبر/كانون الأول 1991، ألغى الجيش الجزائري نتائج الانتخابات، خاصة بعد ما أظهر بعض الإسلاميين تسرعا متطرفا في التغيير والتشريع أقلق باقي القوى السياسية والغرب، ودخلت البلاد في نفق مظلم، بعدما اندلعت أعمال عنف واسعة، خلفت مئات الآلاف من القتلى والمصابين والمفقودين، ودمارًا هائلاً في الاقتصاد، وعُرفت تلك الحقبة بـ "العشرية الحمراء أو السوداء".

ويتشابه الحراك الجزائري الحالي – رغم اختلاف الأجيال واعتدال مطالب القوى الإسلامية – مع أزمة 1988، ما يطرح تساؤلات حول المستقبل وهل يكرر الجيش الموقف ذاته ويصر على اختطاف السلطة وفرض بوتفليقه أو مرشح عسكري أو مدني بعينه، أم يتعظ من عشرية الدماء الأولى ويبتعد عن دفع ضريبة الدم مرتين، ويقبل بانتخابات حرة ويضمن صورة وطنية للجيش باعتباره امتداد لجيش التحرير من الاستعمار الفرنسي كما قال رئيس الأركان؟

ورغم إعلان "بوتفليقة" عدم ترشحه وتأجيل الانتخابات، تنتظر الجزائر خلال الأيام القادمة، سيناريوهات وخيارات مفتوحة أخطرها محاولة الالتفاف على مطالب الشعب واستمرار تمسك السلطة بإحضار بديل لبوتفليقة وبقاء نفس النظام السياسي، أو رضوخ السلطة لمطالب الشعب، بإجراء انتخابات جديدة تسمح ببعض التغيير ولو جزئيا في الحياة السياسية، أو استمرار التسويف وإطالة الفترة الانتقالية بما يجعل بوتفليقة يستمر في الحكم بفترة رئاسية خامسة دون انتخابات، أو انقلاب عسكري.

وضمن سيناريو سعي الحزب الحاكم لحيلة استغلال تأجيل الانتخابات في تمديد ولاية بوتفليقة الرابعة الحالية بدون انتخابات، للحصول على المزيد من الوقت لترتيب بديل لبوتفليقة، وبقاء الأوضاع على ما هي عليه، هناك أسماء متداولة منها "عبد المجيد تبون"، الوزير الأول الأسبق، الذي يحظى ببعض الشعبية، وربما شقيق الرئيس (سعيد بوتفليقة) الذي سيكون ورقة اللحظة الأخيرة، لأنه لا يحظى بتأييد معظم القوى السياسية.

وفي كل الاحوال سيظل الجيش يدير الأوضاع من وراء الستار، وقد يظهر سيناريو تدخل الجيش إذا انفلتت الأمور في حالة الحراك الشعبي المتزايد.

ويري الباحث الجزائري "عبد الإله بن داودي" في دراسة نشرها معهد واشنطن[17] سبتمبر/أيلول 2018، أن هناك قوتين ستحسمان اختيارات المرحلة المقبلة.

ويقول إن النظام السياسي الجزائري يقوم في شرعيته منذ الاستقلال على ديناميكيتين حاسمتين لموازنة القوة:

(الأولي): أن الرئيس (أي رئيس من الرؤساء السابقين حتى بوتفليقة) ظل يستمد الجزء الأكبر من مصداقيته من دوره في حرب الجزائر من أجل الاستقلال ومشاركته فيها.

(الثانية): تقاسم السلطة بين "جماعة تلمسان" في غرب الجزائر التي ينتمي لها الرئيس الحالي بوتفليقة، و"الجماعة الشرقية"، التي غالبا ما يمثلها جنرالات الجيش الكبار، وهما جماعتان تقسمان كافة شرائح الشعب الجزائري الرئيسية، ويجري تقسيم الحصص الحكومية والسلطة عليهما دائما.

