جاد الحق.. شيخ للأزهر صرخ في وجه حاكم مستبد

محمد ثابت | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

وقف الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي على قبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق يبكيه ويدعو له، كوصيته قبل وفاته فقال: لقد علمنا الشيخ، رحمه الله، ألا نُعصرن الدين بل نُدين العصر. في إشارة إلى تمسك الشيخ جاد الحق بالحق والصدق وصميم الإسلام حتى آخر أنفاسه رغم الإغراءات التي تعرض لها كشيخ للأزهر.

قال عنه الشيخ يوسف القرضاوي، حفظه الله: "لم ينزلق جاد الحق بالأزهر إلى الفتاوى، التي زلّت فيها أقدام آخرين، وحافظ على كرامة الأزهر ومجمع بحوثه، الذي يمثل السلطة العليا للفتوى في الشئون الإسلامية في مصر، وكان متعاونا مع العاملين في الحقل الإسلامي، واقفا كالصخرة الصماء في وجه العلمانيين والمتغرّبين الذين يريدون أن يسلخوا الأمة من جلدها، وأن يبعدوها عن شريعة ربها، فلم تلن قناته في مواجهتهم، وتحدي أباطيلهم".

عاش جاد الحق، رحمه الله، عزيز النفس، نزيه الروح، حريصًا على أن تكون أفكاره مناسبة لصميم الدين، وإن كلفته ثورة عارمة على تلميذه السابق، الذي صار رئيسًا للجمهورية آنذاك محمد حسني مبارك، بل حتى لو اقتضى الأمر الصراخ في وجه رجل كان يعد نفسه ليس رئيسا للجمهورية فحسب، بل أحد الفراعنة الحكام حتى خلعه الشعب لاحقًا.

في صبيحة يوم الجمعة 25 من شوال 1416هـ الموافق 16 من مارس/آذار من عام 1996، غادر دنيانا آخر شيوخ الأزهر الثائرين حتى الآن، وفي ذكراه الثالثة والعشرين، نستعيد مجموعة من أدق مواقفه وأسرار حياته، مما قد تغفل عن أجيال مواكبة لحياته ولاحقة عليها، وتحتار من مواقف علماء الدين الموالين للسلطان اليوم على طول الخط.

الزهد يهدي للشجاعة

يوم مات الشيخ كان عمره 79 عاما، إذ وُلِدَ في 5 من أبريل/نيسان 1917 بقرية بطرة التابعة لمركز طلخا بمحافظة الدقهلية شمالي مصر، ولكنه كان يصر على صعود شقته في حي المنيل بالقاهرة حتى الدور الخامس حيث يقيم، رغم مرض قدميه وإصابته بالقلب، وما يمثله صعود خمسة أدوار من صعوبة شديدة على حياته، وفي يوم الجمعة التي توفى فيها، صعد على قدميه فأصابته أزمة قلبية لم يتم إسعافه منها بالسرعة اللازمة.

كان الرجل يومئذ شيخا للأزهر بدرجة رئيس وزراء، إلا أنه لم يكن يعيش إلا على الكفاف فحسب، رافضا جميع المكافآت والبدلات والعلاوات، أو الانتقال لشقة أوسع وأحدث، أو مجرد تركيب مصعد ليصل إلى شقته في هدوء وسلام.

وحتى لا تصيبه شائبة تكسب من منصبه كان الشيخ يرفض مجرد تقاضي مقابلا عن كتبه وأبحاثه القيمة، ومن هنا جاءت واستمرت عزة نفس الشيخ بنفسه، وبالتالي تقديره واعتزازه ومناصرته لدينه ووقوفه أمام أدنى بادرة لتحريفه أو تغير أساسياته، أو القبول بالاجتراء على المسلمين وظلمهم.

لقمة الشيخ الراحل، رحمه الله، التي كان يأكلها من عرق جبينه فحسب، كانت تجبر الجميع على احتمال، وعدم الاعتراض على ثوراته لتجديد دور الأزهر والإعلاء من شأن الدين، فالجميع بداية من رئيس الجمهورية يعرفون أنه لا يتقاضى إلا أقل القليل الذي يبقيه على قيد الحياة هو وأبنائه، وبالتالي فلا يستطيع أحدهم، مهما بلغ أو بلغت منزلته، الاعتراض أو الوقوف في وجه الشيخ.

من كفر مصيلحة للرئاسة

يروي الإعلامي تهامي منتصر، المذيع في البرامج الدينية بالتلفزيون المصري بالثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، أن الشيخ بعد حصوله على العالمية من كلية الشريعة بتقدير ممتاز، عمل وكيلًا للنيابة بدائرة القضاء الشرعي عام 1946، حتى صار قاضيًا شرعيًا في محكمة شبين الكوم ورئيسًا لها، في فترة عرفت مصر فيها المحاكم الشرعية، قبل إلغائها على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

وكان على الشيخ أن يعمل في قضاء دائرة شبين الكوم الشرعية أيام السبت والأحد والإثنين، ولصعوبة المواصلات بين القاهرة، حيث كان يقيم، وبين المنوفية اقترح السيد حسني مبارك، والد الرئيس المخلوع، تأجير دار للشيخ في كفر مصيلحة، على بعد أكثر من كيلو ونصف الكيلومتر بقليل من المحكمة حيث يعمل الشيخ نصف الأسبوع، وهو ما وافق الأخير عليه.

وخلال فترة مكوثه في قرية كفر مصيلحة لاحظ الشيخ أن الطالب حسني مبارك شديد الضعف في اللغة العربية فدرّس له، حتى ارتقى بمستواه فيها مما أهله للكلية الجوية لاحقا.