وهذه القواعد في تقسيم السلطة تمثل حاليا أزمة كبيرة خاصة لو غاب بوتفليقة عن السلطة، لأن معظم المحاربين القدامى الذين قاتلوا ضد الفرنسيين قد ماتوا، ما يعني أن الرئيس المقبل لن يكون من المشاركين في حرب التحرير، وأي رئيس من جيل ما بعد الاستقلال سيفتقر إلى الشرعية الموضوعية والمصداقية التي يملكها بوتفليقة حاليًا.

وهذه الضبابية وعدم بقاء القواعد السابقة على طبيعتها هي سبب أزمة السلطة الحالية، وربما تؤدي لإدخال البلاد مرحلة جديدة من ترتيبات السلطة سواء باستحضار بديل ينتمي ولو ظاهريا لجيش التحرير الجزائري، أو بقفز الجيش عليها مباشرة باعتباره وريث "جيش التحرير" كما حاول رئيس الأركان الإشارة بذلك للمحتجين، أو أن تدخل البلاد صدامات وربما عشرية سوداء ثانية.

وهو ما يعني أن المستقبل أو السيناريو القادم سيظل معلقا بالتالي إما بتجاهل مطالب الشعب والقفز عليها، أو الاستجابة الكاملة لها أو الوصول لحلول توافقية تضمن حرية الشعب الجزائري وبقاء دور للجيش في الحياة السياسية.

من ينتصر .. الشعب أم الدولة العميقة؟

جاء إعلان الرئيس بوتفليقة أنه "لا محلَّ لعهدة خامسة بل إنني لـم أنْوِ قط الإقدام على طلبها حيـث أن حالتي الصحية وسِنّي لا يتيحان لي سوى أن أؤدي الواجب الأخير تجاه الشعب الجزائري"، بمثابة انتصار جزئي للحراك الجزائري، ويبقي نتائج هذا "الواجب الاخير" وطريقة الانتخابات وشخصية الرئيس المقبل لتحسم الانتصار الكلي للثورة.

فالقرارات الصادرة من طرف الرئيس الجزائري هي انتصار جزئي للشعب، ولكنها لم تجب على مطالب الشعب المؤجلة إلى المرحلة الانتقالية، والتي يُخشي أن تكون التفاف حول مطالب الشعب بشأن انتخابات وديمقراطية حقيقية، وتبقي حصانة ضمان نجاح الحراك في نهاية المطاف هي في استمرار الحراك كلما تطلب الأمر.

أما على مستوى الربيع العربي فقوى التحرر كسبت حتى الآن جولة كبيرة ضد قوى الاستبداد والفساد والثورة المضادة، وحسم الصراع سيكون للأكثر قدرة على المناورة وعدم الانسياق وراء تطرف في المطالب أو تفتيت للحراك الشعبي السلمي.

فما تشهده الجزائر وكذلك السودان هو موجة جديدة من الربيع العربي الذي ثبت أنه لم يموت رغم عتو الثورة المضادة، وحراك الجزائر يرسل رسائل تحدي عدة لقادة محور الثورة المضادة والدول الغربية التي وقفت ضد الربيع العربي الأول.

والتوسع في مهام الجيش في الجزائر والسودان، وعدم الإنصات لأصوات الشعب سيكون تكرار لأخطاء الربيع العربي الأول ويقود إلى جفاف سياسي في الحياة السياسية لأنه لا يترك فرصة للنخب لتمارس أدوارها بحرية، ويمكّنها من التأثير على توجهات المواطنين بطريقة منظمة، وقد يدفع استمرار فرض الجيش وصايته على الشعب إلى موجات عنف.

وفي ظل تحفز شعبي وتذوق لطعم الحرية في الربيع العربي الأول، لا مفر من الإنصات لصوت الشعب ولا مجال للالتفاف على مطالبه المشروعة المتمثلة في سحب الترشح للعهدة الخامسة وقطع الصلات مع المسلك السياسي المتقادم، من أجل التوافق الوطني، بما يفضي إلى إفساح الميدان لبناء جمهورية جزائرية جديدة قوامها الديمقراطية والحرية التي كانت هي هدف تضحيات شعب المليون شهيد.