وخلال 6 سنوات هي فترة عمل الشيخ في شبين الكوم كان على السيد مبارك استئجار حمار لنقل الشيخ عليه صباحا ومساء لمقر عمله، وكان يقود لجام الدابة والد مبارك مقابل 75 قرشا شهريا كأجرة للحمار!، تعمد مبارك لاحقا إخفاء هذه المعلومات لأسباب تخص تنكره لنشأته وتكوينه.

وبعد حين تم إلغاء القضاء الشرعي ليعود الشيخ للعمل في القضاء المدني بالقاهرة حتى صار مستشارا في المحكمة العليا للاستئناف عام 1976م، بعد أن ألف اثني عشر كتابا مهما تعد جميعها مراجع للعاملين في القضاء.

عام 1976م كان قد مضى عامان على تعيين مبارك نائبا للرئيس آنذاك محمد أنور السادات، فطلب والد مبارك من الشيخ جاد الحق أن يتمنى ويطلب منه أي شيئ ينفذه له، وهو ما رفضه الأخير تماما، لكن مبارك نجح في جعله مفتيا للديار المصرية، من أغسطس/آيار 1978م حتى يناير/كانون الثاني 1982م، حين عينه مبارك بعد حكمه لمصر وزيرا للأوقاف، وظل الشيخ بمنصبه الأخير لأشهر قليلة حتى فرغ منصب شيخ الأزهر بوفاة الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار، رحمه الله، فعين مبارك الشيخ جاد الحق شيخا للأزهر.

فتوى فوائد البنوك

كان من المفترض أن يكون شيخ الأزهر من أعضاء مجمع البحوث الإسلامية، أو المجلس الأعلى للأزهر، أو أساتذة الجامعة، ولم يكن الشيخ من كل أولئك، ولكن تاريخ الشيخ العملي والقضائي شفعا له بعد اعتذار الشيخ الشعراوي عن منصب شيخ الأزهر، ومدحه الشيخ جاد الحق مما أجهض أي اعتراض على تعيين الأخير(2).

وكان جاد الحق عند حسن توقع الجميع له، فلما ثارت إشكالية فوائد البنوك، ورأى بعض مستشاري مبارك إصدار فتوى من الأزهر تبيح وتجيز فوائد البنوك، هنا قال مبارك للشيخ:

ـ نريد منك فتوى تحل فوائد البنوك يا مولانا.
 فقال الشيخ على الفور:
ـ أنا لا أحلل أو أحرم .. وإنما الدين هو الذي يحلل ويحرم.
 فأراد مبارك إحالة الأمر إلى مزحة فقال:
ـ أنا كنت بأهزر معك يا مولانا.
 فاحتد الشيخ قائلا:
ـ الدين ما فيهوش هزار.. مش كده يا سيادة الرئيس!
 فاحمر وجه مبارك، الذي لم يكن يعرف اعتراض أحد لا صراخه فيه (إلا القليل من أندر النادر)، وصمت.

ثائر في طريق الله

لاحقا امتد نهج الشيخ الثوري وبلغ أوجه في مواقف، منها موقفه من المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد في القاهرة، بضغط غربي، في الفترة من 5 حتى 13  سبتمبر/أيلول 1994، حيث رفض الشيخ وثيقته بإباحة الشذوذ الجنسي والحمل بدون زواج (الزنا)، والإجهاض، وجمع مجمع البحوث الإسلامية في حالة دائمة، وأصدر بيانًا شديد اللهجة في الأمر مطالبًا المؤتمر بتعديل صياغة مشروعه وضبط عباراته بما يوافق الشريعة الإسلامية، مما أجبر رئاسة الجمهورية على أخذ موقف مماثل.

كما رفض الشيخ مقابلة رئيس دولة الكيان الصهيوني الأسبق عيزرا وايزمان وقت زيارته للقاهرة، مما سبب إحراجا شديدًا للحكومة وقتها، كما رفض سياسة التطبيع مع الإسرائيليين، وأيضا رفض زيارة القدس مؤكدا عروبتها قائلا: "من يذهب للقدس من المسلمين آثم آثم، والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه للقدس حتى تتطهر من دنس المغتصبين"، وواصفا الاحتلال الإسرائيلي بـ"الكيان الصهيوني أو دولة الاحتلال"، معلنا تأييده للانتفاضة الفلسطينية والعمليات الاستشهادية.

وعندما جرت وقائع إبادة المسلمين في البوسنة والهرسك أعلن أنها حرب إبادة صليبية، ونادى بمؤتمر في الجامع الأزهر لمناصرة مسلمي البوسنة والهرسك.

مؤلفات وجوائز وأوسمة

من مؤلفات الشيخ: الفقه الإسلامي مرونته وتطوره، بحوث فتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، رسالة في الاجتهاد وشروطه، رسالة في القضاء في الإسلام، مختارات من الفتاوى والبحوث، النبي في القرآن الكريم، هذا بيان للناس كتاب في جزأين صدر عن الأزهر الشريف، وبحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة في 4 مجلدات ضخمة.

كما أشرف الشيخ بنفسه على تنظيم عدد من المؤتمرات للحفاظ على هوية الأمة الإسلامية من الغزو الفكري وتبعاته.

ونال، رحمه الله، عام 1983م "وشاح النيل"، أعلى وشاح تمنحه الدولة للمكرمين، بمناسبة العيد الألفي للأزهر، وكرمته دولة المغرب بمنحه وسام الكفاءة الفكرية والعلوم من الدرجة الممتازة، كما نال جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام والمسلمين عام 1995م، وهي التي بنى بها مجمعا إسلاميا ضم مستشفى ومعهدا دينيا بمسقط رأسه في قرية طرة .. حيث دفن رحمه الله لاحقا.

الكلمات المفتاحية